شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
من

من "الخادم" إلى "هضبة التلاوة"... هل تحوّلت قراءة القرآن في مصر إلى "بزنس"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 26 أكتوبر 202103:09 م

تحتفظ ذاكرة المصريين في العقود، بل القرون الماضية، بأسماء العديد من قرّاء القرآن الذين ساهموا في ترسيخ مدرسة التلاوة، التي جمعت أصواتٍ وُصفت "بالملائكية والقادمة من السماء"، إذ نشأ أصحابها على تعلّم القرآن منذ صغرهم، والاهتمام بأحكامه وتجويده، وبرزت العديد من الأسماء؛ الشيخ حنفي برعي، ومحمود القيسوني، وحسين الصوّاف، حتى تكونت ملامح أخرى، وظهر جيل جديد مع تأسيس إذاعة للقرآن في مصر عام 1964، جمعت عدداً كبيراً من القرّاء، من ضمنهم عبد الباسط عبد الصمد، ومحمود خليل الحصري، ومحمد رفعت، وآخرون.

خلال تلك الفترة، شكّلت أصوات القرّاء حالةً وجدانيةً لدى المصريين، وتأثروا بها، خاصةً مع تطورها، وإدماجها في شكل حداثي، فكانت الأصوات تجتمع في مذياع صغير لا يخلو منه أي منزل، ثم ظهرت شرائط الكاسيت التي كانت تحفظ تلاواتهم، وبعدها ظهر جيل جديد من القرّاء، يرى البعض أنهم ليسوا متساوين في عذوبة الصوت، وأحكام التجويد، مع من سبقوهم، ثم ساهمت مواقع التواصل، والتطور التقني، في انتشار قرّاء جدد سيطروا على المشهد، وينظر إليهم البعض على أنهم مجرد "مقلّدين".

"طريقة التلاوة المصرية، وروحها، اختفتا لأسباب تسويقية، مع بداية تسعينيات القرن الماضي، وطُويت صفحة عذوبة التلاوة، أمام المقابل المادي، والحصول على أجورٍ ضخمة"، يقول الباحث في التاريخ، وسيم عفيفي، لرصيف22، ويضيف أن السرادقات، وهي الخيم التي تُنصب في الأفراح والمآتم، هي ملاذ غالبية القرّاء المصريين الذين أصبحوا مجرد مقلّدين لأصوات من سبقوهم، ولا يجيدون التلاوة، بل اكتفوا بـ"عنصر الإبهار"، من خلال تقليدهم كبار المشايخ المؤسسين لمدرسة التلاوة الأصيلة.

فندق شهير وتذاكر طيران

قبل نحو عامين، أسندت عائلة محمد لاعوب، من مدينة إدفو في أسوان، إلى ابنها، مهمة الاتفاق مع قارئ للقرآن، ليأتي إلى أسوان بمناسبة زفاف ابن عمه، فمن تقاليد الصعيد إحياء ليلة المولد التي تسبق ليلة الزفاف. "اخترت الشيخ محمود الشحات أنور، لإعجابي بنقاء صوته، كما أن مقاطع الفيديو الخاصة به، والمنتشرة على مواقع التواصل، جعلته الاختيار الأول ضمن مجموعة أسماء اقترحتها العائلة".

طريقة التلاوة المصرية، وروحها، اختفتا لأسباب تسويقية، وطُويت صفحة عذوبة التلاوة، أمام المقابل المادي، والحصول على أجورٍ ضخمة.

يضيف: "اختارتني الأسرة، على الرغم من أنني الأصغر سناً، بحكم تعاملي مع مواقع التواصل. اتصلت بأحد الأرقام الموجودة على صفحة الشيخ، وردّ مدير أعماله. سألته عن المواعيد، فطلب التوقيت باليوم، والساعة، والمكان، وأخبرني أن الكلفة ستكون أكبر، بعد أن علم أننا في أسوان، أقصى محافظات الصعيد، فاتفقنا على كلفة السفر بالطائرة، ومكان الفندق". وقد بلغت كلفة الطيران وفق لاعوب، 3،400 جنيه (216 دولاراً) للشخص الواحد، فبلغت مصاريف رحلة الشيخ، ومعاونيه الثلاثة، 13،600 جنيه (865 دولاراً)، أما فندق الإقامة الذي حدده مدير أعمال الشيخ، وهو فندق "غراند أوتيل" الشهير، فبلغت كلفته الإجمالية أكثر من 23 ألف جنيه (1،464 دولاراً).

"في اليوم التالي، وصل الشيخ أنور الشحات إلى بلدتنا، وكان في انتظاره آلاف الرجال، وبعد تناول وجبة العشاء، تلا علينا بعض آيات القرآن الكريم مدة ساعة، كان مرافقوه يحسبونها بالدقيقة، وكلفة هذه الساعة كانت نحو مئة ألف جنيه".

أما طارق الحسين هاشم، من مركز إسنا في محافظة الأقصر، فيقول لرصيف22: "كان زفافي في شهر أيار/ مايو 2020، ورغبت بحضور الشيخ صديق محمود، وهو ابن الشيخ الشهير الراحل محمود صديق المنشاوي، الحفل. عندما تواصلت مع مدير أعماله، للاتفاق، طلب مني أن أنتظره، لأن الشيخ وقتها كان يحيي حفلاً في مدينة المنصورة. عندما أعاد التواصل معي، سألته عن كلفة إقامة العرس، وأبلغته بالموعد، وطلب مني تأجيله أسبوعاً، أو تقديمه يومين، فاخترت التأجيل، على أن تكون الكلفة 85 ألف جنيه (5411 دولاراً)، شاملةً السفر، كما اقترح مدير الأعمال تأجير أجهزة صوت معينة غير موجودة في الأقصر، وبلغت كلفة شحنها من القاهرة ثمانية آلاف جنيه، وكانت النتيجة حضور الشيخ، وقراءته القرآن مدة ساعة تقريباً، بكلفة 93 ألف جنيه".

وكشف مصدر مقرّب من الشيخ محمود الشحات أنور، لرصيف22، أنه يتقاضى مبلغ 100 ألف جنيه (6366 دولاراً)، عدا مصاريف السفر، والإقامة، إذا أحيا مناسبة خارج محافظة الدقهلية التي يسكن فيها. أما الشيخ محمود السعيد، الذي تواصلنا مع مدير أعماله، فأكد أن الشيخ محبوب، ويشبه صوته صوت عبد الباسط عبد الصمد، ويسير على نهجه، ويتقاضى 45 ألف جنيه (2864 دولاراً)، لقاء إحياء ليلة واحدة، وهو مقابل ثابت لا يزيد أو ينقص، ويكون خارج مصاريف السفر والإقامة، إذا كانت المناسبة في محافظة بعيدة عن القاهرة.

ارتفاع أجور القرّاء في مصر، يعود إلى الإقبال الكبير عليهم، خاصةً في القرى. هي مشكلة كبيرة يتسبب السماسرة، أي الوسطاء بين القرّاء وطالبي إحياء الليلة، في ظهورها بهذا الشكل، وكلما ازداد الطلب على القرّاء، سواء في الأعراس، أو في غيرها، ارتفع الأجر بشكل ملحوظ

غالبية القرّاء لا يخضعون للضرائب

في حديث لرصيف22، يقول المستشار والخبير الضريبي، مصطفى عاصم، إن معظم قرّاء القرآن في مصر، يندرجون أمام السلطات الضريبية تحت مسمى "أصحاب المهن الحرة"، ولا يمتلكون سجلاً تجارياً، كالممثلين، والملحنين، والمطربين، ومن ينتمي منهم إلى نقابة القرّاء، يُسجّل في الضرائب، لكن الغالبية العظمى من المقرئين لا يخضعون للنقابة، وتالياً لا يوجد إقرار ضريبي لأرباحهم المادية من السوق غير الرسمية، التي يتقاضون فيها أجوراً كبيرة.

يضيف المتحدث أنه من المفترض حسم ضريبة مهن حرة، خمسة في المئة من الأجر الذي يتقاضاه القرّاء، لمأمورية الضرائب التابعين لها، ليأخذوا إشعار دفع، لكن هذا لا يحدث في الوقت الحالي، وتحتاج الأمور إلى رقابة صارمة، وفق رأيه.

ضمن هذا السياق، يرى المتحدث باسم نقابة قرّاء القرآن الكريم المصرية، محمد الساعاتي، أن الذين يتقاضون أجوراً مرتفعة من القرّاء في مصر، ليسوا أغلبيةً، إذا نظرنا إلى الأرقام المتفاوتة للأجور، والبعض فعلاً يحصل على مبالغ مرتفعة، لكنهم أقلية يُطلق عليها ضمن هذا المجتمع تسمية "علية القوم".

وصل الأمر حد التشبه بالمطربين، إذ أطلق أحد المشايخ على نفسه لقب "هضبة التلاوة"، وكأنه يسير على نهج عمرو دياب.

ويتابع الساعاتي: "يقتصر دور النقابة القانوني على المتابعة، والرقابة على أوضاعهم المهنية والأخلاقية، لكنها لا تتدخل في مسألة تحديد المبالغ التي ترتبط بالعرض والطلب، بين القارئ وأصحاب الاحتفال، على الرغم من أن النقابة ترفض بشكل قاطع الاستمرار في ارتفاع المبالغ المعطاة نظير قراءة القرآن الكريم، بهذا الشكل".

ويكشف في حديثه لرصيف22، أن النقابة لديها عشرة آلاف عضو من القرّاء، على الرغم من أن عددهم أكبر من ذلك بكثير، ويلتزم نحو ثمانية آلاف منهم بدفع قيمة الاشتراك السنوي، ويخضعون للمتابعة الخاصة في أي تجاوز يصدر عن القارئ من الناحية الأخلاقية، ومنهم من يتقاضى أجوراً مرتفعة بالفعل، ولا تستطيع النقابة اتخاذ إجراءات ضدهم، فدور النقابة من النواحي المادية، يرتبط بالمعاشات فحسب، أي بالمبالغ المستحقة بعد التعاقد، أما الأجور، فهي من صلاحيات مصلحة الضرائب.

من الزهد إلى "البزنس"

ارتفاع أجور القرّاء في مصر، يعود إلى الإقبال الكبير عليهم، خاصةً في القرى، حسب القارئ محمد الملاح، وهو يرى أنها مشكلة كبيرة يتسبب السماسرة، أي الوسطاء بين القرّاء وطالبي إحياء الليلة، في ظهورها بهذا الشكل، وكلما ازداد الطلب على القرّاء، سواء في الأعراس، أو في غيرها، ارتفع الأجر بشكل ملحوظ. "ارتفاع الأجور بهذا الشكل، يقلّل من كرامة القارئ، فتقاضي مبلغ مئة ألف جنيه نظير تلاوة آيات من القرآن مدة ساعة، أمر مبالغ فيه".

وعن المبلغ الذي يتقاضاه، يقول لرصيف22، إنه يتبع أسلوب كبار القرّاء في مصر، ومنهم الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ محمد رفعت، وهو الحصول على المقابل المادي كهبة من الذين يطلبونهم، من دون تحديد المبلغ. "يجب تلبية طلبات الناس جميعهم، سواء أكانوا فقراء، أو أغنياء، والرضا بما نحصل عليه من الناس، وليس المال. مشايخنا كانوا زاهدين"، يضيف.

معظم قرّاء القرآن في مصر، يندرجون أمام السلطات الضريبية تحت مسمى "أصحاب المهن الحرة"، ولا يمتلكون سجلاً تجارياً، ومن ينتمي منهم إلى نقابة القرّاء، يُسجّل في الضرائب، لكن الغالبية العظمى من المقرئين لا يخضعون للنقابة، وتالياً لا يوجد إقرار ضريبي لأرباحهم

"من الحكايات المتداولة عن الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، أنه عندما كان يقرأ في عزاء أحد الأشخاص في بلدته سوهاج في إحدى المرات، كان الرجل قد اتفق معه على مبلغ 200 جنيه مقابل التلاوة، وعندما انتهى أعطاه 20 جنيهاً خطأ، ولم يطالبه الشيخ الذي كان يلقّب نفسه بـ’خادم القرآن’ وقتها بالمبلغ المتفق عليه. أرسل الرجل إلى الشيخ، وأخبره بأنه أخطأ في إعطائه المبلغ المتفق عليه، فكان يحمل في جيبه ورقتين مختلفتين، وكان رد الشيخ: أخذت رزقي الذي كتبه الله لي". هي حكاية يقصّها علينا رجب إمام، أحد مؤسسي صفحة "إنقاذ التلاوة"، التي تهدف إلى إنقاذ فن التلاوة المصرية من الدخلاء عليه، وأيضاً المتاجرين به.

ويتابع إمام: "هناك تغيّرات حدثت في الموروث الخاص بالتلاوة المصرية. بعض القرّاء لا تسمح لهم أصواتهم باعتلاء دكة التلاوة، وظهر سماسرة ووسطاء بين القرّاء والناس، ودخل ‘البزنس’، وأضواء الشهرة إلى هذه المهنة، حتى أن بعض القرّاء يتقاضون أجوراً مبالغاً فيها بشكل كبير".

هذه التغيّرات، وفق إمام، وصلت إلى حد إطلاق بعض القرّاء أسماءً غريبة على أنفسهم، حتى وصل الأمر للتشبه بالمطربين، إذ أطلق أحد المشايخ على نفسه لقب "هضبة التلاوة"، وكأنه يسير على نهج المطرب عمرو دياب.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard