البعيد عن المشهد الأردني، قد يعتقد، حين يستمع إلى شخص يتحدث، من داخل البلاد، عن تطور أشكال العنف الواقع على النساء هناك، أن ثمة مبالغة في التوصيف، أو أن الروايات التي تصل إلى مسمعه، من وحي الخيال، وأقرب إلى مسلسلات "نتفليكس"، عن القاتلين المتسلسلين، والأدوات التي يستخدمونها في جرائمهم.
قد يرتعب السامعون/ ات، أو يشعرون بالخوف، إذا ذُكرت حادثة عنف، عن طريق الطعن، أو إطلاق الرصاص، أو الضرب بالحزام. لكن ماذا لو بحثنا أكثر عن تفاصيل الأساليب الإجرامية التي بتنا نسمع عنها مؤخراً، في المنازل الأردنية؟ على الأغلب، سنلمس "تطوراً" واضحاً تعدى الطعن، والرصاص، وآثار الضرب، ووصل إلى درجة "التلذذ" بالتعذيب.
حتى اليوم، لم يتلاشَ ذهول الأردنيين/ ات، ولم تُشفَ قلوبهم/ ن بعد، من هول الجريمة البشعة التي حدثت قبل نحو عامين، في محافظة جرش، عندما فقأ زوجٌ عينَي زوجته، فاطمة أبو عكليك، بعد أن عنّفها بالضرب المبرح، إذ وضع سيخاً محمّى بفحم النرجيلة، على عينيها، ما أدى إلى فقدانها بصرها.
تبدو حكايات العنف ضد النساء الأردنيات من وحي الخيال، وأقرب إلى مسلسلات "نتفليكس"، عن القاتلين المتسلسلين، والأدوات التي يستخدمونها.
وقبل أسبوع تقريباً، استفاقوا على خبر لا يقلّ بشاعة، إذ فارقت أم لثلاثة أطفال الحياة، نتيجة مضاعفات حرقها "بالكاز"، من قبل زوجها، بسبب "خلاف" عائلي، مكثت بعدها أسبوعاً في المستشفى، قبل أن تفارق الحياة.
وكانت الزوجة قد كتبت على فيسبوك، وهي ترقد في سرير المستشفى: "حسبي الله ونعم الوكيل، فكّرت رح يغير حياتي، بس هسا مسح كل حياتي"، في إشارة إلى زوجها، وإلى جسدها الذي انهزم أمام آلام حرقها، وآثاره، ومات!
"متى ستكون الحلقة الأخيرة؟"
تعرضت هناء، وهي سيدة لها من العمر 39 عاماً، أكثر من مرة للخنق من قبل زوجها، كما تقول لرصيف22، وبعد أن سمعت عن خبر حرق الزوج لزوجته، تضع يدها على قلبها، وتقول: "الله يستر من الي جاي".لا تستبعد هناء، وقد فضّلت الحديث باسم مستعار، بسبب تخوفاتها، أن تكون المرة المقبلة من مسلسل تعنيفها، هي الحلقة الأخيرة: "بماذا أختلف عمن فقدَت بصرها، وتلك التي حُرقت حتى الموت؟ أنا وهن في الهوا سوا، وضحايا ضرب، وتعذيب، وظلم، والنتيجة ماذا؟ إما روحنا بتطلع، وإما ننتظر إنها تطلع!".
وتروي لنا هناء تفاصيل حكايتها: "اعتدت أن ينفّس زوجي عن غضبه، بضربي بشراسة، كما يتعمد أن ينهي أي موقف بخنقي، وهو يقول: هسا بطلّع روحك بين إيدي".
"شفت الموت بعيوني أكثر من مرة"، تقول واصفةً حالها في تلك اللحظات، وتضيف: "ذات مرة، شعرت بأنني سأموت، ونطقت الشهادة في قلبي، ونظرت إلى ابني بطرف عيني، وهو يبكي، ويتوسّل لوالده كي يفلتني. حينها، تخيّلت حاله إذا متّ، وهو بين يدي أب معنِّف. ربما هي تلك اللحظة التي أمدّتني بالقوة، كي لا أموت".
لم يسبق لهناء أن تقدمت بشكوى ضد زوجها، وتبرر ذلك بأنها تربّت في منزل يحرّم عليها أن تكسر كرامته. "بالطبع ضربه وخنقه لي ليس كرامة، لكن هذه هي عقلية أهلي الذين يعتقدون أن الزوجة إذا اشتكت على زوجها، فهي تمس كرامته".
أما بينها وبين نفسها، فهي لم تتمنَ أن تتجرأ وتشتكي على زوجها فحسب، بل "تمنيت في كل مرة خنقني فيها، أن يموت، حفاظاً على كرامتي"، تختم حديثها بحزن.
قانون ولكن...
