تمرّ سنوات العمر وكأنها شريط فيديو يتضمن أجمل اللحظات التي مررنا بها وأصعب المواقف التي وجدنا أنفسنا عالقين بها، لكن تبقى هناك فترة في حياتنا مبهمة إلى حدٍّ ما، هي فترة الطفولة، إذ من الصعب تذكر أنفسنا في تلك المرحلة العمرية: كيف كنا نعيش؟ كيف ترعرعنا؟ كيف كنا نمضي وقتنا؟
صحيح أن "ألبومات الصور" شاهدة على بعض التفاصيل والتجارب التي مررنا بها، لكن عند التمعنّ في هذه الصور نشعر للوهلة الأولى وكأننا نشاهد شخصاً غريباً عنا، لا يشبهنا ولا يمت لنا بصلة.
منذ لحظة الولادة، مروراً بخطواتنا الأولى ودخولنا إلى المدرسة وتعلّم حروف الأبجدية وعدّ الأرقام، لا يقدر قسم كبير منا على تذكر أيام الطفولة. لماذا هذا الثقب الغريب في ذاكرتنا؟
أين ذهبت سنوات الطفولة؟
إذا سألتم شخصاً بالغاً عن طفولته فستكون إجابته مبهمة وغير دقيقة، ملقياً اللوم على ذاكرته التي "تخونه" جرّاء التقدم في العمر، ولكن حتى إن طلبتم من طفلٍ في الخامسة من عمره استرجاع أحداثٍ حصلت معه قبل عامين، فسيقف حائراً أمامكم من دون أن يكون قادراً على "نبش" ذكريات الماضي القصير. via GIPHY من المعروف أن الأطفال هم كالإسفنجة يمتصون بسهولة المعلومات ويخزنون الأحداث التي تمرّ أمامهم، غير أن السؤال الذي لطالما حيّر العلماء هو التالي: ما هو السبب الكامن وراء هذه الفجوة في الذاكرة والتي تجعل من الصعب تشكيل ذاكرتنا الأولى واسترجاع أيام الطفولة؟ قبل أكثر من 100 عام، تحدث عالم النفس "سيغموند فرويد" عن هذه الظاهرة، مطلقاَ عليها اسم "فقدان ذاكرة الرضيع" (infant amnesia) التي تتلخص بعدم القدرة على استعادة أي من ذكرياتنا قبل وصولنا إلى عمر 2-4 سنوات. وقد اعتبر "فرويد" أن سبب نسيان "ذكريات الطفولة" يعود إلى قيام البالغين بقمع الذكريات المتعلقة بالصحوة الجنسية، معتبراً أنه في تلك الفترة تنهال الأفكار الجنسية بشكل لا يحتمله الذهن، فيعمل الطفل بغير قصد على كبت ذكرياته الجنسية، وهو الأمر المشابه لفقدان البالغين جزءاً من ذاكرتهم إثر التعرض لصدمة نفسية: موت، فراق، على حدّ قول الاختصاصية في علم النفس العيادي "ستيفاني غانم" التي تفضل استخدام تعبير Refoulement. ترى "غانم" أن لدى الإنسان قدرة هائلة على السيطرة على دماغه، إضافة إلى تعلّقه بالحياة، وبالتالي فإنه لا ينسى أي شيء على الإطلاق، إنما يلجأ إلى أسلوب "دفن" الذكريات في اللاوعي لحماية نفسه وعدم مواجهة الماضي، خاصةً في حال وجود أحداث ومواقف قاسية مرّ بها في طفولته:" لا يوجد شيء اسمه النسيان، هناك شيء اسمه كبت و"فلترة" للأمور المؤلمة". توضح غانم لرصيف22 أنه ليس بالضرورة أن تكون الأمور التي نحاول نسيانها متعلقة فقط بالجنس، بل بمواقف كانت قاسية علينا، كالتعرض للتحرش الجنسي في مرحلة الطفولة، أو العنف الأسري وغيرهما من الأحداث المؤلمة، وبالتالي خوفاً من المواجهة. وفي ظل الضوابط الاجتماعية والدينية يقرر بعضنا حماية نفسه من خلال تناسي الجروح والمضي قدماً في الحياة، مع العلم أن الآثار تطارد الأشخاص طوال حياتهم. وتشير غانم إلى أن الذكريات الجميلة تتلاشى بدورها مع الذكريات الأليمة: "نحن نتربى على الدراما والأمور السلبية، وبالتالي فإن الأحداث المؤلمة تطيح بالأمور الجميلة، والإنسان بطبيعته يتذكر الألم أكثر من الفرح".اللغز المحيّر
درس الباحثون أسباب فقدان ذاكرة الرضيع، خاصةً في ظل بعض الأسئلة الفضولية، وتساءلوا: هل حدثت فعلًا الذكريات الأولى أم تم خلقها؟ هل يمكننا تذكر أحداث في ظل غياب كلمات لوصفها؟ هل من الممكن استعادة ذكرياتنا المفقودة؟ تناول موقع "بي بي سي" لغز فقدان ذكريات الطفولة، مشيراً إلى أن عملية تدريب عقول الرضع تبدأ حتى قبل خروجهم من الرحم، كما أن الأطفال يمتصون المعلومات الجديدة ويطورون مهارات تعلم اللغة، وبالتالي فإن تفسير فقدان ذاكرتهم قد يعود ببساطة إلى العملية الطبيعية المرتبطة بنسيان الأمور التي تصادفنا في حياتنا. هذه النتيجة توصّل إليها عالم النفس الألماني "هيرمان إيبينغوس" بعد إجراء أبحاثٍ معمّقة على نفسه، ففي البداية ابتكر هذا العالِم فكرة "المقاطع التي لا معنى لها"، وهي عبارة عن كلماتٍ مؤلفة من حروف عشوائية مثل "كاغ" و"سلانز" وانطلق في محاولة حفظ الآلاف منها. وفي الرسم البياني الذي رسمه إيبينغوس نلاحظ تراجعاً سريعاً في قدرتنا على تذكر الأشياء التي تعلمناها: عند إهمال تلك الأمور التي تعلمناها حديثاً، يقوم الدماغ بالتخلص من نصفها تقريباً في غضون ساعة، وفي اليوم الثلاثين ترسخ في ذاكرتنا فقط 2 إلى 3% من تلك الأشياء.هل النسيان في هذه الحالة نعمة أم نقمة؟
يعتبر الدكتور "بول فرانكلاند"، المتخصص في البيولوجيا العصبية في مستشفى مرضى الأطفال في تورنتو، أن النسيان أمرٌ ضروري للنمو، مشيراً إلى أن "تنظيف" الذاكرة من الأحداث غير المهمة يساعدنا في وقت لاحق على تخزين معلوماتٍ جديدةٍ ومهمة.النسيان مرتبط بالثقافة واللغة
نصادف أحياناً بعض الأشخاص الذين بوسعهم تذكر أحداث حصلت معهم في سن الثانية من عمرهم، مقابل أشخاصٍ لا يستطيعون استعادة أي أمرٍ حدث معهم قبل سن السابعة.غالباً ما نكون أكثر ثقةٍ في ذكرياتنا المتخيّلة من الذكريات التي حصلت فعلاًالشق المثير للاهتمام أن هذا الاختلاف في مسألة النسيان تمت ملاحظته بين بلد وآخر، وبين ثقافة وأخرى. من هذا المنطلق، جمعت الاختصاصية في علم النفس "كي وانغ" من جامعة كورنيل المئات من الذكريات من طلبة صينيين وأميركيين، فجاءت قصص الأميركيين أطول وأكثر شرحاً وفيها بعض الأنانية، في حين أن قصص الصينيين مختصرة وأكثر واقعية. وبالتالي، اتضح أن الاهتمام الذاتي من شأنه تحفيز الذاكرة وتنشيطها، لأن الاهتمام بحدث معين يضفي على الأحداث معنى، كما أن عامل الثقافة يلعب دوراً مهماً في عملية استرجاع الذكريات، وفق وانغ: "في الثقافات الشرقية، تعتبر ذكريات الطفولة غير مهمة، فالناس لا يجدون سبباً للاهتمام بها"، وتضيف: "إذا كان المجتمع يقول لكم إن هذه الذكريات مهمة بالنسبة إليكم، فإنكم ستحتفظون بها". ويوضح موقع "بي بي سي" أن ثقافتنا قد تكون مرتبطة أيضاً بالطريقة التي نتحدث بها عن ذكرياتنا، إذ يعتبر بعض علماء النفس أمثال "فيفوش" أن هذه الذكريات تعود فقط حين نتقن القدرة على الكلام: "تساعد اللغة على توفير الهيكل، أو البنية لذكرياتنا. هذا هو السرد. من خلال خلق قصة، تصبح التجربة أكثر تنظيماً وبالتالي، يصبح من السهل تذكرها مع مرور الوقت".
ذكريات زائفة
يجب أن نكون حذرين مما نتذكره من ذلك الزمن، لأن طفولتنا على الأرجح ملأى بذكريات زائفة لأحداثٍ لم تحصل. كرّست الاختصاصية في علم النفس في جامعة كاليفورنيا "اليزابيث لوفتوس" كل مسيرتها المهنية لدراسة هذه الظاهرة: "يلتقط الناس أفكاراً ثم يبدأون في تصورها، فتصبح وكأنها ذكريات". بنت "لوفتوس" نظريتها على تجربة شخصية حصلت معها في الماضي: حين كانت في السادسة عشرة من عمرها، غرقت والدتها في حوض السباحة، وبعد مرور أعوامٍ على الحادثة أقنعتها قريبتها بأنها هي التي اكتشفت جثة أمها العائمة على سطح الماء، حينذاك بدأت "لوفتوس" ببناء ذكرياتٍ جديدة بشأن أمها، إلى أن اتصلت قريبتها بها بعد أسبوع لتخبرها أنها لم تكن على صواب في ما قالت، وبأن من اكتشف جثة الوالدة هو شخصٌ آخر. ومن أجل إثبات نظريتها، خاصةً في ظل صعوبة إقناع الأشخاص بأن بعض ذكرياتهم من نسج خيالهم، قامت "لوفتوس" بإجراء دراسة على بعض المتطوعين، من خلال غرس الذكريات في عقولهم. وفي التفاصيل، اختلقت عالمة النفس قصة زائفة عن رحلةٍ قام بها هؤلاء المتطوعون إلى مركز للتسوق حيث فُقد بعضهم قبل أن تنقذهم سيدة طاعنة في السن وتعيد لمّ الشمل، وبهدف جعل هذا الحدث أكثر واقعيةً، ربطت الباحثة ما حصل بعائلات المتطوعين:" "لقد قلنا لكل مشترك في التجربة إننا تكلمنا مع أمه التي أخبرتنا عن بعض الأشياء التي حدثت معه". اللافت أن حوالى ثلث المتطوعين صدقوا هذه القصة المفبركة، حتى أن بعضهم ادعى بأنه يتذكر تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم، مما جعل "لوفتوس" تقول:"في الواقع، غالباً ما نكون أكثر ثقةٍ في ذكرياتنا المتخيّلة من الذكريات التي حصلت فعلاً".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...