كالكثيرين الذين في مثل عمره، كان الطفل مصطفى إسماعيل يجد متعته في اللهو ويحاول التملص من الذهاب إلى الكتّاب (مركز تحفيظ القرآن) نزولاً على رغبة جده.
ولأن الجد رأى مصطفى موهوباً منذ الصغر، حرص على ألا تضيع موهبته هَبَاءً وكرّس جزءاً كبيراً من وقته لمتابعة حفيده. وفي إحدى زياراته إلى المركز، أبلغه شيخ مصطفى أن لدى الأخير ما يجعله يتربع على عرش التلاوة في مصر، طالباً منه أن يقسو عليه ليخفف من "شقاوته".
كانت نبوءة شيخ الكتّاب صائبة، فاليوم، بعد مرور 41 عاماً على رحيله، لا يزال الشيخ مصطفى إسماعيل صاحب المقام الرفيع في تلاوة القرآن، ويعرفه الملايين من المسلمين من الإرث الكبير الذي تركه.
في لقاء مع عاطف إسماعيل، الإبن الأكبر وحامل أسرار والده، تحضر محطات عديدة من حياة قارئ الملوك والرؤساء، يسردها الابن بحماسة وفخر، مضيفاً تفاصيل جديدة على قصة شيخ فريد شغل الناس في حياته ومماته.
"سيكون ذا شأن عظيم"
وُلد الشيخ مصطفى في السابع من حزيران/ يونيو عام 1905، في قرية ميت غزال التابعة لمحافظة الغربية. في أحد الأيام، اصطحب الجد الحفيد إلى طنطا وخلال الاستراحة الخاصة بصلاة العصر ألقى مصصطفى على مسامع الموجودين داخل المسجد بعض آيات من القرآن الكريم. بعد انتهائه من التلاوة، هرول رجل مسرعاً نحو الجد ليسأله عن الفتى ناصحاً إياه باصطحابه إلى المعهد الأزهري، حيث تلقى لاحقاً علوم القرآن وأتم حفظه في عمر الثانية عشرة.
صادف الجد رجلاً آخر نصحه بعدم التركيز على علوم القرآن والاستفادة من صوت الفتى وأدواته التي "إن استخدمها جيداً سيكون ذا شأن عظيم".
بعد مدة، صادف الجد رجلاً آخر نصحه بعدم التركيز على علوم القرآن والاستفادة من صوت الفتى وأدواته التي "إن استخدمها جيداً سيكون ذا شأن عظيم". وبالفعل، أخذ الجد بالنصيحة ودفع بحفيده للتركيز على أحكام القرآن الذي أتم حفظه بالقراءات العشر في عمر الخامسة عشرة.
خامة صوته
امتلك الشيخ مصطفى خامة صوتية تمزج بين القوة والجمال، وتنتمي إلى طبقة "التينور" وهي أعلى طبقة في أصوات الرجال، وهذا ما ساعده في بلوغ الجواب وجواب الجواب بمنتهى اليسر، بل المكوث في الطبقات العليا وقتاً طويلاً.
كذلك امتاز صوته بعذوبته وبالقوة والمساحة الشاسعة فيه، إذ يرتل كبار القراء على مقامات ثمانية أساسية هي الصبا والنهاوند والعجم والبيّاتي والحجاز والرست والسيكا والكرد، وينتقلون بينها حسب ملاءمتها للمعنى والجرس الموسيقي للكلمات، لكن الشيخ مصطفى لم يكتف بالترتيل على هذه المقامات بل قام بالتنويع على فروعها التي تصل إلى 19 مقاماً فرعياً.
عاشق للرياضة
عدا صوته العذب، كان للشيخ مصطفى العديد من المواهب مثل ركوب الخيل، فأنشأ اصطبلاً بعزبته في ميت غزال. وبرع أيضاً في صيد الطيور والحيوانات البرية، كما خصص ساعة كل يوم من أجل المشي في حي الزمالك الذي كان يقطن فيه خلال إقامته في القاهرة.
القارئ المتحرر
الصورة السائدة عن المشايخ آنذاك كانت ميلهم للتشدد، لكن الشيخ مصطفى كان متحرراً بشكل كبير مقارنة بمعاصريه. لم يجبر أحداً من أبنائه على حفظ القرآن، كما لم يفرض على زوجته ارتداء الحجاب وظلت هكذا حتى مع ذيوع صيته. وكان يرد على منتقديه بالقول: "إذا كان وجه المرأة عورة فوجه الرجل أيضاً، ويجب عليه تغطيته هو أيضاً".
عندما فكّر ابنه البكر عاطف في السفر للدراسة في ألمانيا شجعه على ذلك، وعندما فكر في الزواج بألمانية قال له: "أنت لم ترتكب جرماً ولا فعلت حراماً، توكّل على الله لكن لا تجبرها على شيء، فهي تعبد ربنا، ونحن نعبد ربنا ولكن كل واحد فينا يعبده على طريقته، بأخلاقك الحسنة ستتبع خطواتك".
وبالفعل، عمل عاطف بنصيحة أبيه حتى طلبت زوجته منه أن تُسلم بمحض إرادتها، بعدما علمت عن الإسلام الكثير ورأت حُب الناس للشيخ الجليل.
خروف أدخله قصر الملك
كان الشيخ مصطفى يتقاضى في بداية مشواره خمسة قروش في الليلة، وذلك قبل أن تطأ قدماه قصر عابدين ويصبح قارئ الملك فاروق الأول.
مع دخوله القصر، ذاع صيته حتى أن مشايخ بعض القبائل في سيناء طلبوه لإحياء إحدى المناسبات، وبعدما فرغ الشيخ من التلاوة منحوه 100 جنيه ذهبية، فعاد إلى قريته واشترى بالمبلغ عزبة.
"الشيخ مصطفى إسماعيل كان متحرراً بشكل كبير مقارنة بمعاصريه. لم يجبر أحداً من أبنائه على حفظ القرآن، كما لم يفرض على زوجته ارتداء الحجاب"... ابنه البكر وحافظ أسراره يروي فصولاً من حياته
اشترى الشيخ كذلك سيارة جديدة. وأثناء جلوسه في المنزل، سمع ضجيجاً فخرج ليجد أحد الخرفان يضرب رأسه بباب السيارة. نزل مسرعاً ليجد الباب في حالة يُرثى لها جعلته يتوجه إلى القاهرة لصيانته. هناك، كان عليه أن ينتظر 24 ساعة حتى يتسلم السيارة، فقرّر التوجه إلى "رابطة تضامن القراء" حيث قابل رئيسها الشيخ محمد الصيفي الذي استقبله بالترحاب حين عرف هويته، قائلاً: "سمعت عنك الكثير... سمّعنا حاجة".
لبّى الشيخ طلب الصيفي، وفور انتهائه من التلاوة قال له: "أنت مكانك هنا وليس في طنطا، لازم تجي معي إلى الإذاعة". ذهب الشيخ مصطفى إلى الإذاعة فأبهر الجميع بقراءته، حتى أن الملك فاروق طلبه ليكون قارئه الخاص.
ذهب أحد ضباط الحرس الملكي لاصطحاب الشيخ إلى قصر عابدين، ثم أمر الملك بحجز جناح كامل للشيخ في فندق "شيبرد" في القاهرة، حيث كان يُفترض إحياء ذكرى وفاة الملك فؤاد، في الثامن والعشرين من نيسان/ أبريل عام 1944.
وخلال المناسبة، قام الشيخ بتلاوة سورة إبراهيم بحضور سفراء عدد كبير من الدول العربية والغربية. وظل الشيخ مصطفى قارئ القصر الملكي الأول منذ عام 1944 حتى قيام ثورة 1952. وخلال تلك الفترة لم يكن الملك يخطو خطوة إلا بصحبته.
موقف مع الشيخ الشعشاعي
نظراً لبزوغ نجم الشيخ عقب دخوله القصر الملكي، بات القارئ الأول لدى عدد كبير من أثرياء مصر في تلك الفترة؛ وكان يتقاضى 20 جنيهاً في الليلة. هذا المقابل كان أقل مما كان يتقاضاه الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، أي 30 جنيهاً.
"أي شخص كان يغني أو يقرأ كنت أعلم بماذا سيبدأ وكيف سينتهي، لكن الشيخ مصطفى هو الشخص الوحيد الذي لا يمكن توقعه لقدرته الكبيرة على تكييف المقامات خدمة لصوته"
وفي إحدى المناسبات، عرض أحد الأشخاص على الشيخ 50 جنيهاً، لكنه رفض وعلل سبب رفضه بأنه لا يصح أن يحصل على مقابل أعلى من الشيخ الشعشاعي الذي يفوقه في العمر ويسبقه في المهنة.
قارئ الملوك والرؤساء
كما جعله الملك فاروق قارئ القصر الأول، استحوذ الشيخ الشيخ مصطفى على إعجاب كل من تولى رئاسة مصر. ومن هؤلاء محمد نجيب الذي تولى مقاليد الأمور خلفاً للملك فاروق، فجعل الشيخ القارئ الأول لجمهورية مصر العربية بعد تحويلها من الملكية.
كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كذلك من عشاق صوت الشيخ مصطفى، ومثله الرئيس الراحل أنور السادات.
"لو سمعك والدي لما مات"
عندما سئلت أم كلثوم من تُحب أن تسمع قالت: "مصطفى إسماعيل"، فأعاد السائل الكرّة فأكدت قائلة: "إسماعيل، هذا الشخص تخت موسيقي كامل".
"فوجئت بوجود والدي في القدس برفقة السادات خلال توقيعه اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني، وعندما سألته قال لي: لقد فوجئت تماماً بها مثلك"... فصول من حياة قارئ القرآن الشهير الشيخ مصطفى إسماعيل
أما الموسيقار محمد عبد الوهاب فقال مرة: "إنه قارئ لا أستطيع مجاراته في صوته. أي شخص كان يغني أو يقرأ كنت أعلم بماذا سيبدأ وكيف سينتهي، لكن الشيخ مصطفى هو الشخص الوحيد الذي لا يمكن توقعه لقدرته الكبيرة على تكييف المقامات خدمة لصوته"، مضيفاً: "كبير في المفاجأة وكبير في الارتجال وكبير في مستوى الصوت".
وفي عزاء الشيخ، حضر الموسيقار الكبير رياض السنباطي وكانت المرة الأولى التي يخرج فيها من مصر الجديدة حيث يسكن، وقال وقتذاك: "نظراً لعظمة شيخنا الجليل كان يجب علي الحضور".
في العزاء، توجه السنباطي لعاطف وقال له: "من أيام عبده الحمولي حتى الآن منشدين ومنشدات، مطربين ومطربات، مقرئين وقارئات ميعملوش عقلة من الإصبع الصغير في يد والدك"، مكملاً "الشيخ سمع كل الموجودين على الساحة وأخذ منهم وزاد عليه 20 مرة، كما قام بتنظيم التلاوة ووظف المقامات لخدمتها... فهل تعلم أن أساتذة المعاهد الموسيقية لم يقدر أي شخص منهم على ترتيب المقامات بهذا الشكل كما فعل والدك؟".
صداقة فنية
ثمة عدد من عمالقة التلاوة في حياة الشيخ مصطفى، لكنه كان يحب أن يسمع القرآن من الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي والشيخ محمد رفعت، وكان المقربون منه من القراء محمود علي البنا ومحمد رفعت وعبد الباسط عبد الصمد وأبو العينين شعيشع. ومن خارج الوسط، كانت تجمعه صداقة بالموسيقار محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وبليغ حمدي.
زيارته للقدس والغضب العارم
حين وقّع السادات اتفاقية كامب ديفيد، كان الشيخ بصحبته. لم تكن تلك زيارته الأولى إلى القدس، فقد سبق أن زارها بصحبة عبد الناصر عام 1960 وقرأ القرآن الكريم في المسجد الأقصى في إحدى ليالي الإسراء والمعراج، لكن هذه المرة كان لها وقع مختلف.
"فوجئت بوجود والدي في القدس برفقة السادات خلال توقيعه اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني، وعندما سألته لماذا لم تخبرني بهذه الزيارة قال لي: لقد فوجئت تماماً بها مثلك، جاءني ضابط قبل 24 ساعة من السفر وقال لي جهز نفسك وهات شنطتك وتعال معنا ستذهب مع الرئيس إلى القدس"، يقول عاطف.
كان الشيخ سعيداً بتلك الزيارة التي منحته شرف قراءة القرآن للمرة الثانية في المسجد الأقصى. أما موقفه من الإتفاقية فكان يكتفي عند سؤاله عنه بالقول: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير".
يُذكر أن دولاً عربية عدة غضبت بشدة من زيارة الشيخ للقدس بصحبة السادات خلال توقيع الاتفاقية، واتهمته بالتطبيع كما أوقفت إذاعاتها بث تسجيلاته.
وكان السادات من العاشقين للقارئ الكبير، لذلك حرص على اصطحابه معه إلى القدس برغم وجود العديد من القراء العظام في ذلك الوقت. وكان آخر ما قرأه الشيخ مصطفى في حضرة السادات خلال افتتاح أحد المساجد في دمياط، وبعد ذلك أصيب بجلطة في فيلته في الإسكندرية، توفي على أثرها فأمر الرئيس بدفنه في منزله في قرية ميت غزال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...