كل شيء في ذلك المكان قديم، بلاط الشارع، الجدران، ألوان الجدران، وأدراج الأزقة عند أكثر من جانب، حتى السماء كانت غائمة رغم أن الطقس صيفي، كذلك تلك الكنبة التي كان يجلس فيها رجل مسن يدخن سجائر "لف" جرى عليها الزمن وأتلفت، لا يوجد عمر محدد للمكان ربما مثل أو أكبر قليلاً من الكنيسة الموجودة على سفح جبل في أعلى درج في الشارع،، هنا شارع "الخضر".
شارع "الخضر" هو اسم واحدة من شوارع محافظة "السلط" القديمة التي تقع شمال الأردن، ويرتبط اسم المكان باسم الكنيسة الموجودة في قلب أعلى درج فيها والمنسوبة لما هو مشاع في المنطقة للقديس خضر أو القديس "مارجرجس" كما هو مكتوب على بوابة الكنيسة مع تاريخ بنائها الذي يعود للعام 1682 ميلادية، أي نعم يغريك جمال الشارع ونسيم العراقة الذي يلامس الجدران البرتقالية هناك، لكن لا شيء يستفزك كصحاف/ية أن تكتب/ي عنه في المكان أكثر من الأوراق المتناثرة داخل المغارة في تلك الكنيسة والمكتوب عليها أمنيات أناس مروا من هناك.
تلك المشاهد وغيرها سيتم درجها في هذا التقرير، جاءت خلال جولة لنا لشارع الخضر، والذي تعد كنيسته أبرز المعالم فيه ومن أقدمها. دخلنا الكنيسة واعتذر منا الحارس دقائق لانشغاله مع سائحين قصدوا زيارة الكنيسة، ووجدنا أنفسنا أمام الغرفة الرئيسية ووسط مقاعد الصلاة، وأسفل سقف قديم مزين بألوان ورسومات، وعلى جانبنا طاولة فيها أوراق صغيرة مربعة الشكل وفوقها أقلام حبر، كان هناك رجل وزوجته يكتبون شئياً على أوراقهم، سألنا الرجل: كتبت أمنية؟ أجاب: "نعم وأتمنى أن تتحقق ببركة هذا المكان".
ذلك الرجل اسمه حسن عليان، جاءت به "الصدفة" بحسب قوله لزيارة كنيسة الخضر، فهو رجل أردني يعيش في العاصمة عمّان وأتى بصحبة زوجته لزيارة محافظة السلط، لكن وكما قال: "الصدفة أتت بي إلى هذا المكان، لا أعرف ما السبب ربما هو إلهام رباني، لكن المهم أن الطريق أخذتني أنا وزوجتي إلى هنا".
"أشعر بشيء من السكينة والطمأنينة"؛ يقول حسن وهو ينظر إلى زوجته التي كانت ما تزال تكتب أمنيتها على ورقة، وأضاف: "نعم زوجتي محجبة ونحن مسلمون، والإيمان بالله وحجم روحانية هذا المكان هو الذين أتوا بنا صدفة، وختم بقوله:" بالمناسبة هذه أول مرة أسمع فيها عن كتابة الأمنيات على ورق ووضعها في مغارة هذه الكنيسة، ربما أماني وأدعية معلقة لي قادتني لأخطها أنا وزوجتي على ورق حتى نرميها داخل هذه المغارة".
"المياه التي تنزل على مغارة الكنيسة غير معروفة المصدر، كذلك مصدر الزيت الذي يخرج من صخور المغارة غير معروف أيضاً"
في المغارة التي رمى حسن وزوجته أوراقهما داخلها، يوجد على عتبتها وعاء صغير فيه زيت، نسمع صوت ينبوع ماء داخل جدران المغارة الملصق فيها أدعية القديس الخضر أو "مار جرجس"، ونلحظ أن هناك الكثير من الأوراق المتناثرة في الداخل وبعض من الصور لأطفال فارقوا الحياة، لصقوا أهاليهم صورهم في المغارة حتى يكسبون الدعاء لهم لكل من مرّ بورقته للمغارة.
انتهينا من إجراء المقابلة مع حسن وزوجته، وبقي حارس الكنيسة منشغلاً مع السياح الذين قصدوا زيارة الكنيسة في ذلك الوقت، وتبرعت زائرة من أهل محافظة السلط تدعى منال قاقيش كانت مصطحبة صديقتها السائحة للمكان، في إعطائنا لمحةً عن تاريخ الكنيسة وقصة الأمنيات المختبئة داخل المغارة.
"مسلمون ومسيحيون يطلبون الشفاعة من مار جرجس" بهذه العبارة استهلت منا حديثها معنا؛ فالقديس مار جرجس كما أضافت: "شفيع للجميع بصرف النظر عن دينهم، المهم أن يكون مؤمن وصدقيني كل شيء بالإيمان (بزبط)".
توقفنا عند عبارة "كل شيء بالإيمان بزبط"، وسألنا منال ماذا تقصد بذلك، ووضحت بقولها: "من يملك قلباً صافياً مؤمناً وخالصاً ويقصد مار جرجس بأمنية، صدقيني أنها سوف تتحقق"، وهو أمر كما استكملت حديثها: "معروف عن تاريخ القديس مار جرجس أو الخضر، حتى أنه في الزمن القديم كان الناس مسلمون ومسيحيون ينامون في هذه الكنيسة وهم يرددون الأدعية والأمنيات حتى يشفع لهم القديس مار جرجس وتتحقق".
وختمت حديثها باستعراض أمثلة عن الأمنيات التي تحققت داخل مغارة كنيسة الخضر: "أذكر قصة سيدة سيرلانكية كانت تعيش في المنطقة وكانت فقيرة جداً وغير قادرة على علاج ابنتها التي أوشكت على فقدان بصرها، وبقيت تدعي طالبة شفاعة القديس مر جرجس لعلاجها، وشفيت ابنتها تماماً، ناهيك عن قصص لنساء دعوا أن يتمكنوا من الإنجاب وتمكنوا رغم مشاكلهم الصحية، إضافة إلى أدعية طلب الرزق".
وبعد أن أصبح متاحاً، تجول بنا حارس الكنيسة ميشيل قاقيش داخل المكان، الذي توجد فيه عظام القديس الخضر داخل زجاجة، وروى لنا أن الكنيسة قبل إنشائها كانت عبارة عن قلعة صغيرة، "كان الرعاة يمرون من هنا أثناء رعيهم لأغنامهم، وكانوا يغادرون المكان عند الساعة الخامسة مساء خوفاً من أن تأكل الوحوش أغنامهم، وفي مرة بقي راعٍ من عائلة حداد (عائلة أردنية) حتى ساعات متأخرة تجاوزت الساعة الخامسة، ووضع أغنامه داخل القلعة وخاف بسبب حلول الليل أن تأكل الوحوش أغنامه، وبقي مرتعباً إلى أن ظهر أمامه القديس الخضر، وقال له لا تخف الوحوش ستحرس أغنامك ولن تأكلها، لكن أخبر الناس أن يبنوا كنيسة هنا، ومن وقتها بنيت كنيسة الخضر".
واستعرض لنا الحارس ميشيل أهم عجائب كنيسة الخضر وهي "المياه التي تنزل على مغارة الكنيسة غير معروفة المصدر، كذلك مصدر الزيت الذي يخرج من صخور المغارة غير معروف أيضاً"، ومن العجائب أيضاً صوت حصان "الخضر" الذي يسمعه أهل المنطقة كل فترة، حتى في مرة استمر الصوت طويلاً وعند فتح الكنيسة شوهد أثر قدم من أقدام الحصان على أرض الكنيسة"، وهو ما شاهده رصيف22 محاط بزجاج لحمايته.
قيل لنا إنك رأيت الخضر داخل الكنيسة هل هذا صحيح؟ سألنا الحارس ميشيل وأجاب في ختام حديثه: "نعم رأيته مرتين، مثل المارد الطويل مر من هذه الغرفة سريعاً سرعة رمشة العين".
تواصلنا مع خوري كنيسة "الخضر" الأب مروان طعامنة، والذي قال أن "كنيسة الخضر تجمع الناس على المحبة بمختلف أديانهم وجنسياتهم، ومنذ طفولتي وأنا أسكن مع أسرتي في شارع الخضر كنت أرى المسلم والمسيحي يقدمون النذور بالبخور والشمع والزيت ويكتبون أدعيتهم وامنياتهم على ورق، منهم لغايات الشفاء ومنهم لغايات الفرج وغيرها من الأسباب تيمناً بأن يحن عليهم القديس الخضر".
قيل لنا إنك رأيت الخضر داخل الكنيسة هل هذا صحيح؟ سألنا الحارس ميشيل وأجاب في ختام حديثه: "نعم رأيته مرتين، مثل المارد الطويل مر من هذه الغرفة سريعاً سرعة رمشة العين"
ومن قصص الأمنيات التي مرت على المكان، أعاد لنا الأب مروان قصة السيدة السيرلانكية التي شفيت ابنتها من مرض كاد أن يفقدها بصرها، وأضاف: "أنا شاهد على أشخاص كانوا مصابين بأمراض خبيثة وتشفعوا للخضر وذهبت عنهم الأمراض".
"كنت طفلاً وسمعت مثل غيري أكثر من مرة صوت صهيل حصان الخضر داخل الكنيسة واسألي أهل الحي من جيلي فسيصدقونك قولي"؛ يقول الأب مروان لافتاً إلى عجائب أخرى ما تزال تحدث في كنيسة الخضر حتى اليوم "كل الحي يشمّ أيام الجمعة والسبت والأحد رائحة البخور التي تصدر من الكنيسة".
"المهم أن يكون مؤمناً ولا يشك، فالشك يعيق تحويل الأمنية إلى حقيقة والأهم أن يأتوا بقلوب صادقة" يختم الأب مروان في حديثه على من يرمون بأوراقهم في داخلها أمنيات داخل مغارة كنيسة الخضر مستشهداً بما جاء في الإنجيل: "طوبى لمن آمنوا ولم يروا".
ديالا عبد الله (39) عاماً فتاة أردنية تقصد كنيسة الخضر باستمرار لتنثر أدعيتها داخل المغارة على ورق، وتسرد تجربتها لنا: "أذكر أن أول مرة سمعت بها عن كنيسة السلط المعروفة باسم الخضر، كانت من صديقي محمد سمهوري. التقينا وقتها في مطعم في وسط البلد بعمّان، ودخلنا في نقاشات طويلة وطرقنا باب الروحانيات، وإذا به يروي لي تجربته الروحية الفريدة في كنيسة الخضر الأخضر. كنت عند ذلك في زيارة لعمّان حيث كنت أعمل في الخارج وعلى موعد للسفر ، ولكن الاسم ظل في بالي ، فهو اسم مميز (الخضر الأخضر)".
وأضافت: "بين الفينة والأخرى كنت أبحث على الإنترنت عن الكنيسة وتاريخها، وبعد سنوات من حديثي أنا وصديقي، كنت عائدة إلى عمّان، وفي مرة قررت أن أزور الكنيسة، وتزمان ذلك مع مروري بحالة نفسية صعبة للغاية، فقدن والدي، وعملي بالإضافة إلى كسرة عاطفية".
"أذكر إني سرقت من شقيقتي 3 شموع على شكل قلب، وحفرت في كل شمعة هدفاً أسعى إلى تحقيقه"؛ تقول ديالا وتضيف عن تجربتها: "استقليت حافلتين من عمّان ووصلت إلى مقر كنيسة الخضر، أذكر أنني عندما وصلت كانت مغلقة حينها شعرت بالخيبة، وانتبه أحد المارة من أمامي وسألني ماذا أريد قلت له أريد زيارة الكنيسة، طلب مني الجلوس على دكة حجريةوأجرى اتصالاً ، ولم تكد تمر 10 دقيقة حتى جاء حارس الكنيسة ! كنت وحدي. نعم تم فتح هذه الكنيسة لي وحدي".
قال لها حارس الكنيسة كما قالت: "هذه الكنيسة لا يدخلها سوى أنقياء القلوب، وعندما يدخل من في نفسه شر يصدر صوتاً يقول: "أخرج من هنا" ،وانت جئت بعد موعد الإغلاق وفُتحت لك... إن شاء الله دعوتك مقبولة".
"بكيت كثيراً"؛ تختم ديالا سردها تجربتها وتقول: "ما الذي أبكاني؟ تعبي؟ أم صور الأطفال والأمهات والأزواج المرضى الذي يطلبون معجزة إلهية؟ أضأت الشموع التي سرقتها من أختي ودعوت من قلبي... وصدقاً دعواتي أجيبت!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.