لماذا غاب ذكر قارئات القرآن في مصر، وانطفأ وهجهن؟ هل هي حلقة جديدة من حلقات التضييق على المرأة، ومحاولة تهميشها خارج السياق الاجتماعي، وحصر دورها في المنزل وتربية الأطفال؟
أياً كان السبب، فالثابت تاريخياً أنه كانت في مصر قارئات قرآن من طراز رفيع، صدحن عبر الإذاعة، وسجَّلن بأصواتهن آيات الذكر، بل إن بعضهن كُن يمنحن إجازة للقراءة، وتتلمذ عليهن بعض مشاهير القراء الرجال، قبل أن تُطوى صفحاتهن، ولا يبقى منهن سوى ذكريات في كتب التاريخ.
الحكاية بدأت من باب غير معهود، اشتُهرت فيه النساء، ولم يقارعهن الرجال هذه المرة: "النياحة والتعديد"، أي من النساء اللواتي كنَّ يُستأجرن للبكاء على الميت، وإثارة مشاعر الحضور، في بداية القرن العشرين، على أساس أنه كلما كثر البكاء والعويل كانت مكانة الفقيد أكبر، بحسب معتقد كان سائداً.
ومع الوقت، بطلت هذه العادات جزئياً، ولكن استمرت الحاجة إلى من تُحيى أيام الحزن الثلاثة على الميت في بيوت النساء، إذ لم يكن مسموحاً باختلاط الجنسين في ذاك الوقت، فاحترفت بعض "النائحات" تلاوة القرآن، ومع الوقت استقلَّت المهنة بنفسها، وظهرت قارئات محترفات، درسن وتتلمذن في المعاهد العلمية المرموقة.
زخرت القرى والأحياء بمئات القارئات ذوات الصوت الحسن، وإن لم يتجاوز صيتهن دوائرهن المحلية لأسباب يطول شرحها. إلا أن بعض القارئات عرفن إلى الشهرة سبيلاً.
الشيخة أم السعد... أستاذة القراءات العشر
هي أم السعد محمد علي نجم، السيدة الوحيدة التي تخصصت في القراءات العشر، وعكفت طوال 60 عاماً على منح الإجازة للقُرَّاء من شتى أنحاء العالم، ومن أبرز من تتلمذوا عليها الشيخ أحمد نعينع والشيخ مفتاح السلطني.
وسند أم السعد من أعلى الأسانيد، وهو مشهور بين كل طلابها وعلى جميع مواقع القراءات.
ولدت عام 1925 بالمنوفية، وفقدت بصرها وعمرها عام بسبب الجهل والطب الشعبي اللذين أفقدا طه حسين بصره قبلها.
وكعادة الريفيين وهبها أهلها للقرآن، فحفظته بمدرسة حسن صبحي بالإسكندرية وعمرها 15 عاماً، ثم ذهبت إلى الشيخة نفيسة بنت أبو العلا، "شيخة أهل زمانها" كما توصف، فاشترطت عليها لتعليمها القراءات العشر ألا تتزوج أبداً، خوفاً من أن يؤثر الزواج على مسيرتها، فوافقت.
ولم تستطع أم السعد الوفاء بعهدها لشيختها نفيسة للنهاية، فتزوجت الشيخ محمد فريد نعمان، أول من منحته إجازة في القراءات، وكان ضريراً هو الآخر، ومن أشهر القراء في الإذاعة في هذه الفترة.
الشيخة كريمة العدلية... الحب عبر القرآن
في بداية القرن العشرين، ربطت قصة حب أفلاطونية بين الشيخة كريمة العدلية والشيخ علي محمود القارئ وأستاذ الموسيقى العربية المعروف، فكان كل منهما يُنصت للآخر وهو يقرأ أو ينشد، فيشعر أنه نصفه الآخر.
وكانت كريمة تُصلّي الفجر في الحسين لتسمع صوت محمود وهو يرفع الآذان، فيما كان علي يتابعها في كل مكان تذهب إليه لينصت إلى مدائحها وتلاوتها العذبة.
ومن اللافت تاريخياً أن الشيخ علي كان يفضِّل صوت كريمة على كثير من القراء الرجال والفنانين، ممن تتلمذوا على يديه، ومنهم: محمد رفعت، وطه الفشني، والبهتيمي، وزكريا أحمد، والموسيقار محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وأسمهان.
وانتهت قصة الحب بزواج علي وكريمة، وصدحهما معاً في الإذاعة المصرية.
ومن الطرائف التي رصدتها مجلة الراديو المصري في عددها الخامس والخمسين، الصادر في الأيام الأولى من أبريل عام 1936، أن الإذاعة قدَّمت الشيخة كريمة العدلية مرتين في يوم واحد، الأولى كقارئة للقرآن في السابعة صباحاً، والثانية كمطربة في العاشرة وأربعين دقيقة مساء.
كانت في مصر قارئات قرآن من طراز رفيع، اشتهرن عبر الإذاعة، وتعلم على أيديهن بعض مشاهير القراء الرجال...
تخيلوا كل ما قد يحمله صوت نسائي يرتّل القرآن... عن نساء صدحت أصواتهن عبر الإذاعات قبل زمن التطرف الديني
الشيخة منيرة عبده... قتيلة "صوت المرأة عورة"
بدأت القراءة وعمرها 18 عاماً، وكان لها جمهور في العالم العربي، حتى عرض عليها ثري تونسي أن تحيي رمضان في قصره بصفاقص، مقابل ألف جنيه، وهو رقم ضخم للغاية في عام 1925، لكنها رفضت، فاضطر إلى الحضور والإقامة في القاهرة لينعم بترتيلها طوال الشهر الفضيل.
ومع إطلاق الإذاعة المصرية عام 1934، صدحت منيرة مع زميلاتها عبرها، وكانت تتقاضى 5 جنيهات، في الوقت الذي كان الشيخ محمد رفعت يتقاضى فيه 10 جنيهات.
ولم تتوقف سوى في نهاية الثلاثينيات من القرن المضي حين صدت فتوى تحرم صوت المرأة.
وعن ذلك كتب محمود السعدني في كتابه "ألحان السماء": "قبل الحرب العالمية بقليل، أفتى بعض المشايخ الكبار بأن صوت المرأة عورة، وهكذا اختفت الشيخة منيرة من الإذاعة، وتوقفت إذاعة لندن وإذاعة باريس عن إذاعة أسطواناتها خوفا من غضب المشايخ الكبار".
الشيخة خوجة إسماعيل... مسؤولة التلاوات النسائية في الإذاعة
قدمت الإذاعة لأول مرة يوم 19 أبريل عام 1936، ثلاث تلاوات للشيخة خوجة إسماعيل، وزاد الاهتمام بها، حتى أسندت إليها جميع التلاوات النسائية في شهر مايو من العام نفسه، وبلغت ثلاث تلاوات في الأسبوع الواحد، حتى اختفت تماماً في ما بعد.
والغريب أن الإذاعة المصرية كانت تحجب تماماً صوت القارئات في شهر رمضان، وكأن تلاوتهن حلال خارجه، وحرام فيه.
جنازة شعبية للشيخة أم محمد
أحيت أم محمد الليالي في قصور مسؤولي الدولة وقادة الجيش، في عهد محمد علي باشا، خصوصاً في رمضان.
وكرَّمها محمد علي، ومنحها الكثير من الهدايا والجوائز وأمر بسفرها إلى اسطنبول لتحيي شهر رمضان في حرملك السلطانة، وماتت قبل هزيمة الباشا، ودفنت في مقبرة خصصت لها في مقابر الإمام الشافعي، بعد جنازة رسمية وشعبية هائلة.
من الشيخة إلى المطربة... "سكينة حسن" ضحية الأزهر
تضاربت الأقوال بخصوص تاريخ ميلاها، فقيل 1880 وقيل 1896.
ولدت ضريرة في صعيد مصر، فألحقها والدها بالكُتَّاب لتعلم القرآن، ورتلت القرآن والتواشيح في المناسبات الدينية، وسجلت بعض آيات الذكر على أسطوانات، لكن الأزهر، وفقاً لبعض المصادر، مثل الكاتب عصمت النمر، في مقال له بالعدد الثاني من جريدة "داليدا" الصادرة في أكتوبر 2016، حرّم هذه التسجيلات، ما دفعها لهجر القرآن إلى الغناء.
هكذا، سجَّلت مجموعة من القصائد والأدوار والطقاطيق القديمة، وغيَّرت اسمها إلى "المطربة سكينة حسن"، في بداية عشرينيات القرن العشرين. لها ترتيل مسجل منذ عام 1911، وتوفيت عام 1939 أو عام 1948.
الشيخة نبوية النحاس... آخر سيدات الإذاعة
استمرت تلاوة النساء، سواء في الإذاعة أو مختلف المناسبات في ربوع مصر، حتى عام 1973، وكانت الشيخة نبوية النحاس آخر سيدة مصرية ترتل القرآن الكريم في الاحتفالات العامة عام 1973 طاوية راية النساء في الإذاعة.
وممن اشتهرن أيضاً، وإن لم تتوافر عنهن معلومات كبيرة، الشيخة نفيسة بنت أبو العلا، شيخة أم السعد. لم تتزوج ووهبت حياتها للقرآن، وماتت باكراً وعمرها 80 عاماً، رغم كثرة من تهافت عليها للزواج بها.
ومنهن الشيخة مبروكة التي يوجد لها تسجيل قرآني عام 1905، وتلت ما تيسر من سورة الإسراء عام 1911.
أم كلثوم ووردة... سفيرات الفن في التلاوة
اشتهرت كوكب الشرق بتلاوة القرآن الكريم، في بداية حياتها، إلى جانب التواشيح الدينية، وهو ما ظهر جلياً في أحد مشاهد فيلمها "سلامة" إذ تلت ما تيسر من سورة إبراهيم.
ويقول الكاتب الراحل سعد سامي رمضان في كتابه "أم كلثوم... صوت في تاريخ الأمة" إن أم كلثوم سجلت القرآن كاملاً بصوتها، وأوصت بإذاعته بعد وفاتها بعشرين عاماً، لكن أحداً لم يطلع على هذه التسجيلات أبداً، ما يُشير إلى أنها ربما تكون مجرد شائعة.
ولم تكن أم كلثوم وحدها من الفنانات المشهورات اللواتي قرأن كتاب الله، إذ قرأت وردة الجزائرية بضع آيات من سورة آل عمران، في فيلم ألمظ وعبده الحامولي.
هل تُعيد سمية المجد للقارئات؟
وفي العصر الحديث ظهرت مرتلات من شرق آسيا يتمتعن بأصوات رائعة، ومن مصر خرجت سمية علي عبد العزيز الديب، المولودة في بنها عام 1994، من أسرة قرآنية شهيرة.
حفظت القرآن وعمرها 6 سنوات، وحصلت على الإجازة فيه برواية حفص عن عاصم، من الشيخ أحمد شرف، ودرست المقامات الموسيقية وأتقنتها، ومثلت مصر في كثير من المحافل الدولية.
صوت المرأة ليس عورة
"صوت المرأة عورة"، كانت هذه هي الحجة الأبرز للتضييق على المرأة، ومنعها من تلاوة القرآن الكريم في الإذاعة المصرية، لكن التاريخ يروي قصة الصحابية "أم ورقة الأنصارية" التي بايعت النبي وروت عنه الحديث، ويثبت أنها كانت قارئة رائعة الصوت واشتهرت بكثرة صلاتها، واستقطابها عدداً كبيراً من النساء، حتى كان الرسول يجعل لها في بعض الأحيان مؤذناً يُؤذِّن لها.
ومما يُؤثَر أيضاً أن الصحابيات كن يجلسن في المجالس العامة أيام الرسول ويشاركن بآرائهن ولم يقل لهن النبي ولا واحد من خلفائه إن صوتهن عورة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت