في عام 1987، صرّح الشاعر محمد الماغوط عبر كتابه "سأخون وطني"، بأنه وطن خائن أصلاً لمواطنيه فلم نلتزم بالولاء له؟ فالأوطان إما أن تكون حقيقة أو مزورة، ومثل هذه النسخة المشوهة من الوطن، الهجينة، التي تفتقد لأدنى مقومات التسمية، لا شيء يلزمنا بها وبالتالي تصبح خيانتها واجباً، وطنياً حتى.
لم يكن الماغوط بكتابه يعني ما يقول، إنما هي طريقة لتبيان موقفه من قضايا عديدة، كالحرية والحق والعيش الكريم، وعبر تصريحه هذا كان فعلياً أشدّ انتماء لوطنه كما يحب أن يراه "سالماً منعّماً وغانماً مكرماً"، كما لو أنه يهدد بطريقة ما بخيانته لكنه لن يفعلها، مثلما تهدد عاشقة مراهقة بالهجر. لكن، لو قام الماغوط أو غيره بتقديم شهادات من نوع ما، تسريب معلومات عسكرية، التعامل مع جهة معادية، أي لو قام فعلاً بخيانة "الوطن" كما نعرفها، هل كنا سنستمتع بكلماته، بل هل سيصرّح أصلاً قبل أن يفعل؟
خيانة الموقع
تقع كلمة "خيانة" في خانة المفردات المخيفة والتي تحمل إرثاً أدبياً وأخلاقياً ثقيلاً، تستحضر سريعاً جوّاً مليئاً بالإثارة والتعريف والأحكام القاطعة: "لقد خانني/ خانتني"، "الخائن لوطنه، لرئيسه، لسلاحه"، وسرعان ما نمتلئ غضباً من الآخر الخائن، الذي "انضم للطرف الآخر" دون أن نعرف أي تفاصيل عن الموضوع، ولا حتى أن نوافق على "ضمنا" للطرف غير الآخر.
هذا الإعلان بمفرده، طريقة لعدم قول أي شيء وقول كل شيء: الإيحاء بأن جرماً خطيراً قد حصل دون الدخول في "الملابسات العقلانية" لجرم الخيانة، لكن هل حقيقة أن الخيانة هي عكس الأخلاق؟ ألم تتطور الأسرة وأفرادها في مجال "ضد التقليد" أو خيانة الأصل؟ أليست الخيانة أصلاً مجرد تبادل مواقع مع الآخرين؟ الثورات، الفكرية الاجتماعية السياسية الاقتصادية، أليست خيانة أم أن الخيانة السيئة تشترط أن تحصل خارج السياق المخطط له؟
ووصم شخص ما بأنه خائن أو تسمية فعلة ما بأنها خيانة، ألا تلزم تحديد النقطة التي نقف عندها، وبالتالي تعريف "النحن" و"الهم". لقد انتهت كلمات مثل "القومية" و"العرق" و"الوطنية" عن كونها تعني أي شيء واضح، أو معرّف بطريقة لا تدع مجالاً للشكّ في صوابيتها، الحقيقة الأكثر ثباتاً بالنسبة للبشرية والحقوق التي يمكن الاتفاق عليها، هي "حق الإنسان بالحرية والكرامة والاعتقاد"، وما دون ذلك مجرّد وجهة نظر، نعم، "الخيانة" مجرّد وجهة نظر.
أليست الخيانة أصلاً مجرد تبادل مواقع مع الآخرين؟ لعل الحقيقة الأكثر ثباتاً بالنسبة للبشرية والحقوق التي يمكن الاتفاق عليها، هي "حق الإنسان بالحرية والكرامة والاعتقاد"، وما دون ذلك مجرّد وجهة نظر، نعم، "الخيانة" مجرّد وجهة
خيانة قديمة ومؤسِّسة
الرمز الأكثر شهرة للخائن في الثقافة الدينية هو يهوذا، يهوذا تلميذ غامض، ومحب أيضاً، لا نعلم عنه الكثير، أو لم نهتم بمعرفة المزيد عنه لأنه "خائن" والخونة لا يُدرسون بل يحاكمون. يسوع كان يعلم بأنه يهوذا من سيسلمه، لكنه تركه، لم يستسلم لإغراء القبض عليه ومحاكمته، أو طرده من جنة "الأتباع"، وإلا فماذا يفعل بكل تلك الوصايا والمعاني؟
الخيانة هنا فعل تأسيس أساسي في الديانة المسيحية، لحظة إنشاء الفارق الذي قامت عليه الكنيسة لاحقاً، تقسيم العالم بوضوح وبساطة إلى ثنائية مصدرها لحظة الخيانة تلك، لتجميع الخير كله في سلّة واحدة هي سلة يسوع، والشرّ كله في حفرة الآخر الخائن، الفاسد، الذي لا يمكن إصلاحه حتى من قبل ابن الله.
في الواقع، هي نظام اجتماعي وإيديولوجي كامل لتحشيد القيم والنماذج وتحديد الشكل الذي ستنطلق منه الرسالة السماوية، فيكون يهوذا هنا أكثر من أحب يسوع والأكثر ولاء له، لأنه بفعلته أرّخ لنقطة بدء المسيحية، كان بإمكانه أن "يكرز" كالتلاميذ الآخرين، لكن، أين المجد في هذا؟ بل أين الخلاص والتضحية والرسالة برمّتها؟
إذا كانت خيانة يهوذا تعتبر نقطة البدء في المسيحية، وخيانة إبليس أسست لبدء الخليقة، ألا يجدر القول، إذن، إنهما كانا من الأتباع الأشد وفاءً لسيديهما؟
كذلك الأمر في الرسالة الأخرى للشيطان، الذي رفض الركوع لآدم، في فعل خيانة لخالقه، ولكن الشيطان أيضاً، وكما يفسّر الدكتور صادق جلال العظم، في كتاب "نقد الفكر الديني"، مسألة تعارض المشيئة الإلهية والأمر الإلهي، كان شديد الولاء لخالقه، لدرجة أنه خانه للبدء بـ "اللعبة" التي خطط لها، قبل التضحية بنفسه وبسمعته، بمكانته الأبدية، قبل العار الذي سيحمل وزره للأبد مقابل ولائه لسيّده، وهذه أيضاً كانت لحظة تأسيسية لمنظومة كاملة من القيم الأخلاقية، تقسيم المهام والتالي بدء الخليقة.
علم اجتماع الخيانة
يمكن اختزال معظم الإجراءات المؤهلة لفعل الخيانة، كما يقول أستاذ علم الاجتماع الفرنسي، سيباستيان شيهر Sébastien Schehr، في مقال له بعنوان "علم اجتماع الخيانة"، إلى مجموعتين تضمان نفس المعنى: هناك أعمال تتعلق بإفشاء الأسرار، نقل المعلومات والتعامل مع العدو أو المنافس، ومجموعة أخرى تتعلق بالطرح العقلي، الأولى تتوافق مع التجسس وتسليم المعلومات أما الثانية فتتضمن الهَجْر وتغيير الولاء، أو سمّي خلال الحقبة السوفيتية ولاحقاً في أدبيات الربيع العربي بالانشقاق، أي التمزّق، السلخ عن الجسم الأصلي، وبالتالي فإن الخيانة تتضمن عبوراً من مكان إلى مكان، مع ما يصاحبه هذا العبور من تمزقّ إدراكي مسبق، ففعل الخيانة هنا يفترض مفارقة تفضيلية بين "النحن" و"الهم"، وكذلك حركة من الداخل إلى الخارج، على أساس أخلاقي أحياناً أو فكري.
هذه النقطة، بوصفها فعلاً مسبق الوعي به، تلعب دوراً هاماً في تفسير الخيانة، على سبيل المثال، فيما يتعلق بالتمييز بين الشهادة أمام الإعلام أو القضاء أو مجرّد إيصال معلومات، الشاهد عموماً ليس لديه صلات مع من يشهد ضدهم في حين أن المُخبر هو أحد العناصر الداخلية، المبادر للقيام بالفعل طوعاً، وهذا ما يجعل منه خائناً.
بما أن أي دنوّ باتجاه معاكس سيجعلك خائناً، فالحقيقة أن الجميع يصبحون خونة بهذا المعنى، حتى جماعة حقوق البيئة والنباتيين ودعاة السلام و"اصنعوا الحب لا الحرب"
لكن، أليس شرط الخيانة العلنية؟
بالتأكيد، إذ يحتاج الأمر لهذا التمزّق، الانسلاخ، الانشقاق، عن "النحن" وبالتالي التموضع في طرف يستطيع أن يشير بالإصبع إلى موضع الخلل وإدانته، فالانتماء شرط ضروري للخيانة لكنه ليس كافياً.
إن الكشف عن سرّ أو الانشقاق عن مجموعة ليست أفعال يمكن تبريرها واستيعابها في التمزّقات نفسها التي تعلن عن "انحياز" للخير، هي أيضاً خرق لثقة ممنوحة وولاء متوقع في جميع العلاقات التي تشكّل "النحن". لكن طالما يوجد طرف آخر، فيمكن أن نبرر "الانشقاق" بمجرّد انحياز وليس خيانة، انشقاق من طرف والذهاب إلى آخر، كما عندما نقرر استبدال نوع القهوة الذي اعتدنا عليه واعتادت عليه أمهاتنا وجداتنا ونذهب للشركة المنافسة، أو نفضل، على عكس آبائنا، بيبسي مثلا على كوكاكولا، يتضمن هذا الذهاب رفضاً لما يجعلنا "نحن" وإدانة له تحت مبررات عدة.
"النحن" يسمونه عاراً و"الهم" يسمونه صحوة ضمير إنساني، إنها أزمة "تمزّق الواقع" كما يسميها شيهر، وهذا التمزق غالباً ما يؤدي إلى الإقصاء والعزلة، وربما في حالات غير منهجية إلى الموت، ما لم يسارع الخائن إلى إعادة الارتباط بـ"نحن" ما، بطرف معرّف وواضح، سواء كان هذا الارتباط عبارة عن ندم أو إعادة تشكيل "النحن" بما ينسجم مع المنشقّ الأول.
إن "النحن" نقطة ما على رأس مسطرة يشكل طرفها الآخر "الهم"، أي دنوّ باتجاه معاكس سيجعلك خائناً، الحقيقة الجميع خونة بهذا المعنى، حتى جماعة حقوق البيئة والنباتيين ودعاة السلام و"اصنعوا الحب لا الحرب"، الجميع خونة لطرف، هذا الاستقطاب العدواني تزداد فعاليته بالطبع وقت الحرب، مع ذلك، يعتبر شرطاً ضرورياً للوصول إلى السلم.
خواص الخيانة
هناك خاصية أخرى لفعل الخيانة، وهو وجود طرف ثالث، الخيانة تضم تكويناً ثلاثياً، كما يقول شيهر، وليس ثنائياً، إنه تحالف من عنصرين ضد عنصر ثالث، قام B بخيانة A وانضم إلى C، كما الخيانات الزوجية على سبيل المثال، أو الصديق الذي قام بإفشاء أسرارنا إلى طرف ثالث أو قام بتسليم صورنا العارية للإعلام، وهذا "الخائن" مجازاً لا يندمج في الطرف الثاني تلقائياً، بل يبقى طرفاً ثالثاً فحسب.. يتراوح ولاؤه حتى لو جاهر به وقدم أدلة على تغييره، لا يقبل به إلا كوسيط، كطرف غير مكتمل الأركان، بين "نحن" و"هم"، نستطيع هنا أن نفهم انتحار يهوذا، إذ إن خيانته لم تشكل فريقاً للـ "خونة"، لم يصبح بطلاً بمعنى ما، أو حتى عنصراً فاعلاً ضمن فريق "كارهي المسيح"، بل بقي عالقاً في موقعه الثالث.
وهنا تتجلى معضلة الخائن الوجودية، هو لن يصبح طرفاً مستقلاً على الإطلاق، وأعني بالطرف أن يستقطب جمهوراً يدعمون فكرة "خيانته" أو أن يتمّ تبريرها تحت أي من الدوافع الأخلاقية أو الفكرية، بالطبع سيجد من يبررون فعلته كأنها عمل بطولي لنصرة حق ما أو لمعاقبة مجرم، كالضابط المنشق عن النظام السوري "قيصر"، لكنه هنا ليس طرفاً، توازن القوى لا يسمح له بذلك، ولا حتى النتائج الفعلية، هو أداة فحسب لمساعدة طرف على طرف، كالسكين التي تساعدنا على ذبح الخروف، ونحن نعلم أن الأدوات لا رأي لها، السكين لا تحمل ضميراً.
تتجلى معضلة الخائن الوجودية، في أنه لن يصبح طرفاً مستقلاً على الإطلاق، أي لن يتمكن من أن يستقطب جمهوراً يدعمون فكرة "خيانته" أو يوجدون تبريراً لها تحت أي من الدوافع الأخلاقية أو الفكرية
لا يستطيع "الخائن" هنا أن يضع تعريفاً آخر للعمل الذي قام به ولا الدفاع ضد العار الذي ستتهمه به المؤسسة التي أدانها، وحتى لو كانت هذه المؤسسة "غير أخلاقية"، المؤسسات لا تبنى على الأخلاق مثل الدول والشركات، تبنى على المصالح الجمعية، إعطاء وتلقي الأوامر وإطاعتها، على قوانينها الضيّقة التي تعرّف كل شخص بموقعه في المؤسسة، قوانينها المكتوبة في النظام الداخلي للمؤسسة وربما نسميه أحياناً "دستوراً"، سيظل "قيصر" وحيداً في حملته الصليبية تلك، حتى لو انضم إليه عدد لا نهائي من الأشخاص، سيظل طرفاً خارجياً، عنصراً تمّت استمالته واستعين به لإضعاف الطرف المقابل.
السياسة من جديد
الخيانة مفهوم سياسي بالتأكيد، تستخدمه السلطات لأنه يشكل أداة قوية للاستقطاب والسيطرة، ومع ذلك الخيانة أداة المنتصرين: الفائز ليس خائناً، بل يُستخدم الخائن ككبش فداء على الطرف الآخر، على سبيل المثال يتم تفسير الهزائم العسكرية بالتخاذل والخيانة وليس بنقص الاستعدادات، أي لإخفاء المسؤولية الحقيقية، الخيانة تعطي تفسيراً واضحاً وبسيطاً يشتمل الاتهام والإدانة. على مدار التاريخ كان الخائن حلقة مفقودة في السياسة: كان يتواجد حين يرغب بذلك السياسيون ويختفي باقي الأوقات.
تتمحور هويتنا الفردية حول مجموعة من الانتماءات، نتقاسم أحياناً قيماً متضاربة، وهذا يعني اعتبار الشخص موضوعاً نفسياً مدرجاً في جسد، في نشاط جنسي، ضمن عائلة، قبيلة، أمّة، كابن أو حفيد أو زوج أو...، أيضاً ضمن مجتمع وثقافة ودين وإيديولوجيا ومهنة، وراء الأنا تختبئ العديد من الأنوات الأخرى، كل هذا التعدّد يشكل تضارب مصالح، نتعامل معها بقليل من التنازل هنا أو هناك، الذكورة هي خيانة للجانب الأنثوي فيك، والأنوثة كذلك، كل لحظة أنت تقوم بخيانة جانب منك، من عائلتك أو قيمك، أو يشعر أحد بأنك كذلك، أنت "يهوذا" يومي، بل لحظي، لا سبيل لإدانة الخائن فيك وبالتالي إدانة نفسك إلا بخسارة جزء ما منك، لكن الطريف بالأمر أنك تخون ذاتك لذاتك، أي تقوم فقط بالمفاضلة بين نقطتين. إنها معضلة حقاً، "الذات الخائنة بشكل دائم" لا تنقطع عن فعل ذلك إلا بالموت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...