حالما علم بإصابة صديقه المقرب في حادث سير هرع إليه مقدماً الدعم المطلوب لأسرته، ولكن اجتاحته اضطرابات جسدية غامضة ما إن عبرت قدماه باب المستشفى.
تسارعت ضربات قلبه، وشعر بضيق في التنفس، وبدأ العرق يغزو جبهته.
هذه كلها أمور لم يلق لها صديقي الصحافي محمد فاروق بالاً على الرغم من قسوتها. برر مشاعره تلك بأنها مجرد قلق على صديقه، أو ربما إرهاق إذ لم يكن قد نال قسطاً كافياً من النوم كعادته. ولكن ما إن وقف على باب الغرفة، حتى سقط مغمىً عليه. ثم وجد نفسه مستلقياً على فراش يجاور صديقه المريض.
لم يكن ما سبق موقفاً عابراً في حياة فاروق، ولكنه أصبح فوبيا تطارده كلما مرّ قرب مستشفى.
فوبيا المستشفى وأمي
يتساءل سيث جي جيليهان، في مقال نشره موقع "سايكولوجي توداي": "من أين تأتي المخاوف والفوبيا؟" ويكتب: "يعاني ملايين الناس من القلق حتى الإنهاك، والفوبيا هو اضطراب القلق الأكثر شيوعاً".
ويتساءل أيضاً: "من يتحمل مسؤولية مخاوفنا؟ هل مقدر لنا أن تكون لدينا مخاوف على أساس الجينات الموروثة أم هي متأتية من تجاربنا؟".
يعاني ملايين من الناس من القلق حتى الإنهاك، والفوبيا هو اضطراب القلق الأكثر شيوعاً، فمن أين يأتي؟ ولماذا يستجيب أفراد دون آخرين للأحداث السيئة في حياتهم بطريقة مرضية؟ ولماذا لا يسعون إلى العلاج؟
استعرض جيليهان في مقاله بيانات دراسة، أشار مؤلفوها إلى أن الناس تختلف في ردود الأفعال تجاه الأحداث المخيفة. فبعضنا تنتابه مشاعر خوف، وآخرون لا يتأثرون بأي حدث.
أما فاروق فلم يكن يعرف أنه مصاب برهاب المستشفيات أو Nosocomephobia إلا عندما مر بالمستشفى، وتكررت مشاعره السلبية كثيراً، مما عرضه أحياناً للمشكلات والسخرية.
في البداية، حاول مقاومة شعوره، وأصر على زيارة المستشفيات إذا ما تطلب الموقف ذلك، يقول: "في كل مرة كنت أشعر بتغيّر في ضربات القلب، وضيق في التنفس ينتهي بالإغماء، فأصبح عبئاً على من معي، بدلاً من أن أكون سنداً، لذلك قررت تجنب الوجود في المستشفيات تماماً".
ذات مرة، اضطر فاروق للجلوس في مقهى مجاور لأحد المستشفيات، بينما كانت زوجته تضع مولودهما، مما حرمه من حمل طفله فور قدومه للدنيا، وانتظر حتى خروجهما من المستشفى.
وحين قرر الأطباء أن تعالج والدته بجلسات العلاج الكيمائي، اضطر للاستعانة بصديقة لتصاحبها بدلاً منه، وكان هو ينتظرهما بالخارج، وكم كان ذلك قاسياً عليه.
لم يستطع فاروق معرفة سبب إصابته برهاب المستشفيات، ولم يفكر حتى في البحث عن علاج له، لأن مجرد التفكير في الأمر يزعجه إلى حد كبير. لذلك اكتفى بتجنب الذهاب إلى المستشفى، واستبداله بعيادات الأطباء عند الاقتضاء.
والرهاب أو الفوبيا واحد من أشهر الاضطرابات النفسية، التي تؤثر بالسلب على حياة المصابين بها. ورغم انتشاره بشكل واسع في المجتمع المصري ليس هناك إحصاءات تتعلق به.
يعاني 25% من المصريين من الاضطرابات النفسية وفق المسح القومي للصحة النفسية عام 2018. وهذا يعني أن لدى واحد من أربعة اضطراباً نفسياً.
يرجع معظم المصابين بالفوبيا مشاعرهم المضطربة إلى تجارب في مراحل الطفولة، هذا ما تتذكره اللبنانية المقيمة في دبي، غالية.
"جدتي شوهت شعري"
غالية، التي تتمتع بقدر كبير من الجمال، تخاف قص شعرها، كما أنها تصاب برهاب مفاجىء إذا ما شاهدت فتاة تقص شعرها، أو تقصره. وكثيراً ما تدخل في حالة بكاء غير مفهوم للمحيطين، إذا ما صادفت ذلك في صالون التجميل.
تحكي لرصيف22 عن تجربتها مع رهاب قص الشعر: "عندما كنت طفلة أصيبت أختي الصغرى بتعب مفاجئ استمر بعض الوقت ، فلم تجد والدتي حلاً إلا سفري من ضيعتنا للإقامة عند جدتي في العاصمة، حتى تستطيع العناية بأختي المريضة. ولأن جدتي تكره تصفيف شعري، فكانت تخدعني، وتقول لي: "تعي اظبطلك شعراتك"، وتجمع شعري بربطة، وتقصه فجأة، فيتشوه منظره، ثم تضطر لاصطحابي إلى صالون المزيّن كي تنقذ ما يمكن إنقاذه".
وتضيف: "برغم ألمي وبكائي، كانت تكرر الموقف نفسه دون أي اهتمام بمشاعري حتى تأزمت نفسياً، وصرت أكره الشعر القصير إلى حد الفوبيا. إذا ما صادفت فتاة في أي مركز تجميل، تطلب قص شعرها أتدخل على الفور، وأبذل كل جهدي لإقناعها بعدم الإقدام على ذلك لأني أراه جريمة. وإذا ما أصرت على فعلتها، أدخل دون وعي في حالة بكاء شديد، وأترك المكان. وأحياناً تتسارع ضربات قلبي، وأشعر بضيق في التنفس وأبكي".
غالية لم تفكر في اللجوء لطبيب نفسي، واكتفت بإطالة شعرها لكي تعوض ما فعلته جدتها، فشعرها كما قالت: "غالي عليّ كتير".
فوبيا البالونات
وفاء (اسم مستعار) في منتصف العشرين من العمر، تسكن في أحد أحياء القاهرة، وتعاني من فوبيا البالونات منذ عامين. تحكي عن تجربتها: "منذ عامين، أُصبت بحالة هلع شديد بعدما رأيت رزمة من البالونات، وتسارعت ضربات قلبي، وانتابني بدوار وضيق في التنفس. لم تنتهٍ تلك الأعراض إلا لدى ترك المكان".
وتتابع: "الأمر قد يبدو تافهاً لدى البعض، لكنه مؤلم جداً بالنسبة لي، خصوصاً أنني أم لطفلة عمرها ثلاثة أعوام، تريد كغيرها من الأطفال اللعب بالبالونات، وهذا يؤذيني نفسياً، ومع ذلك لا أريد أن أحرمها من متعة تسبب لها السعادة. لذلك أستعين بأحد ما ليبقى معها لدى اللعب بالبالون وأدخل غرفتي، وأغلق الباب. وبرغم وجودي في مكان منفصل، أشعر بضيق في التنفس لعجزي عن مشاركة طفلتي في متعتها".
أم لطفلة تعاني من فوبيا البالونات، وشاب لزوجة حامل وأم مريضة يعاني من رهاب المستشفيات، ورغم تأثر حياتهما بالمرض، وتذكر تفاصيله وحكاياته، إلا أنهما يصران على عدم العلاج، رغم أنه يمكن ألا يستمر أكثر من بضع ساعات
البالونات كانت سبباً لفرحة وفاء سابقاً، إذ كانت تبتهج كثيراً إذا ما جاءتها هدية.
ولكن ما الذي حول الأمر من البهجة إلى الفوبيا؟
ترد وفاء: "البالونات كانت شريكة أساسية في حياتي، ففي عيد ميلاد طفلتي الأول قررت مع أبيها أن نحتفل به احتفالاً مبهراً، فملأنا المنزل بالبالونات الملونة. وبعد الاحتفال بيومين أذكر أن والدها جذب بالوناً من السقف و"فرقعه" فأحدث ضجة، ضحكت لها طفلتي، ورحنا معاً نجذب البالونات و"نفرقعها" في مشهد صار محفوراً في ذاكرتي".
وتضيف: "لاحقاً أصبحت مطلقة، ولدي طفلة صغيرة كلما وقعت عيناي على البالونات تذكرت المشهد، وتذكرت حياتي السابقة، وأدركت أن كل ما عشته من سعادة كان مجرد كذبة انتهت بألم شديد".
أسألها: هل فكرت في العلاج؟
تجيب: "فكرت كثيراً لأن الأمر مؤذٍ بشكل لا يتصوره أحد، ولكنني لم أقدم على الخطوة بعد لأسباب كثيرة لا أريد التحدث عنها".
القصة غير كاملة
يؤكد الدكتور محمود الحبيبي، أستاذ مساعد الطب النفسي بجامعة عين شمس، أن الفوبيا أو الرهاب هو خوف غير مبرر ومبالغ فيه، وغالباً يكون ثمرة مواقف ليس من المنطقي الخوف منها.
ويشير إلى أن الفوبيا من الأمراض التي يرتبط ظهورها بالبيئة أو التربية بنسبة خمسين في المائة. فكثير من المصابين بالفوبيا قد تعرضوا لمواقف سخيفة أو مؤذية نفسياً في الصغر، سواء بالتعلم أو المشاهدة أو السمع.
"هناك عائلات لديها فوبيا مثلاً من الدم أو الغرباء".
ويضيف: "كذلك تساهم العوامل الوارثية في ظهورها بنسبة خمسين بالمائة، فهناك عائلات لديها فوبيا مثلاً من الدم أو الغرباء، وهذا راجع للجينات الوراثية".
وينصح الحبيبي، في حلقة أذاعتها قناة "سي بي سي"، كل من يشعر بإصابته بفوبيا من أمر ما باسترجاع مواقفه القديمة معها لمعرفة السبب. ثم يبدأ في مواجهة مخاوفه تدريجياً، فالتجنب يزيد من الفوبيا ولا يقضي عليها كما يعتقد البعض.
أما جي جيليهان فيشير في مقاله المذكور آنفاً إلى أن التفسيرات الواضحة لمخاوف الشخص قد لا تكون صحيحة، أو على الأقل، ليست كاملة، فعندما نفسر مخاوف شخص من الماء بناءً على تجربة مفزعة في الطفولة، نفسر جزءاً واحداً فقط من القصة، ولكننا لا ندرك ما التجربة التي عززت ميل الشخص إلى تطوير المخاوف إلى حدٍ مرضيّ.
ما يثير الدهشة أن كثيراً من المصابين يرفضون العلاج، ويتذكرون مواقفهم المسببة للفوبيا ويروونها، وكأن في هذا "المرض" سراً خاصاً يخلق جاذبية تخص مصابيه، وتضعف مقاومتهم له رغم تأثيراته السلبية على حياتهم وحياة أحبائهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون