"نحن من يحتاج إلى الزبون، وليس هو من يحتاج إلينا"؛ كُتبت هذه الجملة المنسوبة إلى مهاتما غاندي خلف قسم الاستقبال في الصالون. في طرفَيْ الصالون العريض، مرايا، وقبالتها كراسٍ ضخمة (مراكب الوصول إلى الجمال). هناك من جلسن على هذه الكراسي، وهناك الواقفات اللواتي تتحرّك كلُّ واحدة منهنّ من أجل مهمّة على الشَعر والوجوه. كلّ ما هو موجود من شَعرٍ على رؤوس السيّدات هنا، أو ٩٥ في المئة منه، لونه بنّيّ مائل إلى الأشقر. غالبية الأنوف معدّلة، أو محطّمة! ولا شفة هنا متروكة دون الأحمر، بل أغلبها منفوخة. أجده عرْضاً مسلّيّاً حين أنظر إلى من تتحدّث بشفتينِ مكبَّرتين ذاتيْ بعض الاعوجاج، خلافَ المتطرّفين الذين يرونه أمراً مقرفاً! أنتظر دوري لبضع دقائق. تخرج فتاة جميلةٌ بعد أن سرحت شعرَها إلى الدرجة الاخيرة التي يعرفها الشعرُ المنسدل. الوشاح الذي ارتدتْه لم يغطّ سوى ٢٠ في المئة من شَعرها، فخرجتْ بشلّالٍ أشقر طويل قد يناسب هذا الطقس الخريفيّ الجميل في طهران. تجلس أمامي إحدى الباحثات عن الجمال، والتي تنتظر بدورِها، دورَها لقصّ شعرِها. تبتسم، فأبتسم، وأتحاشى النظرَ كي أواصل اكتشافي لهذا العالم الذي يمكنك بسهولة أن تشبهه بيوم الحشر. لستُ طبعاً ممّن لا يدخلن أبداً صالات التجميل، إلا أن هذا الصالون جديد، وأكبر بكثير من الذي أرتاده في العادة. كنتُ أفكّر منذ بضعة أيّام أن أضفر شعري على النمط الأفريقي، وبضفائرَ قصيرة عدّةٍ، فأوصتْني صديقتي بهذا.
كلّ ما هو موجود من شَعرٍ على رؤوس السيّدات هنا، أو ٩٥ في المئة منه، لونه بنّيّ مائل إلى الأشقر. غالبية الأنوف معدّلة، أو محطّمة! ولا شفة هنا متروكة دون الأحمر، بل أغلبها منفوخة. أجده عرْضاً مسلّيّاً حين أنظر إلى من تتحدّث بشفتينِ مكبَّرتين ذاتيْ بعض الاعوجاج، خلافَ المتطرّفين الذين يرونه أمراً مقرفاً!
"الحصول على الكمال الأخير"؛ هكذا عرّف الفارابيُّ عن الجمال. تخيّلوا الآن أن يدخل الفارابيّ إلى هذه الصالة كي يقيّم مدى حصول كلّ واحدة منّا إلى الجمال. في الحقيقة، يمكنه أن يقيّمنا الفارابيّ، أما ابنُ سينا الذي يريد الجمالَ مكوّناً من "انتظام"، و"تأليف"، و"اعتدال"، فالأفضل ألّا يدخل هذه الصالة إطلاقاً، رغم حُبّه المعروف للنساء.يأتي دوري بعد قليل، فأجلس على أحد الكراسي الدافئة من جلسة المرأة التي كانت جالسة عليه قبلي. تُريني المرآةُ الكبيرةُ من هنّ خلفي، وحركةَ الصالة كلّها. بين القائمات بتجميل النساء، ثمة امرأة ماسكةٌ المكنسةَ تظهر في المرآة بين بضع دقائق وأخرى. تدور كي تجمع ما على الأرض من شَعرٍ، وخيوطٍ! تتحرّك مكنستها، دون أن تشعر، متناغمة مع صوت الموسيقى العالية، والتي تدندن معها إحداهنّ؛ "بوب" فارسي حديث، من تلك الأغاني التي أستغرب دائماً كيف أنها تتحدّث عن الهجران والخيانة بإيقاعٍ مُبتهجٍ، ومُبهج. إلى يساري امرأة متقدّمة في العمر. منذ الضفيرة الأولى من شَعري حتى الثامنة، وهي تنتظر تجعُّدَ شعرِها، وتمسّكَه بالقطع البلاستيكية الملوّنة، دون أن ترفع رأسها من هاتفها المحمول. وإلى اليمين تشكو القائمةُ بتنظيف بشرةِ امرأةٍ بعمرِِها، أي في منتصف الأربعينات، من وصفات الحِمية التي لم تُجدِ نفعاً معها، وتضيف أن "شحوم البطن لا يمكن تذويبها، إلا بعملية جراحية". تقول "إن بعض الأجسام مهيأة لخسارة الوزن، وبعضها ليست كذلك"، وبأن جسمها من النوع الثاني. أغمض عينيّ كي لا تتحدّث معي المعتنيةُ بي، رغم أنها أشادت بشَعري، إلا أنه راق لي أن أتابع بصمتٍ، وأجلس بسكونٍ وخشوعٍ في حضرة هذا الدأب المتواصلٍ في سبيل الجمال، وكأنه لن ينتهي إلى الأبد. "الحصول على الكمال الأخير"؛ هكذا عرّف الفارابيُّ عن الجمال. تخيّلوا الآن أن يدخل الفارابيّ إلى هذا الصالون كي يقيّم مدى حصول كلّ واحدة منّا إلى الجمال. في الحقيقة، يمكنه أن يقيّمنا الفارابيّ، أما ابنُ سينا الذي يريد الجمالَ مكوّناً من "انتظام"، و"تأليف"، و"اعتدال"، فالأفضل ألّا يدخل هذا الصالون إطلاقاً، رغم حُبّه المعروف للنساء. وفي الختام أذكر أني لم أحتمل الضفائر، ففتحتُها واحدة بعد أخرى، بعد يومين، خلال سفري، وأثناء سيرِِنا الطويل في جزيرة "هُرمز"، جنوب إيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...