شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"لغة الأطفال صارت فقيرة والخيال معدوم"... عن أغاني الجدات المنسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 3 يناير 202104:39 م

"طارت شرارة من برديس، ما طيرها إلا إبليس، حنجل بنجل، واحدة تشيل والتانية تنقل"، هكذا كانت تغني لنا جدتي في طفولتنا البعيدة، غنوة شعبية لا يعرف أحد مؤلفاً لها، كباقي أغاني الأطفال الشعبية التي كانت تنتشر في بلدان العالم أجمع، والتي كانت نافذة مفتوحة على دنيا الخيال والمشاعر.

أجواء رعب وخوف

سأل رصيف22 الروائي الجزائري سفيان مخناش، عن تلك الأغاني، فقال: "في الجزائر، كانت تنتشر هذه الأغنيات منذ سنوات طويلة، لكن بسبب قدمها لم يصلنا مَن هو مؤلفها ولا مَن واضع ألحانها، بل حتى مصدرها بقي مبهماً، خصوصاً عندما نجد الأغنية الواحدة منتشرة في دول الجوار، وربما حتى في دول بعيدة، مع اختلاف طفيف في بعض المفردات أو المعاني".

يتذكر سفيان إحدى تلك الأغاني، تقول كلماتها: "نني نني يا بشة، وش نديرو للعشا، نديرو جاري بالدبشة، ويجي فلان يتعشا"، يعلق سفيان على الناحية الإبداعية للأغنية: "كانت تُغنَّى لنا قبل النوم، وهي فعلاً تشبه القصة، فيها أحداث وحركة، مثل: نم يا قط، وهو نوع من الدلع للولد، ماذا نحضر للعشاء، نحضر شوربة بالقصبرة، ويأتي فلان، وعادة ما يسمى هذا الولد المراد تنويمه ليأتي للعشاء".

وهناك أيضاً، بحسب سفيان، أغان تحمل أجواء رعب وخوف، لتخويف الأطفال الأشقياء، "بوجغللو أغلق عويناتك، وإلا ناكل وليداتك"، بمعنى: يا الحلزون أغلق عينيك وإلا أكلت أولادك.

ومنها ما كان يستعمل لغرض الاختيار، فغالباً ما يقع الطفل في حيرة من أمره ولا يحسن الاختيار، فيلجأ لمثل هذه الأغاني.

واعتمد بعض الأطفال على تلك الأغاني حتى في امتحاناته المدرسية.

واعتمد بعض الأطفال على تلك الأغاني حتى في امتحاناته المدرسية، فيردد: "شادي بادي، قاللي راسي، ادي هذي ولا هذي، بمعنى: يا قرد قال لي رأسي اختر هذه أم تلك.

ومنها ما يستعمل في التمني، يكمل سفيان حديثه، كاستجلاب المطر، مثلاً: "يا النو صُبي صُبي، ما تصُبيش عليا، صُبي على والديا"، بمعنى: أيتها الأمطار انزلي، لكن لا تنزلي علي بل انزلي على والدي. ومنها ما نجهل مورده ومضربه وحتى معانيه، بل وبعض مفرداته دخيلة على ثقافة أهل البلد، لكن باحثين، ومن خلال متابعتهم للموضوع، وجدوا ما هو مستورد من الأندلس ومن اللغة العبرية، عبر اليهود الذين أقاموا في المنطقة، ومنها ما هو تركي، من أيام التواجد العثماني، وأيضاً ما هو فرنسي، وبمرور الزمن صارت دارجة على الألسن، مثل: "أندراداريكو شادي قطع صباطو، واش جاز عليه؟ رومي... واش في يدو؟ سلة... واش فيها؟ بيض... قداش من حبة؟ 10... ويستمر العد... طيط ماشينا، جات العودة تدينا، والماشينا طالعة لقسنطينة".

ويلفت سفيان النظر إلى أن تلك الأغاني في سبيلها للانقراض، فلم تعد تحتل مساحتها التي كانت في يوميات الجزائريين: "صار الطفل يلعب ويقوم بالواجبات المنزلية ويحل مشاكله بمفرده، ما نتج عنه عدة عقد نفسية، حيث أصبح الهاتف هو الصديق واللعبة الإلكترونية هي العالم الحقيقي وما سواها الافتراضي، الأم أو المربية تشغل اليوتيوب أو أي قناة فضائية صباحاً ومساء، لغرض الإلهاء أو التنويم".

"بنتي خير من ألف ولد"

ليلى حامد الهداجي، تونسية (41 عاماً)، تعمل متصرف رئيس بوزارة الداخلية التونسية، تقول لرصيف 22: "جدتي الله يرحمها، وأمي وخالاتي كانوا بيغنوا لنا هذه الأغاني، إذ تمتلئ الثقافة التونسية الشعبية بأغاني طفولة مميزة جداً، وخصوصاً ما كن يستخدمنها لمساعدة الأطفال على النوم".

ولا تزال هذه الأغنيات تتردد على ألسنة الأمهات، وخصوصاً في الولايات التونسية البعيدة عن العاصمة، وساعد على بقائها عبر السنوات المتتالية إعادة تقديمها وتوزيعها بشكل جديد، عن طريق العديد من الفنانين التوانسة، للحفاظ عليها كتراث لا مادي.

تلك الأغاني التي حفظتها ليلى من جدتها، تؤكد تقدير الجدات والأمهات للمرأة، مثل أغنية "سعدي سعدته سعدي سعد، بنتي خير من ألف ولد، ما نعطيها لحتى حد"

تشير ليلى إلى أنها تحتفظ في ذاكرتها بالعديد من تلك الأغنيات التي تعشقها وكثيراً ما ترددها. توضح: "فيها حنين للأصول ولأيام جميلة مضت، وتؤكد حب الجدات والأمهات وتقديرهن للمرأة التونسية بشكل عام"، ومن أهم ما تذكره ليلى أغنية "سعدي سعد"، التي تقول كلماتها: "سعدي سعدته سعدي سعد، بنتي خير من ألف ولد، ما نعطيها لحتى حد، عيش بنتي الباهية، حب عليها الكاهية، والله والله ما نعطيها، كيعطوني تونس فيها".

"هنا مقص وهنا مقص"

"هنا مقص وهنا مقص، هنا عرايس بتترص، فيهم عروسة إنجليزية، شعرها طري طري، رصته ع حصاني، وحصاني فوق الدولاب، والدولاب عايز سلم، والسلم عند النجار، والنجار عايز مسمار، والمسمار عند الحداد، والحداد عايز بيضة، والبيضة عند الفرخة، والفرخة عايزة قمحة، والقمحة عند الفلاح، والفلاح عايز تفاح، والتفاح عند الفكهاني، والفكهاني بيقول يارب".

تلك واحدة من أشهر أغنيات الأطفال الشعبية التي توارثتها الأجيال المصرية جيلاً بعد جيل، مع اختلافات طفيفة في الكلمات بين جنوب وشمال مصر، تذكرتها على الفور هايدي إيهاب، بنت محافظة سوهاج (31 عاماً)، عندما سألتها عما تبقى في ذاكرتها من أغاني الطفولة الشعبية التي كانت تغنيها الجدات.

"في قرى الصعيد المصري خصوصاً، هناك العديد من الأغنيات التي كانت تتغنى للأطفال، سواء وقت اللعب أو قبل النوم أو حتى في ليالي السمر وحواديت الجدات، أذكر منها مثلاً: يا ولاد محارب، حوحا، نصبو لكم قالب، حوحا، والقالب طينة، حوحا، عدى ونينه، حوحا، ونينه شراقي حوحا، والبط يكاكي، حوحا، ويقول يا وراكي، حوحا".

تؤكد هايدي أن تلك الأغاني تكاد تكون انقرضت واختفت تماماً في المدن، وإن كان لا يزال هناك من يرددها من الجدات الطاعنات في السن لأحفادهن، كنوع من الارتباط بالماضي الجميل، فجدة زوجها تردد دوماً لأولاد أحفادها بعضاً منها.

يا طالع الشجرة

يفسر عبد الماجد عليش، كاتب من السودان، غياب أغنيات الأطفال الشعبية التي كانت تتقاسم معهم ألعابهم في الشوارع والأزقة، وحلول الألعاب الإلكترونية مكانها، بأن "الخيال البلدي الفطري الطبيعي اختفى، وحل محله الخيال الاصطناعي، بداية من تسعينيات القرن الماضي. ومع انتشار الفضائيات".

من أكثر الأغنيات التي لازالت عالقة بذاكرة عبد الماجد أغنية "يا طالع الشجرة"، التي تنتشر في مصر أيضاً بحكم الامتداد الجغرافي بين البلدين، مع تغيرات طفيفة في الكلمات، تقول الأغنية: "ياطالع الشجرة، جيب لي معاك بقرة، تحلب تعشيني، والملعقة الصيني، أطفالنا نور العين، الغيمة والمطرة".

ويقسم الدكتور محمد أمين عبد الصمد، الباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية، أغاني الطفل في الثقافة الشعبية إلى عدة أقسام، ولكل قسم وظيفته التي يؤديها، فأغاني "التهنين" بإيقاعها الرتيب تساعد في استرخاء الطفل متأثراً بتكرار مقاطع صوتية بعينها، وكذلك نغمة الصوت.

"الأجيال الجديدة خسرت بانقراض أغاني الجدات القديمة، القاموس اللغوي للأطفال أصبح شديد الفقر، وانعدم الخيال"

وتفتح بعض الأغاني للطفل باب تعلم اللغة وتركيباتها، وأحياناً يتم تصعيب الجملة بتكرار حروف معينة بشكل متتال، وتمهد أغاني في مرحلة الطفولة للنوع الاجتماعي، بحسب محمد أمين، فالأغنية التي تغنى للطفل الذكر غير التي تغنى للأنثى، فأغاني الأطفال الذكور تزيد من القوة وسماتها، أما الطفلة فأغنياتها تحتفي بجمالها ومهاراتها المنزلية ومساعدتها للأم، وهذا يشير إلى الأدوار الوظيفية للأغنية في التنشئة الاجتماعية.

"العنصر الفولكلوري كان يقوم بوظيفة نفسية واجتماعية في مرحلة الغرس الثقافي، وهي مرحلة شديدة الأهمية في التنشئة"، يقول عبد الصمد.

"تآكلت أهمية تلك الأغاني وتم استبدالها بأشياء، مثل التلفزيون بقنواته العامة أو المتخصصة في أغاني الأطفال، والتي تبثّ ثقافات لها منظومة قيمها ولهجتها، ومثّلت تلك القنوات قطيعة بين الطفل وأسرته"، يقول أمين عبد الصمد.

"ما لا شك فيه أن الاجيال الجديدة قد خسرت بانقراض هذه الأغاني"، يوضح عبد الصمد فكرته أكثر: "القاموس اللغوي للطفل أصبح شديد الفقر، وانعدم الخيال، وإذا اعتبرنا أن اللغة هي وعاء الفكر فإن فقر أحدهما ينعكس على الآخر".

يتذكر عبدالصمد إحدى أغنيات طفولته، التي قضاها في بيئة بدوية بإحدى قرى محافظة الجيزة، والتي كانت ترسخ فكرة التميز والقوة، تقول: "أنا ريته يا خالاتي، مكاتيب الباشا جاته، قراهن واستقراهن، ورشقهن في عماماته".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard