كان الحزن يبدو جلياً على ملامح وجهه الطفولي، وهو يمسك بيد والده على باب أحد المخيمات الصيفية وسط حي الرمال بمدينة غزة، بعد أن فشل والده في تسجيله أسوة بأقرانه من أبناء الجيران.
يقول سليم (9 أعوام) بأسى: "ولا في مخيم قدرت أسجل، وهذا ثالث مخيم بابا ياخدني عليه، وعلى الفاضي، كلهم رسومهم غالية جداً".
سليم هو الطفل الوحيد لعائلته، ويحاول والده أبو سليم (52 عاماً) توفير كل متطلباته، لكن عند الحديث عن المخيمات الصيفية يقف عاجزاً، يقول لرصيف22: "كل يوم ابني بيعيط، وبيحكيلي صحابي سجلوا بمخيم وانا لا، الصيف خلص، وما رحت ولا مخيم، وأنا صراحة مش قادر أدفع 250 شيكل (77 دولار) رسوم مخيم علشان ابني بس يقعد يتنطط ويلعب".
ويضيف: "أنا موظف حكومي وراتبي كله 2000 شيكل (619 دولار)، وساكن ببيت ايجار، وبدفع مي وكهربا، ويا دوب قادر أأكل عيلتي، واحنا كلنا 3 أنفار، فكيف بدي أسجله بمخيم صيفي مدته 3 أسابيع وادفع 250 شيكل؟".
يقاطع سليم والده، ويقول:" حتى ما رضيو ينزلوا السعر لبابا، وحكولنا لو عنده أخ بنسجل الاثنين بـ 400 شيكل (123 دولار) طيب أنا ما عندي أخ شو أعمل وصحابي كلهم سجلوا بالمخيم؟ وأنا أصلاً بزهق لحالي في البيت، وما في حد ألعب معاه".
"تلت راتبي للمخيم"
في زاوية من زوايا المخيم، كان نور الأغا (11 عاماً) يلبس زي "سبايدر مان"، ويقوم ببعض الحركات ليضحك بقية الصغار، في مشهد عادي جداً لأطفال في هذا السن، وتؤكد كافة قوانين حقوق الطفل على حقه في اللعب والترفيه، ولكن في ظروف معيشية كقطاع غزة ينقسم الأطفال الى قسمين، البعض يمضي عطلته الصيفية في الشارع، يلعب في الحارات والأزقة، والقسم الآخر من يستطيع الالتحاق بمخيمات صيفية رغم تكاليفها المرتفعة في ظل غياب البدائل.
تتراوح رسوم التسجيل في المخيمات من 200 إلى 300 شيكل أي ما يقارب 80 دولاراً، وهو مبلغ لا تتحمله جل العائلات الغزية، لكن جميل الأغا الذي يعمل محاسباً في شركة خاصة (59 عاماً) اضطر لذلك، فولداه يعانيان من أزمة ربو، ولذلك يخشى تسجليهما في مخيمات مجانية تقيمها وكالة الأونروا في المدراس، بسبب اكتظاظ الأعداد، وأزمة كورونا، فاتجه لتسجيلهما في مخيم خاص.
"أنا صراحة مش قادر أدفع 77 دولار رسوم مخيم علشان ابني بس يقعد يتنطط ويلعب"
يقول جميل لرصيف22:" ظروفي المادية ليست ميسرة بالشكل الكافي، ولكن أنا مضطر في ظل انقطاع الكهرباء المتواصل، وغياب أماكن الترفيه، وشعوري بأن أولادي من المفترض أن يعيشوا طفولتهم، ويلعبوا، لذلك فضلت أقتصد من مصروف البيت في مقابل أن أسجلهم في المخيم لمدة شهر".
ويضيف: "راتبي الشهري لا يتجاوز 1500 شيكل (464 دولار)، وبدفع للمخيم 400 شيكل (123 دولار) للولدين، يعني ثلث الراتب، وما باليد حيلة، الحمد لله".
"الناس تحب أبو بلاش"
تستعرض هبة الهندي، مديرة المخيم الصيفي Big English Camp، التابع للمدرسة البريطانية في غزة، إمكانيات المخيم للأطفال، في سياق تبريرها لارتفاع الرسوم، قائلة: "الأنشطة داخل المخيم متنوعة، منها رحلات إلى مناطق أثرية، ودورات سباحة، وحفلات، والأطفال تعلموا الغوص، وأساسيات السباحة، ومنهم من تخرج وحصل على ميداليات فضية وذهبية".
وتتابع: "90% من أنشطة المخيم باللغة الإنجليزية، وكنا نعطيهم أنشطة الرياضة، قدم طائرة، دبكة مسابقات، وذهبنا إلى حديقة الحيوان، وعملنا عدة فعاليات، منها البوفيه المفتوح، وألوان الهيلوين، وألعاب التركيز والذكاء، والتفريغ النفسي".
وتبلغ قيمة رسوم الاشتراك في المخيم 100 دولار، وتبرر الهندي ذلك بقولها: "المبلغ ليس غالياَ، لأن تكاليفه عالية جداً، خاصة دورة السباحة، إضافة إلى وجود مختصين في اللغة الإنجليزية، وخبراء تربويين ونفسيين معنا في المخيم، إلى جانب تكاليف زيارات مختلف الأماكن الترفيهية".
وعلى باب أغلى النوادي في قطاع غزة، نادي تشامبيونز، كان يستعد محمد عبد الجواد (13 عاماً) لركوب سيارة والدته، عندما سألناه عن طبيعة النشاط الذي يمارسه، فقال: "أنا عضو بالنادي، وألعب كل شي، ولكن انا أحب كرة القدم والسباحة، وأتردد على هذه الأنشطة تقريباً كل يوم بالصيف، وأيام المدرسة 3 أيام بالأسبوع".
ويضيف: "بلعب، وبنبسط أنا وأصحابي لأنه ما في أماكن ثانية نروحها".
وتقول والدته أميرة (41 عاماً) ربة بيت منذ عامين، لرصيف22: "الأولاد ما بيختلطوا بأي حد بسبب كورونا، حتى النادي سكّر فترة بسبب الإغلاقات والحجر الصحي، ولكن بمجرد ما فتح استأنفنا أنشطتنا المعتادة لأنه بصراحة ما في بدائل بسبب كورونا، احنا جايين وعارفين مين موجود، وإنه الكل محافظ على الوقاية".
ولا ترى أميرة أن أسعار النادي مرتفعة مقارنة بنوادٍ أخرى، خارج قطاع غزة، ولكن "الناس تعودت على ابو بلاش"، على حد وصفها، والأنشطة المجانية أو قليلة التكاليف والمدعومة بتبرعات خارجية أو من السلطة او الأونروا.
ويشدد رجب السراج، رئيس مجلس إدارة نادي وأكاديمية تشامبيونز، على أن النادي خلال هذا الصيف تحديداً لم ينفذ مخيماً صيفياً خاصاً به، وإنما نفذ مخيمات بعقود مع مؤسسات لها تمويلها الخاص.
ويقول بتفاخر: "نادي تشامبيونز، وهو النادي العائلي الأول في غزة، يهتم بالأنشطة الترفيهية والنفسية والرياضية والألعاب، وينفذ عروض السيرك والحفلات".
ويضيف: "كل سنة ننفذ هذه الانشطة والمخيمات، لكن من بعد العدوان على غزة كثفناها أكثر لحاجة الاطفال للتفريغ النفسي، واهتممنا بأنشطة تراثية مثل تعليم الدبكة الفلسطينية".
"مخيمات ما فيها إبداع"
على صوت الميجنا، كان أطفال إحدى مدارس اللاجئين "يدبّكون"، ويغنون، ويهللون خلال المخيم الصيفي، حيث التقينا بأحمد وعلي وعمر، وهم ثلاثة إخوة، اعتادوا على الانضمام كل سنة للمخيم، يقول أحمد، وهو أكبرهم: "أنا في الصف السابع، وإخوتي الأصغر مني كل سنة نسجل في مخيم المدرسة، باستثناء العام الماضي بسبب كورونا".
ويقول عمر: "بنيجي كل يوم 5 ساعات، بنلعب، وبندبك، وبنرسم، ومرات بجيبوا ألعاب مائية، وبنسبح".
وتقول والدتهم أم أحمد، لولو (55 عاماً)، وهي مدرّسة في إحدى المدارس الخاصة قي غزة: "ما في مجال للمقارنة بين مخيم الأونروا وأي مخيم ثاني، لأنه باختصار هنا ما بدفع شي، ولو بدي آخذهم مخيم خاص بدي ادفع للثلاثة 300 دولار، وهذا شبه مستحيل".
"الناس تحب أبو بلاش"، "هنا ما بدفع شي، ولو بدي آخذهم مخيم خاص بدي ادفع للثلاثة 300 دولار، أبوهم ممكن يطلقني"، "دفعت تلت الراتب، وما باليد حيلة، الحمد لله"
تضحك، وتضيف: "أبوهم قد يطلقني لو مجرد طرحت الفكرة".
وتقول مها إبراهيم (52 عاماً) ربة بيت، ومن سكان حي الرمال وسط قطاع غزة: "لدي طفلة، وهي بنت وحيدة تبلغ من العمر 7 سنوات، بالإضافة إلى خمسة أولاد، وظروفنا الاقتصادية لا تسمح أن أسجلها في المخيمات الصيفية، التي تطلب أسعاراً عالية. أذكر قبل 7 سنوات عندما كان أولادي أطفالاً كان هناك مخيمات مجانية أو بأسعار قليلة. اليوم نعم توجد مخيمات مجانية، لكن أعداد المشاركين فيها تكون كبيرة، خاصة خلال جائحة كورونا، أخاف على ابنتي الوحيدة أن تشارك مع هذه الأعداد، وأكون غير مطمئنة عليها، وفي المقابل أحاول أن أجعلها تستثمر وقتها من خلال ألعاب على اليوتيوب، والتعلم من خلال الإنترنت".
"قديماً كانت المخيمات كلها تشبه بعض".
أما سمر عفانة (41 عاماً) فتتنهد، وهي تتذكر الماضي البعيد في طفولتها، وتتحسّر عند مقارنتها بحال الأماكن الترفيهية الصيفية للأطفال حالياً، تقول: "قديماً كانت المخيمات كلها تشبه بعض، وأغلبها مخيمات في المدرسة او النوادي الرياضية، وجميعها مجانية، وكانت كل المخيمات متشابهة في الأنشطة بين الرسم والرياضة ورحلات البحر والمنتزهات، لكن الأمر اليوم جداً مختلف".
وتوضح سمر وجهة نظرها أكثر: "اليوم المخيمات المدرسية لا يوجد فيها إبداع، هم فقط يجمعون الأطفال في الصيف داخل المدرسة، وينفذون بعض الأنشطة التقليدية مقارنة مع ما نراه في المخيمات الباهظة التكاليف، حيث يتعلمون العزف وحصص السباحة، إضافة إلى زيارة أفخم مطاعم التنزه في أغلى المنتجعات، لذلك لا مقارنة بين مخيمات الماضي والحاضر".
هذا التشابه في الماضي، خلق جيلاً لا يختلف في خبراته كثيراً، أما اليوم فيشعر بعض الأطفال بالغبن والقهر لمجرد عدم دخولهم مخيمات أفضل، بينما يشعر آخرون بالتميز، وهذا ما أشارت إليه، وحذرت منه الدكتورة آيات ابو جياب، معالجة أسرية في جمعية عائشة لحماية المرأة والطفل.
تقول آيات: "لما يكون المخيم برسوم عالية، بتكون الأعداد محدودة، وبيعطي مساحة للأطفال يعبروا أكثر في كل زاوية أو مهارة، وامتيازات عالية، زي وجبة الطعام، ومساحة الأماكن الترفيهية متنوعة أكثر".
"من ناحية أخرى، حين يكون الأهالي غير قادرين على الدفع، خاصة الأهالي تحت خط الفقر، فهذا يخلق فجوة ما بين الأطفال وتعبيراتهم، ونظرتهم للمخيمات، وأسرهم، فالتنوع الطبقي يؤذي نفسية الطفل، ويضعه في موضع مقارنة بينه وبين أصدقائه وأقاربه، وغالبية حديثه سيكون حول من دفع أكثر، ومن مخيمه مميز أكثر".
وتتابع آيات: "هذا الأمر يجعل الطفل يشعر بالدونية، وأنه أقل من غيره، خصوصاً في ظل وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، والأطفال باتوا منفتحين على العالم، ويشاهدون ويعرفون الفرق بين المخيمات غالية الثمن والمخيمات المجانية".
ألعاب الصيف
وتنظم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا سنوياً مخيمات تحت مسمى "ألعاب الصيف"، بشكل مجاني لأبنائها الطلبة داخل المدراس.
يتحدث الدكتور إياد زقوت، مدير وحدة الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي في دائرة التعليم بوكالة الغوث، لرصيف22، قائلاً: "اللعب بشكل عام بنسميه مرحلة نمائية للطفل، وحتى ينمو بشكل صحيح سواء جسدياً أو نفسياً أو عاطفياً يحتاج أن يلعب، بالأخص لو كان اللعب معمول بطريقة ممنهجة، ولا تشتمل على أي نوع يحمل أذى للطفل، وتحت إشراف مختصين".
"الرسم على الفخار حيث يشعر الطفل بالفخر لإنجازها بيديه".
ويضيف: "الهوايات بالنسبة للأطفال تنقسم إلى جزئيتين: الأولى التي فيها الحركة، مثل الكرة وألعاب الطائرة، ولعبة القلعة. وثانياً الهوايات الفنية: مثل الرسم الحر، والأشغال اليدوية، والرسم على الفخار حيث يشعر الطفل بالفخر لإنجازها بيديه".
ويشير إلى أن الأونروا حاولت أن تركز قدر الإمكان لعمل هذه الفعاليات والهوايات جميعها للأطفال، من خلال المخيمات التي تتميز بالألعاب الشعبية، وهي خليط بين الألعاب الحركية والعقلية والفنية، بجانب التثقيف النفسي، خاصة ما بعد العدوان الأخير على غزة، وظروف الإغلاقات والحجر بسبب كورونا.
ويتابع: "خلال هذا الصيف هناك 86 ألف طفل مستفيد من هذه الأنشطة، مقسمين على 60 موقع لألعاب الصيف في مدارس للأونروا، كل طالب له أسبوع واحد، وكل يوم يمارس الطفل أنشطة الرسم والتفريغ والرياضة، التي تعزز عنده القدرة على مواجهة الأمراض الجسدية والنفسية، والتخلص من التوتر والخوف".
ويؤكد زقوت أن "الأنشطة مجانية للجميع، رغم أن التكلفة المالية مرتفعة نسبياً، ولكن هذه ضرورة ملحة في ظل ندرة الأماكن الترفيهية في غزة، وارتفاع أسعارها، والخوف من أن تكون غير آمنة، خاصة بعد الحرب على غزة، وانتشار المخلفات، والأطفال لا يزالون بحاجة إلى تفريغ بعد كورونا والحرب، لذلك كان دورنا أن نؤمن لهم المكان الذي يجدون فيه الراحة والاطمئنان والتفريغ واللعب بشكل مجاني".
وتنصح آيات، في ختام حديثها لرصيف22، الأهالي بغرس قيم المحبة والتواضع عند أطفالهم، وإعطائهم مساحة من الحديث والتعبير، وغرس قيم المشاركة والمساواة بداخلهم لإذابة مشاعر الفوارق الطبقية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين