يقولون إن النساء عموماً والنسويات خصوصاً أصبحن ثقيلات الظل، يتحدثن عن المشكلات طوال الوقت، ويبكين سراً وعلانية ويسطون على كل شيء مبهج.
وإذا التقطنا عدسة مصغرة، فسنرى أن هذا الاتهام يشمل المجموعات النسوية التي تنشر تعليقات وآراء عن مشكلات مثل التحرش والاغتصاب والتمييز على أساس النوع، وتنغص حياة الأبوية والذكورية في مجتمعاتنا.
لكن، مؤخراً، ظهرت صفحات فيسبوكية وحسابات تنادي بأفكار نسوية وتتصادم مع المجتمع الذكوري الأبوي، بمحتوى جديد ذي نكهة ساخرة معتمدة على "الكوميكس"، يكسر نمط احتكار الرجال للسخرية، وبعضهن يكسر احتكار الرجال للبذاءة أحياناً في التعبير عن أفكارهن، فيتحدثن عن المشكلات الجنسية بحرية ودون خوف من وصم أو لوم تماماً مثلما يفعل الرجل لدى الحديث عن هذه المواضيع.
التعايش مع إهانة المرأة
وانتقالاً من سرية انتقاد المجتمع في مجموعات مغلقة إلى علانية استخدام فيسبوك، تنقلنا العديد من الصفحات التي وجدت لنفسها مساحة في القالب الساخر، واتخذت النساء ليكن هن مصدر القوة والهيمنة والسيطرة بدلاً من الرجال، فصارت النكات المألوفة مقلوبة ليصير الرجل هو الطرف الأضعف، والمرأة هي الطرف الأقوى. مثل صفحة "لا لتعدد الزوجات" لمديرتها ومؤسستها سميرة عبد القادر، التي عرفت نفسها لرصيف22 أنها ناشطة نسوية شاركت في مبادرات نسوية ومهندسة اتصالات، أسست الصفحة قبل عامين حينما وجدت في الفترة الأخيرة الدعوة لتعدد الزوجات منتشرة كما لو أنها ركن من أركان الإسلام، مصحوبة بتفاسير "غريبة" ذات طابع ديني، وكان هذا السبب لتأسيس الصفحة لمقابلة الفكر المضاد المنتشر الداعي لتعدد الزوجات.
نحن كنسويات مصدر للبهجة و"الفرفشة"… تابعونا على صفحاتنا الساخرة من الذكورية لتتأكدوا من ذلك، ولتتأكدوا أننا كسرنا حتى احتكار الرجل لـ"البذاءة"
تتعجب سميرة من التعايش الكبير لمجتمعنا مع إهانة المرأة بخلاف الصفحات الفيسبوكية التي أسسها رجال، والحملات للمطالبة بحقوقهم، ذلك ما جعلها تختار النسوية، وتطلق العديد من الصفحات لمحاولة تغيير الواقع.
صفحة "لا لتعدد الزوجات" تحظى بأكثر من 42 ألف متابع/ة، وتتنوع منشوراتها الساخرة، منها حول قوانين الأحوال الشخصية والطاعة والخلع. تقول سميرة إن تلك القوانين من الأفكار الرئيسية التي تنادي بها الصفحة لأنها بحاجة ماسة للتغيير، فإذا لم تتحدث النساء بصوت عالٍ فلن يحدث تغيير.
الرجال لديهم حرية في استخدام النكات والسخرية، يغزون مواقع التواصل الاجتماعي بمئات الصفحات والآلاف من القصص الساخرة والميمز، والمحتوى الساخر بعضه يكون جنسياً وجريئاً وساخراً من النساء، تلك الحرية تصل إلى بعض المشاهير والفنانين الذين أحياناً يضعون النساء محل سخريتهم، فيكون ضرب المرأة بالكف على الوجه مثلاً مثاراً للسخرية، مثلما يفعل الفنان عادل إمام، أو الضرب على المؤخرة أو الخصر مثلما فعل المطرب تامر حسني.
كما أن النساء متهمات في مصر بأنهن "نكديات" أي يحببن الحزن، تنفي سميرة ذلك الاتهام عنهن، وتقول: "بالعكس هن مصدر للبهجة والفرفشة وخفة الدم". كما ظهرت عدة صفحات نسوية تستخدم الكوميكس والميمز الساخرة والكوميديا، فذلك يؤكد أنها اتهامات باطلة.
اختارت سميرة لصفحتها "لا لتعدد الزوجات" السخرية والميمز، تقول: "جربت أشكالاً مختلفة للمحتوى لكن وجدت أن الأسرع وصولاً وتأثيراً في المصريين هو الكوميديا، ربما لأن الناس تستخدم الكوميديا للتغلب على آلامها ومشاكلها بالضحك، وهو معروف عنا كمصريين وسط المشاكل والمواقف الصعبة، نجد متنفساً للسخرية، ووجدتها تساهم في تغيير الأفكار".
نجحت سخرية الصفحة في تغيير أفكار البعض. سميرة أكدت لنا أن بعض الشابات والفتيات وهن من الجمهور الأغلب المتابع للصفحة، أرسلن رسائل لها خلاصتها أنها ساعدتهن في تغيير أفكارهن، إحداهن قالت: "صفحتكم كانت فين من زمان" في إشارة لتقدير دور الصفحة التوعوي.
الرجال والبذاءة
يتفوق الرجال في مجال السخرية على النساء في حرية استخدام البذاءة دون قيود أو خوف من لوم ووصم، لكن سميرة ترى أن لسخريتها حدوداً، ويجب أن لا تتخطاها فهي تريد التعبير عن أفكارها دون بذاءة.
هناك تيارات في النسوية لا تؤيدها، وترى أنها لا تتفق معها، مثلاً اللواتي يصفن أنفسهن بأنهن نسويات متدينات يؤيدن تعدد الزوجات ويدافعن عن ضربهن، ويستخدمن التفسيرات التي تلقن لهن، مثل أن تعدد الزوجات مفيد في ظروف معينة، وضرب الزوجات مباح بشروط خاصة وغيرها.
تتعرض الصفحة عموماً لهجوم وتهديدات، كما أن هناك مجموعة وصفت الصفحة وغيرها بأنهن "صائدات نسويات"، وأرسلت لها تهديدات بعدما نشر أحد المواقع المصرية اسم القائمة عليها وصورتها، ثم تعرضت لحملة هجوم وتشويه، وصنع "ميمز" بذيئة للسخرية. أغلب أعضاء تلك المجموعة من "التيار المتدين"، لكنهم "يخوضون في أعراض" النسويات باعتبار أن النسوية ضد الإسلام، وتحرض على الكفر والإلحاد؛ لكنها لا تلتفت لكل ذلك.
اللافت أن تنتقل عدوى الكوميكس والميمز النسوية إلى صفحات عديدة منها صفحة "أنا ماما يالا" التي تحظى بقرابة 19 ألف متابع، وأطلقت مطلع العام الحالي لكن محتواها يختلف عن صفحة "لا لتعدد الزوجات" في حرية استخدامها للبذاءة، فلا تجد "الماما" مانعاً من استخدام المفهوم الذكوري في السخرية لتوصيل أفكارها التي تحارب الذكورية.
كذلك وجدنا صفحات عربية تتخذ من المبدأ نفسه ركيزة أساسية لأفكارها مثل صفحة "خرابيش نسوية"، التي لا تتحدى فقط الأنماط الذكورية السائدة في المجتمعات العربية، وإنما أيضاً بعض الأفكار السياسية مثل التطبيع، حاولنا التواصل مع معداتها لكنهن يرفضن الحديث إلى الصحافة في الوقت الحالي.
وفي السودان تنقلنا صفحة "بنات نعش"، التي تأسست في آذار/ مارس 2021، إلى مشكلات تعانيها المرأة السودانية، لكن بأسلوب ساخر متخذةً من النكات المصرية وأشهر الميمز من الأفلام والمسلسلات رمزاً لها.
تكسر تلك الصفحات خصائص الأنوثة الضرورية الثلاث "الصمت، الخضوع، اللاحركة" بحسب مقال لبايزيد فطيمة الزهرة بعنوان "الروح الهزلية ومتعة اللعبة اللغوية بالكلمات في الرواية النسوية: نماذج روائية"، والتي قالت (في سياق الحديث عن السخرية في الرواية، ووجدته مجدياً في سياق حديثنا) إن مجال الكتابة بالسخرية يعد متعة للعب بالرموز والاستعارات على وتر آلامها وأحزانها، ومحاولة للخروج من دائرة الخضوع والاستعباد، وأن الكتابة بالروح الهزلية (السخرية من الواقع) تعد تعبيراً عن الجروح الماضية المقنعة بقناع السخرية، كهروب من سلطة الحاكم العربي بصورة فوقية، وسلطة الرجل بصورة تحتية.
تسطيح النسوية
تنظر مي عامر الباحثة في مجال الجندر والنوع الاجتماعي بحذر إلى هذا النوع من المحتوى، تقول: "أراه جيداً لكن أتخوف من استخدام الكوميكس في مناقشة موضوعات نسوية كبيرة".
وترى أن هناك مشكلة في استخدام الكوميكس أو النكتة بشكل عام في مصر، فبعضها مبني بالأساس على فكرة ذكورية أو مشهد يحتوي على خطاب ذكوري به طرف لديه سيادة وقوة، وطرف ضعيف يتعرض لخوف أو عنف وهذا سبب الضحك، فحينما تقوم هذه الصفحات بعكس ذلك النمط لتصبح المرأة هي الطرف الأقوى، والرجل هو الأضعف فهذا غير مفيد عند مناقشة قضية من منظور نسوي، والفكاهة أو النكتة بشكل عام مصنوعة للسخرية من التنميط، ففي تعريف الكوميديا أنها تقوم على المبالغة.
كما تتخوف من أن السخرية ستؤدي إلى تسطيح القضايا، ومثال على ذلك أن أحد "الميمز" عن تعدد الزوجات، وقلبن الوضع فجعلن للرجل شعراً، وكتبن أسفله: "التعدد أمر طبيعي هو إنت تقدر كل يوم تاكل نفس الفاكهة"، هنا قد يكون الغرض من "الكوميك" أنه ضد التعدد، لكن حينما ينظر له بسطحية سيقال إن النساء يردن التعدد.
ولا تتفق مع الطرح القائل إن إعادة تدوير النكات الذكورية بشكل نسوي يخدم قضايا نسوية، وترى أن ذلك لن يؤدي إلى شيء بل هو إعادة استخدام للعنف، مثل أن نقول إن الرجال يضربون النساء، لذلك سنقوم بتسليح النساء ليقمن بضرب الرجال، هو نفس المبدأ ونفس الأدوات الذكورية، أو مثلاً الشتائم التي تصف الأعضاء التناسلية للنساء فيكون المعادل لها هو الشتائم بالأعضاء الذكرية.
قلبن الوضع فجعلن للرجل شعراً، وكتبن أسفله: "التعدد أمر طبيعي هو إنت تقدر كل يوم تاكل نفس الفاكهة"
النسويات متهمات أنهن قاتلات للبهجة دوماً لأن خطابهن الموجه للمجتمع هو خطاب نخبوي، بلغة جادة، لكن ليس بالضرورة أن يجعلن خطابهن فكاهياً ليتقبلهن المجتمع، هكذا ترى عامر، قائلة: "ليس بالضرورة ليفكوا الوجوه العابسة أن يقوموا بالسخرية، فالسخرية لا تعني أن النسويات قدمن طرحاً أو أفكاراً للمناقشة. وطالما الفكاهة هي التي بقيت ولا يوجد هناك حوار مجتمعي حول النسوية والجندر لن يحدث أي تغيير".
لا تعترض عامر على السخرية بشكل عام، لكن ترى أن استخدامها ينبغي أن يكون بحذر، حتى لا تكون الصوت الوحيد الذي يتحدث عن النسوية، وأن تكون دافعاً لعمل المجموعات النسوية للكتابة والتدوين وإنتاج القصص عن قضايانا، والعمل على فهم وتحليل الرسائل المنتجة، وتطويرها، وجعلها أكثر حساسية جندرياً.
"أنجح الصفحات التي ليس لها طابع تجاري هي الصفحات الكوميدية".
"طبيعة الشعب المصري أنه يميل إلى الفكاهة والسخرية لذلك من أنجح الصفحات التي ليس لها طابع تجاري هي الصفحات الكوميدية"، يقول فادي رمزي المحاضر في الإعلام الرقمي والتسويق الإلكتروني. مضيفاً أن هذا حدث منذ وقت طويل، فمثلاً إبان ثورة يناير ظهرت العديد من الصفحات بهذا الطابع، مثل "أساحبي" ومن هذه اللحظة بات المحتوى الساخر والكوميكس والنكت وراء نجاح الصفحة في قضية بعينها.
ويرى أن معيار نجاح تلك الصفحات هو الانتشار والتفاعل وهذا واضح في الصفحات التي ذكرناها سابقاً، كما أنه خلال العامين 2020 و2021 زادت عدد الصفحات التي تتخذ ذلك الطابع، "مما يؤكد أن الشعب المصري شعب يحب النكتة وأن القضايا التي نناقشها والتحديات اليومية في حياتنا نحب أن نعيشها بشكل كوميكس وفكاهي وساخر".
لكن رمزي يحذر من بعض ما تقدمه تلك الصفحات، قائلاً: "أحياناً تبدأ الصفحات أو المجموعات ذات الطابع الفكاهي بالشكل الساخر ثم تصل إلى عدد كبير من المتابعين، 100 ألف مثلاً، ثم نجد فجأة أن هذه الصفحات أو المجموعات تتخذ الشكل السياسي، وتنشر أفكاراً سياسية وإدارة فيسبوك أغلقت العديد منها".
ويقول رمزي، منهياً حديثه لرصيف22: "على الجمهور أن يتعامل مع هذا المحتوى بحذر، فالسوشال ميديا سلاح ذو حدين، وعلينا أن نكون حذرين من أن يندس وسط هذا المحتوى توجه سياسي معين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون