في غرفة النوم أحست نهى بحركة غريبة، فتحت عينيها لتجدها واقفة عند طرف فراشها، بشعر مشعث وعينان حمراوان، تحملقان بفزع في الفراغ، لا تقول الصغيرة شيئاً، ولا ترد عندما تناديها.
يصيب الرعب الليلي 4 من كل 10 أطفال، ومريم التي أرعبت والدتها واحدة منهن.
نهضت نهى بصعوبة وقلق، وحاولت احتضان صغيرتها التي احمرّ وجهها، وتسارعت دقات قلبها، وأعادتها لفراشها.
في الصباح لم تتذكر الصغيرة شيئاً، ومع تكرار الليالي المرعبة أصيبت مريم بالشحوب والإرهاق، وكذلك والدتها.
القرآن والرقى الشرعية
نهى (32 عاماً) تقيم في الإسكندرية، وتعمل بالتسويق العقاري، حكت لوالدتها تفاصيل أسبوعها الأخير، لترد الجدة: "بسم الله الرحمن الرحيم شكلها بتشوف حاجة".
الأم الصغيرة والمذعورة ليست متعمقة بالأمور الدينية، ولكنها عملت بنصيحة الجدة، وتركت آيات القرآن تتردّد في المنزل ليل نهار، كما بحثت عن الرقية الشرعية، وردَّدتها بينما تضع يمناها على رأس مريم.
هدأت نوبات مريم ليومين، ولكنها عادت برعب أكبر، صرخة حادة انطلقت من غرفتها ثم خرجت منها مسرعة، تشعل الأنوار، وتجول في غرف المنزل بعيون فزعة ومفزعة، وحين حاولت أمها احتضانها دفعتها بعنف.
نصحوها بتشغيل القرآن.
انهارت نهى بالبكاء، وخطر لها أن تسأل الأمهات في إحدى مجموعات موقع فيسبوك، واتفقت أغلب التعليقات على أن الطفلة "ترى ما لا تراه أمها"، أو أنها "ملبوسة"، أو "البيت مسكون"، ودعوا لها، ونصحوها بتشغيل القرآن، بل وتغيير المنزل، ولكن واحدة منهن نصحتها بالقراءة عن الرعب الليلي عند الأطفال.
قضت نهى ليلتها تقرأ عن الرعب الليلي، بدأت تجد تفسيرات لتصرفات صغيرتها، واطمأنت قليلاً عندما قرأت أنه يصيب 40% من الأطفال، ويتخلص منه معظمهم ببلوغ المراهقة، وهو ما يؤكده تقرير منشور بموقع مايو كلينيك الطبي.
تتوافق تصرفات مريم كالصراخ ليلاً، ومظاهر الذعر، والتحديق بعيون واسعة، والتعرق، وصعوبة التنفس، وتسارع نبضات القلب، واحمرار الوجه، مع أعراض الرعب الليلي التي يذكرها الموقع الطبي المتخصص، كما اختبرت في ليلتها تلك المشي أثناء النوم، والعدوانية عندما حاولت والدتها توقيفها.
تقول ريهام علي، أخصائية الإرشاد النفسي وتعديل سلوك الأطفال والمراهقين، إن نوبات الرعب الليلي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتعرض الطفل لضغوط نفسية أو مشكلات أسرية، كإجباره على ممارسة نشاط غير مرغوب، أو الضرب والتعنيف، أو التنمر، أو تعرضه لقصص مرعبة.
انفتحت أرضية غرفتها، وبدأت الحمم البركانية تتصاعد، وكان عليها أن تهرب منها، ولكنها اصطدمت أثناء هروبها بوالدتها، تصيح فيها، وتدفعها لغرفتها المشتعلة بحمم النار، بملامح غاضبة
وتشدد ريهام على أهمية معرفة مصدر الضغط والقلق اللذين يتعرض لهما الطفل، وعلاجهما لتخفيف حدة نوبات الرعب الليلي، وتقليل عددها.
وكذلك شددت ريهام على ضرورة مراعاة النظام الغذائي للطفل، وتجنب المشروبات الغازية والسكريات والنشويات، لأنها تزيد من نشاطه واحتمالات تعرضه لنوبات الهلع، ونصحت باستبدالها بالمشروبات العشبية التي تساعد على الاسترخاء كالينسون، والكراوية، والبابونج.
ملامح وجه أمي
اختبرت إسراء الرعب الليلي في طفولتها، ولكن والدتها التي أنهكتها الأعمال المنزلية طوال النهار، كانت تقابل نوباتها بالصراخ والتهديد بالعنف، فتصحو من نوبات رعبها النومي على رعب آخر من العقاب الذي ينتظرها.
لا تذكر إسراء معظم نوبات رعبها، ولكن في إحداها انفتحت أرضية غرفتها، وبدأت الحمم البركانية تتصاعد، وكان عليها أن تهرب منها، ولكنها اصطدمت أثناء هروبها بوالدتها، تصيح فيها، وتدفعها لغرفتها المشتعلة بحمم النار.
استيقظت إسراء من نوبتها ولم تجد أثراً للحمم، تقول: "لم أنس تعبيرات وجه أمي الغاضبة في الحلم حتى الآن".
الطريقة الأمثل، بحسب الأخصائية النفسية، للتعامل مع نوبات الفزع هي عدم إيقاظ الطفل أو إزعاجه، فإن جلس على فراشه تحاول الأم تنويمه مجدداً برفق، أما في حالات المشي أثناء النوم فيجب أن تراقبه بهدوء بعد أن تبعد أي مصدر للخطر، وإن كانت النوبة بسيطة فيمكنها توجيهه بلطف حتى لا يصطدم بشيء أو لإعادته إلى فراشه.
أما في النوبات الأشد فيجب أن تتجنب الأم تماماً محاولة إيقاظه أو إفزاعه أو الإمساك به، لأن ذلك قد يتسبب في إصابته باضطرابات نفسية كالصدمة أو القلق المرضي، وفقد الثقة بالنفس، أو النوبات المزمنة، والاضطرابات السلوكية، وقد يصاب بالتبول اللاإرادي.
ضرورة احتواء الطفل واحتضانه إذا استيقظ أثناء نوبة الهلع.
ولفتت ريهام إلى ضرورة احتواء الطفل واحتضانه إذا استيقظ أثناء نوبة الهلع، وتشتيت انتباهه عن التركيز مع النوبة، مضيفة أنه لا بجب تذكير الطفل بما حدث، وعدم لومه أو السخرية من تصرفاته وقت النوبة، لأن ذلك سيسبب المزيد من الضغط والقلق لديه، وقد يسبب، بالإضافة لزيادة نوبات الهلع، مشكلات نفسية أكبر.
كانت أسرة إسراء، قد انتقلت لمنزل جديد في محافظة الجيزة بعيداً عن القرية التي نشأت بها في الدلتا، ولم تكن معتادة على النوم في غرفة بمفردها، ظلت تعاني الأرق ليال عدة، وأنهكها السهر، وفي النهاية كانت تنام.
لم تكن تتذكر ما يحدث في نوبات رعبها الليلية، فالشائع أن الأطفال لا يتذكرون ما يحدث في تلك النوبات، ولكن رد فعل أسرتها وخصوصاً أمها هو ما لفت انتباهها إلى وجود مشكلة.
تساهم بعض العوامل في حدوث نوبات الرعب الليلي، ومنها الحرمان من النوم، والإرهاق الشديد، والضغط النفسي، واضطرابات مواعيد النوم أو السفر أو انقطاعات النوم، والحمّى، وانقطاع النفس النومي، والاكتئاب، والقلق، وفقاً لموقع مايو كلينيك.
تراجع مستوى إسراء الدراسي، وأصبح مزاجها سيئاً، يصاحبها الإنهاك والحزن، كما خاضت مراهقة حادة كان عنوانها التمرد ورفض أسرتها التي واجهت نوباتها بالعنف والسخرية، وهو ما أغضب أسرتها أكثر.
قد يسبب الرعب الليلي مجموعة من المضاعفات، منها النعاس المفرط أثناء النهار، والذي يمكن أن يؤدي إلى مشكلات في المدرسة أو العمل أو مشكلات مع المهام اليومية، واضطراب النوم، والإحراج بشأن الرعب أثناء النوم، ووجود مشكلات في العلاقات، وجرح الذات أو في حالات نادرة شخص مقرب.
وأشارت ريهام إلى ضرورة مراعاة الفروق الفردية بين الأطفال، ومدى حساسية الطفل، وقدرته على التعبير عن نفسه، لأن الأطفال الأقل قدرة على التعبير والأقل ثقة بالنفس هم الأكثر تعرضاً لنوبات الرعب الليلية.
لا يصاب البالغون عادة بالرعب الليلي، ويتخلص منه الصغار مع بلوغ المراهقة، ولكن إسراء، التي توترت علاقتها بأسرتها، بسبب تعنيف الكبار وسخرية الصغار لم تتخلص من نوباتها تماماً، كما لم تتجاوز ضعف ثقتها بنفسها وقلقها المزمن، رغم تجاوزها 25 عاماً، وبدء خطواتها العملية كمدرسة، تزورها الكوابيس، ونوبات الفزع حتى الآن.
"الملبوسة"
ولدت إيمان، بإحدى قرى محافظة أسيوط، ومع نوبات رعبها الليلي الأولى، شخصت جدتها الحالة فوراً، قائلة: "البت ملبوسة"، ومس الجان هو اعتقاد شعبي شائع يتم إعلانه لتفسير كثير من المشكلات النفسية، خاصة في البيئات الأقل تعليماً.
سمع الجيرة وسكان المنطقة في القرية صراخ إيمان، في تلك الليلة التي أحضرت فيها الجدة رجلاً ضخماً يرتدي جلباباً واسعاً، ويحمل عصا غليظة، ومسابح، وبخور.
لم تكن إيمان تعرف ما ينوي الرجل فعله، ولكن الطفلة ضئيلة الجسد ارتعبت من الرجل الضخم، الذي هدد بضربها بالعصا الغليظة إن لم تطعه، فبادرت بالصراخ.
تحذر أخصائية الإرشاد النفسي، من خطورة لجوء بعض الأسر خاصة في الأوساط الفقيرة للدجالين، أو اتباع أساليب غير صحيحة كرش المياه في وجه الطفل، الذي يعاني من نوبة هلع، أو ربطه في الفراش، أو حبسه، أو تقييد أطرافه، لأن ذلك قد يصيبه باضطرابات نفسية وعصبية خطيرة.
أعلنت الجدة أن "البت الملبوسة" لم تطق الرجل الصالح الذي جاء ليقرأ عليها القرآن، وأن صراخها يؤكد رأيها فيها، وبدأ الجميع بتجنب إيمان، وكأن الجدة أخبرتهم جميعاً.
في المدرسة والشارع الضيق أمام منزلهم الصغير لم تجد الطفلة رفيقاً، قضت طفولتها وحيدة.
عادة لا تمثل نوبات الرعب أثناء النوم شيئاً خطيراً، إلا إذا تكررت بشكل مفرط، أو أثرت على نوم المصاب أو نوم غيره من أفراد العائلة، أو الإصابة بفرط النعاس أثناء النهار، أو تعذّر أداء الوظائف، وكذلك إذا استمرت إلى ما بعد سن المراهقة أو بدأت في مرحلة الشباب.
وصمتها جدتها باعتبارها "ملبوسة" من عالم العفاريت، مفسرة حالات الرعب الليلي التي انتابتها في الطفولة، كبرت، وغابت الكوابيس، ولكن نظرة أهل القرية لها لم تتغير
لم تكن إيمان، تعاني من نوبات يومية، ولم تمارس العنف، ولكن وصم الجدة ظل يلاحقها حتى بعد دخولها مرحلة المراهقة والشباب، وتخلصها من رعبها الليلي، بل ووفاة الجدة، تغير كل شيء وظلت هي في عيون عدد غير قليل من الأهل والجيرة والأقارب: "إيمان الملبوسة".
قضت إيمان، وقتها في القراءة والمذاكرة مدفوعة بوحدتها، تفوقت في دراستها، وحينما حصلت على شهادتها الثانوية بمجموع أهَّلها للالتحاق بجامعة القاهرة البعيدة عن مسقط رأسها، وافق والدها على أمل أن تأتيه بعريس، لا يعرف لقبها الشهير في القرية.
طارت إيمان من القرية التي وصمتها طوال طفولتها ومراهقتها، وكانت خطتها الوحيدة هي ألا تعود إليها مجدداً، وهو ما نفذته بالفعل، بعد أن أنهت دراستها الجامعية، وبدأت العمل كمترجمة في العاصمة التي لم تعرف قصتها القديمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...