أقرّ الأردن عام 2017، قانون الحماية من العنف الأسري، وجاء في المادة السادسة منه: "تلتزم إدارة حماية الأسرة بالاستجابة لكل شكوى، أو إخبار، أو طلب مساعدة، أو حماية، تتعلق بالعنف الأسري، بالسرعة القصوى، وعلى الجهات، حال تلقيها أي شكوى، أو إخبار عن أي حالة عنف أسري، تحويلها إلى إدارة حماية الأسرة، لاتخاذ الإجراءات اللازمة بشأنها، ومن بينها نقل المتضرر إلى أقرب مستشفى، أو مركز صحي، إذا اقتضت الضرورة ذلك، ونقل المتضرر، وبموافقته، إلى مكان آمن إذا اقتضت الضرورة ذلك".وتشرح المحامية والحقوقية النسوية سماح مرمش، لرصيف22، الأسباب التي تحول دون الحد من العنف ضد المرأة في الأردن، على الرغم من النصوص القانونية ذات الصلة، ومحاولات كسب التأييد المجتمعي لهذه القضية.
لم يسبق لهناء أن تقدمت بشكوى ضد زوجها، وتبرر ذلك بأنها تربّت في منزل يحرّم عليها أن تكسر كرامته. "بالطبع ضربه وخنقه لي ليس كرامة، لكن هذه هي عقلية أهلي الذين يعتقدون أن الزوجة إذا اشتكت على زوجها، فهي تمس كرامته"
تقول إن كثيرات من ضحايا العنف، خاصةً على يد الزوج، يرفضن تقديم شكاوى، انصياعاً لثقافة "عيب أشتكي على زوجي"، وتربيتهن في مجتمعات أسرية تقول إنه "عيب تطلّع الزوجة أسرار بيتها"، فضلاً عن رعب البحث عن معيل بديل، في حال كانت لا تملك مصدراً للدخل، وفكرة "إذا انحبس زوجي، بنجوع أنا والأولاد".
إضافة إلى ذلك، تتجنب نساءٌ تقديم شكاوى بحق أزواجهن، لعدم إحساسهن بجدوى الأمر، ففي كثير من الحالات السابقة، يوقّع المعنِّف على تعهد بعدم التعرض للضحية، إلا أنه يعود ويمارس العنف بحقها، وكأن شيئاً لم يكن.
وتختم مرمش حديثها: "من الأشياء البشعة التي تحدث بحق الضحية، إذا ظهرت عليها عوامل خطورة، من جراء تعنيفها، توجّه حماية الأسرة إلى إجراء تعتقد أنه يحمي الضحية، بتحويلها إلى توقيف إداري في السجن، أو إحالتها إلى دار إيواء، ولنا في ما حدث العام الماضي مثال على نتائج هكذا إجراءات!".
طعن وحرق وضرب!
والمثال الذي تتحدث عنه المحامية، هو تعرض الفتاة الأردنية أحلام، العام الفائت، للضرب المفضي إلى الموت، من قبل أبيها، بعد أن احتفظت بها حماية الأسرة في دار إيواء، إثر تعرضها للضرب المبرح من والدها، وتوقيعه تعهداً بعدم إيذائها. وبعد خروجها من الدار، ضربها والدها وأشقاؤها، في المنزل، وهربت إلى الشارع وهي تنزف، ليلحق بها أبوها ويضربها بحجر أدى إلى وفاتها. وحسب شهود عيان، نقلوا روايتهم على مواقع التواصل الاجتماعي حينها، فإن الأب، وبعد قتله ابنته، أحضر كرسياً، وجلس بجانب الجثة، وشرب الشاي!هذه الحادثة بالطبع ليست الوحيدة، فقد شهد الأردن وفق دراسة لجمعية معهد تضامن النساء الأردني "تضامن"، منذ بداية العام، وقوع 13 جريمة قتل أسرية، ذهبت ضحيتها 13 سيدة، من بينها رجل قتل طليقته الخمسينية طعناً داخل محكمة شرعية، وابن قتل والدته الستينية طعناً في عمّان، ووالد قتل ابنته طعناً، وأب قتل ابنته العشرينية بعد أن ضربها بسلك كهربائي، لإخفاقها في مادة دراسية، وأخ قتل شقيقته حرقاً إثر خلافات عائلية، وزوج قتل زوجته خنقاً.
تمنيت في كل مرة خنقني فيها، أن يموت، حفاظاً على كرامتي.
وأكدت "تضامن"، في دراستها، على أن النساء "لا تتاح أمامهن الفرص للنجاة من العنف الأسري، ما لم يتخلصن من ثقافة الصمت، وما لم تتحمل الجهات المعنية مسؤولياتها في الوقاية، والحماية، والعلاج، والتأهيل، على المستويات التشريعية، والإجرائية، والإيوائية كافة. ويجب أن تعمل الجهات ذات العلاقة، على إنهاء أي أثر قانوني لإسقاط الحق الشخصي على العقوبات الجزائية لمرتكبي العنف ضد النساء، والفتيات، والأطفال، والعمل أيضاً للحد من التغاضي والتسامح مع مرتكبي العنف، سواء على المستوى التشريعي، أو المجتمعي".
"الحق يذهب بفنجان قهوة"
"من أمن العقوبة، أساء الأدب. طالما ما زلنا نحوم حول إسقاط الحق الشخصي، فلا أمل من الحد من جرائم قتل النساء"؛ هذا ما تقوله المحامية والحقوقية إسراء محادين، في حديثها لرصيف22، مضيفةً أن "هناك استسهالاً في ارتكاب جرائم قتل ضد النساء، في ظل وجود مادة إسقاط الحق الشخصي في قانون العقوبات، التي تُعدّ ضمانة آمنة لمن يرتكب جريمة قتل بحق زوجته، أو ابنته، أو شقيقته، وتحميه من العقوبة التي تسقط إلى النصف".وتشير المحامية إلى أن "موضة أن المجرم مريض نفسي دوماً، جاهزة كتبرير لارتكاب جرم القتل، يدعم ذلك الجاهات التي تُنهي القصة بفنجان قهوة صلح، لدى أهل الضحية. التساهل ليس من المجتمع فحسب، بل من التشريعات ببنودها وأعذارها المخففة"، وتضيف غاضبةً: "يا بنت الحلال، شخص قلع عين أمه، وماتت، وذهب حقها بفنجان قهوة!".
وخيار التسوية بين أطراف النزاع، في قضايا العنف الأسري، مطروح في قانون الحماية من العنف الأسري، إذ تنص المادة الثامنة منه على التالي: "يتم استدعاء الأطراف، وتُعقد جلسة تسوية بينهم، يتبعها إعداد تقرير مرفق بدراسة اجتماعية يعدها أخصائي اجتماعي ونفسي، ويتم الانتهاء من إجراءات التسوية خلال أربعة عشر يوماً من تاريخ عقد أول جلسة".
"موضة أن المجرم مريض نفسي دوماً، جاهزة كتبرير لارتكاب جرم القتل، يدعم ذلك الجاهات التي تُنهي القصة بفنجان قهوة صلح، لدى أهل الضحية. التساهل ليس من المجتمع فحسب، بل من التشريعات ببنودها وأعذارها المخففة. شخص قلع عين أمه، وماتت، وذهب حقها بفنجان قهوة!"
تواصل رصيف22، مع الستيني عادل أبو عكيلك، والد فاطمة التي تعرضت لفقء عينيها من قبل زوجها، لسؤاله عن سبب رفضه إسقاط الحق الشخصي عن زوج ابنته، ما أدى إلى إصدار المحكمة حكم المؤبد في حقه، وأجاب: "كيف ممكن أقبل بإسقاط الحق الشخصي، وأظلم بنتي الي انظلمت؟ أنا حتى حكم المؤبد ما فش غليل حرقة قلبي. حتى الإعدام قليل عليه".
"سنتان على الجريمة، لا نار قلبي انطفأت، ولا بصر بنتي رجع"، يقول الرجل بنبرة توحي بأن الجريمة حصلت يوم أمس، وليس قبل عامين، ويتحسر على حال ابنته التي تكابر وتخفي ألمها، حتى لا تزيد من وجعه عليها: "يكفي إنه نهار بنتي ليل، ومحرومة تشوف ولادها، أو حتى شكلها بالمراية".
ويرى والد فاطمة، أن من يسقطون حقهم الشخصي في جرائم العنف الأسري، يكونون "ناقصي عقل، ولا يملكون أي غيرة على كرامة بناتهم، أو أخواتهم. إذا اعتقدوا بأنه موقف رجولة، فهم مخطئون كثيراً".
حملات تحتاج إلى الدعم
تعمل المنظمات النسوية في الأردن، بجهد مستمر، في حملات مناهضة العنف ضد المرأة، منها ما يكون موسمياً مثل حملة 16 يوماً لمناهضة العنف المبني على النوع الاجتماعي، ومنها ما يكون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بالتزامن مع ارتفاع منسوب الجرائم."حتى لو خفّت وتيرة العنف الواقع على النساء، هذا الشيء لن يثنينا عن الاستمرار في حملاتنا"، تقول المديرة التنفيذية لمجموعة "تقاطعات" النسوية، بنان أبو زين الدين، لرصيف22، منوهّة في الوقت ذاته بأن الحملات لن يكون لها أثر مجدٍ، من دون اتخاذ الدولة إجراءات محورية تتعلق بالقوانين والتشريعات، وتعزز منظومة حماية النساء، بالإضافة إلى تفعيل آليات مراقبة، لحماية ضحايا العنف داخل بيوتهن، وليس داخل مراكز الإيواء.
وتقترح بنان بعض الإجراءات التي تساعد على الحد من العنف الواقع على النساء، من قبل الدولة، مثل نشر أسماء مرتكبي الجرائم والضحايا كذلك، ما من شأنه أن يبث الخوف لدى من يفكر في ارتكاب عنف على زوجته، أو أخته، أو أمه.
وختمت: "طالما أن هناك عقلية في مجتمعنا تقول بأن المرأة درجة ثانية، وتفرض عليها مفهوم الوصاية، فطريقنا طويل وصعب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...