"المولوية المصرية" ليست مجرد فرقة تقدم عرضاً فنياً، بل هي طقس ذو أبعاد دينية وفلسفية يتحقّق أمام عيون المشاهدين.
فالراقصون أو الدراويش يرتدون ملابس رمزية، هي ثوب أبيض فضفاض وقبعة دائرية، يرفعون أيديهم إلى السماء ويدورون حول أنفسهم بعكس عقارب الساعة، بطريقة تحاكي حركة الكواكب في السماء، ترافقهم ألحان الناي ليندمجوا أكثر مع الحالة الروحية، فيدوروا لساعات من دون أن يشعروا بالوقت.
ولادة الرقص المولوي
تعود الجذور التاريخية للرقص "المولوي"، بحسب الدكتور خالد أبو الليل أستاذ الأدب الشعبي في جامعة القاهرة، إلى الشيخ جلال الدين الرومي (1207-1272 ميلادي). فهو كان يسير في أسواق مسقط رأسه في إقليم خراسان الذي يشمل إيران وأفغانستان وبعض مناطق آسيا الوسطى، ويتوقّف أمام أحد متاجر بيع الذهب ويستمع إلى ضربات مطرقة الصائغ.
يقول أبو الليل: "سرعان ما شعر الشيخ جلال بأنّ نغمات الحبّ الإلهي تتسّرب إلى نفسه من خلال هذه الضربات، فراح يدور ويدور حول نفسه مردّداً في دورانه ذكر الله. وقد انضمّ الصائغ إلى الشيخ أيضاً ليدورا حول نفسيهما".
[caption id="attachment_47341" align="alignnone" width="700"] فرقة المولوية أثناء إحدى الرقصات[/caption]ويشير أبو الليل إلى أن الرومي، عند تنقّله في تركيا، وخلال زياراته بغداد ودمشق، كان ينظم الأشعار التي تنشد في حلقة الذكر المولوية، وينقل إلى النّاس رؤيته الخاصة من ناحية الرقص الدائري وأهميته للتوحّد بالله. وبسبب معاصرته عهد الاضطرابات والحروب من فتنة جنكيزخان حتّى الحروب الصليبية، وجد أن الطريقة المولوية تحافظ على الإسلام في النفوس وتحثّ المسلمين على التماسك والحفاظ على وحدتهم.
لا يقوم الرقص المولوي الصوفي على حركة الدوران لوقت طويل فقط، إنما هناك مراحل عدّة يمرّ بها حتى يصل إلى أعلى الدرجات أو الصفات، التي تطلق على المنتسب القديم للطريقة المولوية. فالمرتكز الأساسيّ في هذا الرقص هو الذِكر، أي مجموعة الابتهالات والأدعية والأناشيد الدينية. وتبدأ حلقة الذِكر بتلاوة من القرآن الكريم ثم تلاوة الابتهالات والأدعية التي تُعرف بالأوراد.
ويلفت أبو الليل إلى أن كلّ حركة يقوم بها الدراويش لها دلالتها الطقسية، كذلك الأمر بالنسبة لأزياء الراقصين. فهم يرتدون اللبّادة التي تمثّل شاهدة قبر النفس الأمّارة، بينما ترمز التنّورة البيضاء إلى كفنها. وحين يبدأ الراقصون الدوران، يخلعون جبّتهم السوداء، ما يرمز إلى البعث والولادة في عالم الحقيقة، وعندها تبدأ الرحلة الروحانية للدراويش. ويعتبر الدراويش أنهم يتخلّصون خلال دورانهم من المشاعر النفسانية ويعيشون حالة خاصة تبعدهم عن العالم المادي وتأخذهم إلى الوجود الإلهي.
حتّى اليوم، ما زالت الطريقة المولوية معتمدة في المركز الرئيسي الذي تأسست فيه من قبل الشيخ جلال أي مدينة قونية التركية. وقد اتسعت دائرتها لتشمل العديد من الدول الإسلامية. ونادراً ما نجد اليوم أي دولة تحيي مناسبة دينية مثل ذكرى المولد النبوي الشريف أو ليلة الإسراء والمعراج بالإضافة إلى الليالي الرمضانية وغيرها من المناسبات من دون وجود الراقصين المولويين.
[caption id="attachment_47343" align="alignnone" width="350"] عامر التوني مؤسس فرقة المولوية[/caption]ويكون لكلّ مناسبة الأناشيد والأدعية الخاصة بها، ما يجعل رقص المولوية إرثاً دينياً واجتماعياً تفخر به الشعوب الإسلامية. الطرب الدينيّ الذي يرافق الرقص له التأثير الأكبر على الحاضرين، فيشعرون بالهدوء والسكينة والتخلّص من القلق والريبة، بحسب ما يؤكد عامر التوني، مؤسس فرقة المولوية المصرية.
وعلى الرغم من تجاوز عمر الفرقة العشرين عاماً، فلم تزل تحظى بقبول الجميع ممن يعشقون اللون الصوفي. يقول التوني: "أسست الفرقة عام 1994، وتخصصت في تقديم اللون الصوفي والروحي، بما فيه من رموز ودلائل. لكنني لم أتبع طريقة صوفية معينة حتى لا أحسب عليها. فكما هو معروف هناك مدارس في التصوف مثل مدرسة العشق الإلهي، وتأتي على رأسها رابعة العدوية، وكل منها تتبنى فلسفة معينة، وهو ما بعدت عنه، وتناولت الصوفية بشكلها البسيط حتى لا أقع في متاهات. فهناك من يرى الصوفية نوعاً من الخرافة والأساطير".
وأضاف: "نحن نعتمد على تحقيق التوازن في ما نقدمه، ونحاول أن نقف في منطقة معتدلة من التصوف، خصوصاً أن الجمهور يريد أن يعيش في المنطقة الناعمة الخفيفة، من دون الدخول في الفلسفات. ما نقدمه أشبه بالحضرة التي ننقل جوها إلى المسرح من خلال محتوى وصلت إليه بعد دراسة المولوية بشكلها القديم وفهم أصولها، ومنها خرجت بالشكل الحالي المتماسك الذي يتضمن أكواداً وشفرات، تلقى للجمهور بوعي بما فيها من علامات رمزية أو إشارية".
وأوضح أن كل من يقدمون هذا اللون هم أتباع جلال الدين الرومي. ويضيف: "لكنني عندما قدمته أعطيته الهوية المصرية كابن للحضارتين الفرعونية والإسلامية، مبيّناً أن المولوية منتج صوفي نشأ عن الحضارة التركية، وهي حضارة بحر وجمال وسخونة وتتابع للأمواج، بينما نحن حضارة بحرين ونيل هادئ، وبالتالي الإيقاع مختلف".
ويتابع: "إذا كان جلال الدين الرومي رقص ولف العالم حزيناً لفقده شمس الدين التبريزي، فالمولوية المصرية تلف العالم فرحاً بديننا الإسلامي وبالطقس البهيج. وبالتالي لا نغني أشعاراً فارسية أو تركية، لكننا نغني أشعار ابن الفارض وغيرها من الأشعار المصرية التي ألحنها بكل الإيقاعات المباحة المبهجة لكل الحضور. فتحوّل طقس المولوية من طقس حزن كما هو معروف عنه في العالم كله، إلى طقس فرح”.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...