شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"الغالبية تحولت إلى ما يشبه الزومبي"… حفلات الساحل توحّد "الأغنياء" في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 31 يوليو 202104:34 م

يخضع الغناء في مصر مؤخراً للطبقية الشديدة، والتصنيف، بداية من محاربة المهرجانات على اعتبارها موسيقى همجية غير مثقفة، أو من منطلق رفض الطبقات المرفهة والأعلى ثقافة ودخلاً لما اعتبره البعض "ثورة للطبقات الكادحة".

تأقلمت المهرجانات مع متطلبات المرحلة، فتقبُّلها جماهيرياً يتطلب التهميش، والتسطيح للأزمات، والتوقف عن التذمر، والغناء للمحبوبة بطاقة مرور استطاعت أن تصل بالكثير من مغني المهرجانات إلى شواطئ وحفلات "الساحل الشمالي"، وغياب تدريجي عن أفراح وتجمعات الحارة البسيطة التي انبثقوا منها.


وبالنسبة للطبقات الشعبية البعيدة بالأساس عن القدرة على ارتياد مثل تلك الحفلات، والتي قد يعادل سعر تذكرتها الواحدة دخل أسرة أو جزءاً كبيراً من دخلها الشهري، بالإضافة إلى شروط أخرى، مثل التي وضعتها الفنانة روبي المرتبطة بنوع الجمهور، وأزيائه، فقد بدا كل ذلك محل اشمئزاز وتعجب واستنكار.

لكن بالنسبة لآراء العشرات من مرتادي الساحل وتلك الحفلات ممن تحدثنا معهم، لم ير أيّ منهم غضاضة في مثل تلك الشروط، وأخذوا يبررونها على أنها حق للمنظمين والمطربين، من أجل البحث عن حالة معينة أو هارموني يجمع الحضور، والشعور بوحدة "الكومينتي" أو المجتمع.

الغالبية رأت أن مثل تلك الشروط والخضوع لها "بطاقة تميز" أخرى، فالأمر ليس فقط أنك من مرتادي الساحل وحفلاته الموسيقية الأغلى، بل إنك قادر على التماهي وأن تصبح جزءاً من ذلك المجتمع المميز.

ولم يعد الفيصل هو قدرتك على تأمين المبلغ الذي يمثله سعر التذكرة، بل أن تُبدي قابلية للخضوع للشروط.

ومن ثم بات لدينا ليس "شعب" الساحل الشمالي فقط، بل "شعب الساحل وجمهور الساحل"، وجمهور مطرب معين، وكلما زاد الجدل حول حفلة ما كانت أكثر إغراءات للحضور، ممن يرغبون في تسجيل أنفسهم في إطار الجماهير المنتقاة على "الفرازة"، وفق الكلمة الشعبية الرائجة التي تشير إلى صفوة الصفوة لأي شيء.

شروط عادية

انفجرت حالة من الجدل مع حفل روبي الأخير، أقيم في نهاية شهر تموز/ يوليو 2021، وهي اشترطت أن يكون "الحد الأدنى لدخول الحفل 25 عاماً، للثنائيات فقط، ولا يسمح بارتداء الهوت شورت، أو الملابس الرياضية، أو استخدام العنف، مع السماح بالتوربون (غطاء رأس لا يغطي الرقبة)، والالتزام بارتداء ملابس بيضاء".

تقول فاطمة أحمد (24 عاماً)، وهي محجبة، تذهب عادة إلى الساحل بصحبة عائلتها، إنها لا ترى مشكلة في الشروط التي يتم وضعها للحفلات، خصوصاً أن الحجاب ليس ممنوعاً، فقد خرجت روبي، وتبرأت من منعه أو الاكتفاء بالتربون.


وكانت روبي قد ردت على الجدل المثار حول السماح بدخول صاحبات "التربون" باعتباره ليس منعاً للحجاب بشكله التقليدي، بل "تعبيراً عن الحجاب".

"أما شرط أن يكون الحضور ثنائياً (كابلز) فهو لمنع أن يضايق أحد الشبان المنفردين الفتيات، واشتراط سن معينة كي لا يُسمح للمراهقين بالاندماج وسط حفلة، قد يكون فيها شرب الخمر وهكذا، أي أنه حماية لهم، وبخصوص شرط ارتداء زي بلون محدد فهو من قبيل الجمالية التي تضفيها الوحدة"، تقول فاطمة.

يربط عصام بين "حرمان" البسطاء من الحضور والاستماع إلى الأغاني الحية، وبين تحول غالبية المصريين  إلى ما يشبه "الزومبي" عندما يلتقون في الشوارع

أما مصطفى محمد (27 عاماً) فيرى أن الأمر ليس بدعة أو غريباً على مجتمع الساحل، وإن بدا فجاً لمن خارجه. يقول لرصيف22: "بعض النوادي الغنائية أو الشواطىء التي تنظم تلك الحفلات تشترط الملابس البيضاء وأخرى السوداء، وهذا تكرر في حفلة جينفر لوبيز في العلمين في آب/ أغسطس 2019، والجميع خضع حتى الوزراء الذين حضروا الحفل لتلك القواعد ولم يتذمر أحد".

ويشكو محمد ارتفاع أسعار الشاليهات في الساحل الشمالي، إذ وصل بدل الإيجار في اليوم الواحد إلى ثلاثة آلاف جنيه (200 دولار)، يقول: "للساحل أجواء خاصة ليس كأي مكان آخر، وحفلاته هي روح تلك الحالة، سواءً التي تقام على الشاطئ بالمايوهات البكيني، أو التي تقام ليلاً، حفلات كافة المطربين الكبار تخضع لشروط".

الرغبة في التميز

يقارن الكثيرون حفلات عمرو دياب أو تامر حسني التي لم تخضع لشروط محددة، على عكس روبي، التي هي أقل نجومية وشعبية منهما.

قدم أيمن أحمد، وهو أحد منظمي المسرح في أحد شواطئ الساحل الشمالي، وهو أيضاً المسؤول عن الإضاءة وغيرها من التجهيزات، تفسيراً لشروط حفل روبي، التي خرجت لدحض شرط منع الحجاب دون أن تتطرق أو ترفض فكرة الشروط بوجه عام.

قال أحمد لرصيف22: "الأمر رغبة من روبي في "الفرقعة" أو الدعاية للحفل بصورة غير مباشرة، والأهم الرغبة في التميز خصوصاً، وأن تلك المرة الأولى التي تقيم فيها حفلة في الساحل، على عكس كثير من المغنين الذين يقيمون حفلة أو أكثر كل عام".

يبدي أيمن وهو من القاهرة، ولا يعتبر نفسه ساحلياً رغم أنه يعمل هناك منذ 10 أعوام، انزعاجاً شديداً من فكرة الشروط المسبقة لحفل غنائي، ويتساءل: هل نحن في الأوبرا؟

الأوبرا تشترط في كثير من حفلاتها الحضور بالملابس الرسمية، خصوصاً في حفلات الباليه، وعمر خيرت وكبار الفنانين، وهو تقليد متبع في كل الدور العالمية، على اعتبار أن الفن الأوبرالي الراقي يتطلب معاملة معينة، وتأنقاً كنوع من الاحترام.

ذكريات أم كلثوم

في مناخ سياسي أقل شحناً، واجتماعي أدنى اضطراباً، لم يكن يُشترط قديماً في حفلات كبار الفنانين وعمالقة غناء الزمن الجميل، وعلى رأسهم السيدة أم كلثوم.

ولا تُذكر حفلات أم كلثوم دون أن يُذكر أبرز جماهيرها، صاحب العبارة الشهيرة "عظمة على عظمة يا ست، أنا جايلك من طنطا يا ست"، والذي كان صاحب هيئة مختلفة عن غالبية جماهير الست، بالجلباب والقفطان، وبهيئة شعبية استقبلتها السيدة بحفاوة، حتى أنه بات صديقاً لعائلتها فيما بعد.

والغالبية لم تكن تستطيع أن تحضر حفلة للسيدة أم كلثوم، التي كانت تبلغ نحو 15 جنيهاً، وهو مبلغ ضخم وقتها، لكن رغم ذلك، لم تبث يوماً حفلة لسيدة الغناء شعور بالطبقية أو الدونية لمن هم خارج حدود مسرح حديقة الأزبكية، حيث يقام الحفل.

على الخلاف تماماً، كان أول خميس في كل شهر، بمثابة حدث شعبي، وكرنفال. الجميع يعد العدة انتظاراً للحفل، تجتمع العائلات في منزل من يملك راديو منهم وفيما بعد تلفازاً، أو في المقاهي، تُحضر التسالي وأفضل الأكلات، ويجلس الجميع منتظرين "الست".

يتذكر الكاتب الصحافي والمدير الأسبق لمركز الأهرام للنشر محمد الشاذلي تلك الأجواء قائلاً: "كنت أتمنى أن أحضر حفلة للست، لا زلت أتذكر كيف كان حفلها كل شهر حدثاً قومياً، من خارج المسرح يشعرون أنها تشدو لهم تماماً كمن داخله، تبث الحفلة على الهواء فيتسمر الجميع أمام الشاشات أو حول الراديو".

ويضيف: "الأمر لم يكن مقتصراً على سيدة الغناء، وإن كانت صاحبة الشعبية الأكبر، فلم نسمع يوماً أن واحداً من المطربين وضع شروطاً لانتقاء جمهور معين، والواقعة الأشهر التي أتذكرها الخاصة بعبد الحليم حافظ مع الجماهير".

"تلك الشروط تخبر من هم خارج يوتوبيا الساحل أنهم بعيدون جداً عمن داخله، وأن الفيصل الوحيد ليس امتلاك المال، وأنهم لن ينجحوا يوماً في أن يصبحوا في عداد الجماهير المنتقاة"

ويتابع: "في حفلة "قارئة الفنجان"، فقد حافظ أعصابه فيها وأنب بعض الحضور، في اليوم التالي كان أنيس منصور يكتب عموداً صحافياً، يهاجم فيه العندليب، ويذكره باستجداء الإعجاب والاستماع في بداية مشواره، ثم الآن يتكبر على الجماهير، وهو ما نفاه حليم فيما بعد ووصف من فقد أعصابه عليهم بالمندسين".

وبخلاف ذلك الموقف، فقد كان كبار المطربين يحتفون باختلاف جماهيرهم، يحرصون على تنوعهم، والإندماج معهم، وليس إخضاعهم لحفلات من "الانتخاب الاجتماعي الطبيعي" بشروط مسبقة.

زومبي في الشوارع

ويتذكر عصام فوزي الباحث المصري في علم الاجتماع، والمدير التنفيذي لمركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامي، "لقاء السحاب"، كان ذلك في العام 1964، وكان فوزي طفلاً عمره ستة أعوام.

يقول عصام لرصيف22: "اجتمعت العائلة حول الراديو في منزل أحد أقاربي، تم التشديد علينا من قبل الكبار أن نظل صامتين، ونستمع إلى ذلك الحدث الكبير، لقاء السحاب بين السيدة أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب، في رائعة أنت عمري".

ويضيف: "حل الصمت، استمتعت بإيقاع الأغنية المميز، من تن تاتن إلى آخر اللحن، ورغم أني كنت طفلاً فقد ظللت مشدوهاً بما أسمع، لكن أكثر ما لفتني وأتذكره أنني بعد تلك الحفلة طيلة شهر، كلما مررت من طريق استمعت إلى اللحن ذاته، أو إلى جزء من الأغنية، كل يسلم للآخر، كان حدثاً أضفى وحدة واحتفاء شعبياً لشهر".

ويرى عصام أن "الطبيعي" في الموسيقى أن تكون "وسيلة لنبذ الفرقة، والتطرف، والعنف، وأن تكون لغة يشترك فيها الجميع أو على الأقل لا تضفي أجواء طبقية، لكن هذا لا يحدث مؤخراً".

ويربط عصام بين "حرمان" الفقراء والبسطاء من الحضور والاستماع إلى الأغاني الحية، وبين تحول الغالبية إلى ما يشبه "الزومبي في الشوارع"، فالموسيقى التي نسمعها جميعاً لها تأثير على شعورنا برابطة قوية تجمعنا، يقول: "البسطاء محرومون من الاستماع إلى الأغاني الحية، ويشعرون أنها غير موجهة لهم، لا تقترب من أحلامهم ومشاعرهم ومشاكلهم، قديماً كانواً يجتمعون عليها وحولها، الآن بات كل شخص منكباً على هاتفه، والناس يلتقون كـ "زومبي" في الشارع".

ويعتقد فوزي بوجود صلة وثيقة بين انكماش مساحة المشاركة الاجتماعية في الفاعليات الفنية، وبين تزايد العنف في المجتمع، وفقدان البوصلة الموجهة، وتوغل الطبقية.

أما إيهاب، يعمل في تنظيم الحفلات في الساحل، فيرجع "التمييز" في الحفلات إلى الجماهير، الذين يقبلون ويخضعون للشروط، ويتبارون فيها بحثاً عن تميز.

ويصف إيهاب شروط تلك الحفلات بـ "الابتزاز، وكأنني طالب ذاهب إلى المدرسة، وليس شخصاً ذاهباً إلى حفلة للاستماع، والترويح عن الذات".

وغالبية أبناء الطبقة المتوسطة وما دونها، لن تتسنى لهم الفرصة من الأساس كي يحضروا حفلة من تلك الحفلات، بحسب إيهاب، فبداية لن يستطيعوا أن تطأ أقدامهم أراضي الساحل أو الجونة أو العلمين، إذ يتجاوز سعر الليلة الواحدة فيها راتبهم لشهر، وإذا وصلوا فلن يستطيعوا أن يؤمنوا سعر التذكرة، وإذا أمنوها ففي الغالب لن تنطبق عليهم الشروط.

ويختم إيهاب: "تلك الشروط تخبر من هم خارج يوتوبيا الساحل أنهم "بعيدون جداً" عمن داخله، وأن الفيصل الوحيد ليس امتلاك المال، فالحفلات التي هي تعبير عن تلك المجتمعات، دائمة التحديد والاختيار والانتقاء، وأنهم لن ينجحوا يوماً في أن يصبحوا في عداد الجماهير المنتقاة وفق شروط، وكأنهم يخضعون لعملية من الانتخاب الطبيعي، لضمان سلالة نقية لكل مطرب من الجماهير".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image