مؤخرًا، كنت جالسًا مع اثنين من أصدقائي في إحدى المقاهي التي اعتدنا أن نجلس فيها بوسط البلد أثناء ثورة 25 يناير 2011، ولكن المشهد هنا جاء مختلفًا بشكل جذري، كل مجموعة تجلس حول نفسها، طريقة جلوس أفرادها تشبه زهرة مُغلقة تخشى من الانفتاح، وكأنّها تُحارب النّسمات ألّا تخترقها، وتأخذ وريقاتها وتطير. شاب صحفي 28 عامًا متزوج، وصحفية غير متزوجة 30 عامًا، أحاديث عن أشياء غامضة متعلقة بالحياة والوظائف، جاء شاب في بداية العشرين، قال لنا بصراحة صادمة: "ممكن اقعد معاكم.. أنا في القاهرة لوحدي وما اعرفش حد". استاؤوا منه، وأفهموه بغلظة أنها جلسة خاصة وليست مشاعًا. حدثٌ عادي، قد يمرّ مرور الكرام، ولكنه بالنسبة لمن عايش أحداث ثورة يناير يبدو غريبًا. تحدثتُ معهما، كلاهما اختبر تجربة "الثورة"، كيف كانت تجمّعاتنا حول المقاهي، رغم ضربات النار، والقتلى، والإصابات، كيف كنا نفرح، ونغني، ونرحب بشخصيات مجهولة، وكيف تندمج تلك الشخصيات معنا كما لو كنا من أسرة واحدة، وأصدقاء السنين.
التمرد على السلطة الأبوية والسياسية والدينية
لقد اكتشفنا الحرية ونحن في ميدان التحرير، نعم. وكانت صدمة، نعم هذا ممكن، التمرد على السلطة الأبوية والدينية والسياسية مرة واحدة ممكن، رغم تحفظ العائلات على خروج أبنائها لميدان التحرير خرجنا، رغم تحريم التظاهر ضد مبارك من قبل البابا شنودة وشيخ الأزهر خرجنا، رغم كل الاحتمالات السوداية للاعتقال والحبس والتجريد من الوظائف خرجنا. بالنسبة لي التقيت بكثير من أصدقائي في الأدب والمسرح والسياسة هؤلاء الذين تعرفت إليهم في الجامعة طوال أحداث الثورة، وكأنّ كل ما يفرق بيننا وبين أحبائنا وأصدقائنا، كل الآراء السياسية والطبقة الاقتصادية والوظائف والدين وهم وماتريكس، كأن الفواصل لم تُخلق، جو من الفرحة والبهجة والمشاركة، وحفرت تفاصيل أحداث الثورة مشاهد لا تزال قادرة على الإلهام.لن أنسى تلك الطريقة في مجاورة المخيمات، مخيم لشباب يعيشون بطريقة تشبه الهيبيين، يذهبون يدخنون الماريجوانا ويسكرون ثم يعودون للمخيم ويقضون ليلهم في سكر ورقص وغناء، وبجوارهم ليس بعيدًا رجل يقرأ القرآن، وعند أذان الفجر أثناء اعتصامات ما بعد يناير، التي نادت بإسقاط المجلس العسكري، انقسم الفجر في ميدان التحرير لفجرين، فجر كان يعزف ويغني للشيخ إمام وفيروز وتراثيات، والفجر الثاني يصطف للصلاة، كان اختلاط صوت الإمام بآيات القرآن، بأصوات الضحك والغناء ساحراً ومعجزاً وعادياً في آن واحد.
ماذا حدث الآن والمقاهي تعود لسابقتها، والشباب الثوري عادوا لشؤون حياتهم، ويمارسون السياسة الآن بطريقة تشبه ما قبل ثورة يناير، وباتت قضايا حرية المعتقلين السياسيين الأولى والأخيرة، وكأن ثورة لم تقم، وكأن حلماً لم نخلقه ودفعنا جميعاً ثمناً غالياً حتى يتجسد واقعاً.
الخوف من الحرية
كنت مندهشاً أنه في أوقات الأزمات والاشتباكات في العامين التاليين لثورة يناير تُثار مواضيع غريبة، مرّة سهرتُ في مخيم لستة إبريل وكان الحديث يدور بشدة حول الحجاب والالتزام، وأن الخلعين الماجنين لا يمثلون الثورة، كنت مستثارا بشدة كيف في هذه الأوقات تُثار هكذا مواضيع؟ بعد بيومين أخبرتني صديقة أنها لم تعد مؤمنة بالثورة، إذ شاهدت فتاة تدخن سيجارة علناً في الميدان "وملابسها مش محتشمة". احتجزت الشرطة صديقاً ينتمي لعائلة عسكرية بعد نزوله لميدان التحرير، قال الضابط لوالديه "ربوا ابنكم عيب الأشكال دي تطلع من عندنا"، فتاة ثورية أخرى تقدم لخطبتها ضابط ثم كفرت بميدان التحرير، الغريب هو انقلاب هذه الشخصيات التي كانت ثورية في يوم من الأيام إلى معاداة الثورة.أذكر مرة أني اعجبت كثيراً بفتاة ثورية مسيحية وكنت أنظر إليها بشغف ورغبة وحميمية، وكانت تفهم نظراتي وقالت لي: "أنا مسيحية وما عنديش استعداد أحارب أهلي وجيراني". لماذا لم تتحول هذه التجمعات المباركة للالتفاف فعلاً؟ لماذا لم تحطم حالة الحرية والحميمية في ميدان التحرير كل الروابط القديمة الدينية والعائلية والاجتماعية؟ لماذا لم تُحقق حالة يناير تشكيلات منظمة تقدم دعمًا نفسيًا وعمليًا للمؤمنين بها، لخلق واقع بديل لما كان قبل يناير؟ باختصار: لماذا لم نحول حالة يناير أو نسعى لتحويلها لطريقة تفكير، وشكل علاقات، ونظام اجتماعي وسياسي، يستلهم تلك الحميمية التي شعرنا بها ونحن نواجه النظام؟ لماذا اقتصرنا على الشتيمة وقذف الحجر على الشرطة بدلاً من إقامة هيئات وأحزاب؟ لماذا رفضنا أن نخضع لنخبة ثورية تستلهم تلك الحالة أدبياً وفكرياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وأصررنا بعناد غبي على أن الثورة بلا نخبة، وبدلاً من ذلك خضعنا لأشد الحكم فساداً وقمعاً وإفقاراً؟ لماذا كل هذا النشاط على السوشيال ميديا والمزايدات الشخصية، والأنا المتضخمة للنجوم الثوريين، وحالات التلاسن وتبادل الاتهامات والأحكام والشتائم؟ لماذا استبدلنا تلك الحالة بحالة الانفتاح والتفهم واعتمدنا على صواب الإحساس الجمعي الذي قادنا في يناير إلى إسقاط مبارك؟ إنّ تأملنا حالة الخوف من حالة ميدان التحرير يجعلنا نتأمل في حالة الإنسان نفسه وهو ضد نفسه، الإنسان الذي برمجته الأنظمة القمعية والحضارة التي تقمع تطلعاته من أجل مكافآت مالية واجتماعية وجنسية، إنها نظرة في الحفرة العميقة المرعبة داخل أرواحنا، والتي نفعل كل أشيائنا وكأن الغرض هو الهروب من أنفسنا. لماذا انهزمت ثورة يناير؟ ماذا تقول لنا حالة يناير عن أنفسنا وعن الأنظمة، عن شجاعتنا وخوفنا؟
الخوف من التجربة
حتى ونحن نختبر تويتر وفيسبوك خائفون، هناك حالة من الخوف من أن نعرف كيف يتم التلاعب بنا، نتماشى ونتعايش مع تحكم مؤسسي السوشيال ميديا، لماذا لم ينتبه الكثير من أصدقائنا الثوريين أن التواصل عبر الواقع الافتراضي ليس فقط غير مجدٍ ولا كافٍ، ولكنه يوجد تلاعب، تلاعب على نقاط نفسية حساسة، احتياجنا للشهرة، الاستعراض أننا رائعون ومميزون وفرحون، إقامة الحواجز بين الأفكار والأديان والاتجاهات السياسية، إذا قارنا حالة نشطاء الثورة مع تويتر بحالة أوكيوباي الذين اكتشفوا كيف تلاعبت بهم السوشيال ميديا، وإحدى ثمار حركة أوكيوباي النزول على الأرض لتغييره وإغلاق الحسابات أو عدم الاعتماد عليها على السوشيال ميديا، وابتكار تطبيقات جديدة حرة من الإعلانات والربح والأغراض الاقتصادية.ولعل هذا هو السبب في أننا لم نجد مفكراً أو فيلسوفاً أو روائياً أو مغنياً يستلهم حالة الثورة فكراً وثقافة وإبداعاً، أيضاً مثلما وجدناها في حركات أوكيوباي الأمريكية، اقتصرت الكتب والتحليلات على ثورة يناير وكأنها حراك سياسي لنيل مكاسب الديمقراطية الانتخابية، على عكس نظيرتها الأمريكية التي أخرجت كتباً مثل "مشروع الديمقراطية" للبروفيسور ديفيد غرابر، تحمل تحليلاً دقيقاً للحياة داخل المخيمات، والتطلعات، وقمع الشرطة الأمريكية، وطريقة تغطية الإعلام، ونشطاء مثل ميكا وايت صاحب كتاب "نهاية الاحتجاج" الذي تبنى فكرة إنهاء حالة المخيمات الاحتجاجية بعد أن اكتشف عدم فعاليتها، ودعا نشطاء الثورة للهجرة من مراكز العواصم السياسية والاقتصادية إلى الأطراف، أو تجربة غنائية تستلهم حالة الاحتجاج والاشتباكات كما عمل فريق باولين أوليفروس في تحويل أنماط الاشتباكات مع الشرطة لحالة سماعية تحرر الجسد من التحكمات اللاواعية للأفكار الموروثة.
التجزيء
إحدى الآليات التي تعمل عليها الانظمة تجزيء حياتنا، تحويلها إلى مجموعة أجزاء منفصلة، والمواطنين إلى متخصصين منفصلين بعضهم عن بعض، لا توجد ثورة سياسية لا تغير اقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً، ولا توجد ثورة اقتصادية لا تفعل ذلك في مختلف مناحي الحياة، العمال الذين أغلقوا المصانع خشوا أن يتولوا مهام إدارة المصانع بأيديهم، ولكن انتظروا قرار المحكمة التي عارضتهم، واحترموا هذا القرار. الثوار في التحرير خافوا من موجات الانحلال، والبعض لجأ للتشدد الديني، أو الاختباء في حمى القيم العائلية والوظيفية، الذين كانت لهم امتيازات اقتصادية في زمن مبارك خشوا من موجات الثورة أن يكونوا في العراء وأن يتساووا بضحايا النظام. التجزيء يجعلنا نعمل مع عالم منفصل، أنا صحفي ولن أستطيع أن أغير العالم، أنا نجار، أنا مغنٍ، الجميع في تخصصه والنظام مستمر، وكل إبداعنا في النهاية يتماشى ويتعايش مع كل ألوان القبح والبرودة التي تضفيها الأنظمة على حياتنا. نعم ما يفعله أصدقاؤنا الآن هو علامة على الخوف والتجزيء والوعي المعلب الذي جاءت ثورة يناير لتدمره بلا رجعة، الانتخابات تجزىء الحياة وكأن مرشح الثورة السياسي الذي سيأتي بإصلاحات وإخراج الناس من السجن هو هدف، إننا نمارس السياسة وكأننا نستمع إلى فيروز في نهاية يوم شاق، لا نريد أن نرى، أن نؤمن، أن نكفر، نريد أن نهرب.
الوعي بالزمن
هل تتذكرون كيف كنا نعيش في ميدان التحرير؟ لقد عشنا في الزمن الحقيقي، حيث الخوف الحقيقي من الموت، الموت في أي لحظة، التعذيب في أي لحظة؟ هل تتذكرون كلّ هذا التوتر الحي والخصب، كيف كنا نحتفل ونحتفي بكل لحظة نعيشها في سلام ونحن نرى أصدقاءنا تتشوه أعضاؤهم ويقتلون في الميادين؟ هل لاحظتم هذا التجاور بين الموت والحياة، بين الإعاقة والسلامة، هذا هو العالم الحقيقي خارج ماتريكس الأنظمة. ما اكتشفته أن الانظمة وهي تقضي على الموت وتحقق تقدماً في الطب، وتحارب الإرهاب الذي أحياناً تخلقه لتخيف الشعوب، هي تقضي على هذا الوعي باللحظة، هنا والآن، الجميع آمن وسالم ومعافى بتأميناته الطبية والاقتصادية، وبالشرطة التي تكافح الإرهاب والمجرمين، ولكن يوجد خوف مرضي. خوف من كل الأشياء المصطنعة التي تخلقها الأنظمة لنا لنبقى خاضعين لسيطرتها، الخوف من الأب، الخوف من المستقبل، الخوف بعضنا من بعض، الخوف من الفضيحة، الخوف من الفشل.في ظل أمان واستقرار تلك النظم، نعيش هذا الخوف الممنهج الملازم لحياتنا، وفي ظل ثورة ميدان التحرير عشنا الخوف الحقيقي، والحرية الحقيقية، والشعور "الحقيقي" بالزمن هنا والآن.
فلنسأل أنفسنا في كل ذكرى ليناير هل نحلم بالفرح والنشوة والحرية والعدالة لكل البشر بل لكل الكائنات على الأرض؟ هل اختياراتنا الشخصية والوظيفية والسياسية تعكس شغفنا باكتشاف أنفسنا والحياة والفرح بها؟ هل نسعى لتلك الحميمية مع الآخرين دون وجود لحسابات الدين والوطن واللون واللغة، أنا لا أتحدث عن حالة مثالية بل حالة عشناها وعرفناها جيداً في ميدان التحرير، أم أننا نهرب من الثورة والحرية إلى الدين والوطن واللغة، إلى ممارسة الديمقراطية، إلى الصراخ والاستعراض عبر السوشيال ميديا والالتصاق بالأسرة والروابط القديمة الدينية والاجتماعية ونعتبرها "الحياة الواقعية"؟
كل ثورة وأنتم طيبون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه