كثير من المصريين يعرفون رحلة الممثل محمد سعد في شخصية "اللمبي"، للبحث عن الكراسة الصفراء التي دوَّن فيها والده كل قرش دفعه للعرسان والأمهات، أو ما يعرف في مصر بالـ"نقوط" لأصدقائه ومعارفه، والتي أقام بسببها اللمبي فرحه على "نوسة" ليستردّ ما دفعه والده من نقود يسد بها ديونه.
"النقوط" عُرف وتقليد اتبعه المصريون منذ عقود، يشير إلى التكاتف الاجتماعي والحسّ الجمعي المصري بالمسؤولية، وخصوصاً في الأوساط الشعبية والريفية، التي اعتاد أفرادها تقديم مبالغ مالية لبعضهم البعض في المناسبات المختلفة: زواج، ميلاد، مرض، حج أو عمرة، كل مناسبة تكلف صاحبها نفقات مالية.
يزوره الجيران والأقارب والأصحاب وأهل البلد لتقديم المباركات المصحوبة "بالنقوط"، الذي عادة ما تكون مبالغ مالية غير محددة القيمة، فكل شخص وقدرته المادية. ليتلقى صاحب المناسبة المبلغ أياً كانت قيمته، ويقوم أحياناً بتدوينه، فهو دين عليه، رده "واجب" من قبيل الذوق العام.
مؤخراً تحولت بعض المناسبات إلى احتفالات مُختلقَة خصيصاً لجمع "النقوط"، فلا يوجد زوج وزوجة حقيقيان للأعراس، ولا طفل مولود، فقط اختلاق مناسبة لاسترداد "النقطة"، هذا الواقع الجديد شكل إحدى الملامح المميزة للناس في "كفر البطيخ"، وهي أبرز قرى محافظة دمياط المصرية.
للزواج والمناسبات في كفر البطيخ طقوس خاصة لا تتكرر في مدينة أو قرية أخرى، يكفي أن "النقوط" فيها بيزنس قائم بذاته، تخطى حدود المجاملات والمساندة الاجتماعية، وأصبح عالماً خاصاً له أسراره وتفاصيله.
في كفر البطيخ، للنقوط خيم أو "شوادر" خاصة، وموظفون تُسند إليهم مهام مُحدَّدة. فحفلات الزفاف والأفراح في كفر البطيخ ليست عريساً وعروسة ومدعوين فقط، لكنها أيضاً مطابع تُطبع، ولافتات تحمل أسماء العائلتين وموعد الزفاف ومكانه، يتم تعليقها في الطرقات، كتلك التي تمتلئ بها الشوارع في مصر في أيام الانتخابات.
مرحبا بكم في كفر البطيخ
حسن ابراهيم، أحد أبناء دمياط الذي عاش لسنوات طويلة في كفر البطيخ ، برر كل هذه الدعاية بأنها إعلان مبالغ فيه فقط ليعلم الجميع بالمناسبة دون أعذار حتى يذهب ويدفع ما عليه من "نقوط".
ولكن ماذا لو لم يدفع أحدهم "النقوط"، يجيب إبراهيم لرصيف22: "يركبه العار وتلاحقه الفضيحة، والسمعة السيئة، فلا أحد هنا يستطيع أن يتهرب من دفع ما عليه من نقوط، فاذا جاءك جار وقدم لك مبلغاً مالياً حتى لو كان عشرة جنيهات، فانتي ملزمة برده".
لـ"رد النقطة" في كفر الشيخ تقاليد خاصة، أو كما يسمونها "أصول"، يشرح إبراهيم: "إن قمت برده عشرة فهذا يعني أنك تنهي المسألة ولا تريدين منهم مجاملات مرة أخرى، لذلك فمن الأصل رده بضعف قيمته حتى تستمر العجلة في الدوران".
الأمر لا يتوقف فقط على اللافتات، لكن عرفت من إبراهيم أن هناك أيضاً "كروت" تحمل ما تتضمنه اللافتات من معلومات، بأسماء طرفي الحفل وميعاده ومكانه.
كروت صغيرة ملونة فاخرة الطباعة إذا كانت العائلة غنية، أو "تذاكر" قصاصات ورقية مطبوعة بشكل رديء، أو مكتوبة بخط اليد إن كان أصحاب الفرح من محدودي الدخل أو "على قدهم"، يسند توزيعها لأحد المتخصصين في توزيع الكروت.
عامل في توزيع تذاكر الأفراح
سلامة الغباشي، رجل على مشارف الخمسين، عامل في مصنع للحلوى، لكنه في فصل الصيف من السنة، وبالتحديد من بداية يونيه وحتى نهاية أكتوبر، يعمل بشكل إضافي بتوزيع تذاكر الأفراح في كفر البطيخ.
يقول: "هذا موسم المكسب الحقيقي الذي أنتظره كل عام. فمنذ سنوات طويلة وأنا أعمل في توزيع تذاكر الأفراح على منازل أهل الكفر. يطلبني أصحاب المناسبة سواء كانت زواج أو ميلاد أو حتى طهور "ختان" لتوزيع تذاكرها مقابل مبلغ مالي معقول".
"للزواج والمناسبات في كفر البطيخ طقوس خاصة لا تتكرر في مدينة أو قرية أخرى، يتم اختلاق الاحتفالات لجمع الأموال أو "النقطة، التي أصبحت بيزنس خاص له أسراره وتفاصيله"
"الأمر لا يكلفني شيئاً، فمع دراجتي التي أجوب بها شوارع القرية وفي حقيبة يدي الكروت، أو التذاكر التي أسلمها لأصحاب المنازل، أو تركها أسفل الأبواب إن لم أجد أحداً".
مهمة سلامة لا تقتصر فقط على توزيع الكروت كما صرح لي، لكنه يقوم بجمع "النقوط" ممن تخلف عن الحضور.
وهذا أمر أدهشني كثيراً، فالذي لم يتمكن من الحضور لرد ما عليه من "نقوط"، يذهب سلامه إليه ليجمع منه "النقوط"، وإذا تعذر في الدفع تكون الفضيحة الكبرى بين أهل القرية، لذلك تجد من يقترض لسد ما عليه من "نقوط" ليحفظ ماء وجهه.
سلامة ليس الوحيد الذي ينتظر موسم الأفراح كل العام لما يجنيه فيه من مكاسب، فسلامة قد يكون الحلقة الأضعف في سلسلة "النقوط" في كفر البطيخ، أو الأقل ربحاً من هذا الأمر.
فعملية جمع "النقوط" يتم من خلال شادر أو "فراشة"، تقام بخيام ملونة، وإضاءة منوعة، وكراس أنيقة، وبوفيه يقدم التحية للضيف، وكاتب مسؤول عن الدفتر.
طه أبو مسلم، أحد أفراد عائلة تخصّصت في إعداد تلك الخيام، يقول لرصيف22: "تتنوع الفراشة وتختلف تفاصيلها حسب المستوى المادي لصاحب المناسبة، فهناك زبون يطلب فراشة عادية بسيطة لا تتكلف ألفين جنيه مثلاً، وهناك من يطلبها فايف ستارز تتخطي تكلفتها الخمسين ألف، وهي الفراشة التي تحتوي على مقاعد أنيقة وإضاءة فخمة وبوفية كامل بطقم خدمة محترف".
وللبوفيه متخصصون يعرفون أصول الخدمة، محمد العباسي صاحب أهم مكتب لخدمات الأفراح في القرية، فهو المسؤول عن البوفيه في أغلب أفراح الأعيان، يقول لرصيف22: "يشترط في تلك الأفراح حسن المظهر ولباقة الويتر، فهو يتعامل مع صفوة المجتمع في كفر البطيخ، من رجال أعمال وأصحاب مصانع وشركات ومعارض موبيليا، تستطيعي أن تصفيهم بعتاولة البلد وأصحاب أكبر رؤوس أموال بها، يقدمون نقوطاً بآلاف الجنيهات، لذلك يوصي أصحاب الحفل بهم، فنهتم بكل تفاصيل الخدمة من أدوات وطريقة تعامل ومعرفة بأصول الخدمة".
حفلات "الطهور"
الطريف في الأمر، والذي عرفته من طه ومحمد، أنَّ تحصيل "النقوط" ليس له علاقة بوجود حفل زفاف أو ميلاد وخلافه، لكن يكفي أن تقيم حفلاً خاصاً لجمع ما دفعته من "نقوط"، وهي الحفلات التي تعرف في كفر البطيخ بحفلات "الطهور"، يقيمها صاحبها فقط لجمع ما دفعه في مناسبات عديده سابقة.
"واظبت لخمس سنوات على مجاملة كل أهل القرية وحضور أفراحهم وحفلات السبوع والعودة من الحج، ولأن ابني بعده صغير قمت بالاشتراك مع جارتي التي كانت تفعل مثلي في اختراع حفل طهور، وجمعت منه مبلغاً ساعدني في بدء مشروعي"
فمن الوارد أن يكون دافع "النقطة" ليس له أولاد على "وش جواز"، أو يكون كل أولاده بالخارج، أو تم زواجهم فعلياً، ولا يستطيع الانتظار لجني ما دفعه في السابق في عرس أحد أحفاده، حينها يقرر إقامة حفل طهور له كل تفاصيل حفل الزفاف من كروت ولافتات وشادر وخلافه، لكن بدون عريس أو عروسة.
كذلك يمكن في تلك الحفلات التي تقام لجمع أموال "النقطة"، اشتراك أكثر من شخص، تقول مها شرابي، صاحبة محل ملابس في القرية لرصيف22: "لم أستطع فتح هذا المحل إلا بحفل طهور".
تشرح مها أكثر: "واظبت لسنوات خمس على مجاملة كل أهل القرية وحضور أفراحهم وحفلات السبوع والعودة من الحج ومجاملة المرضى، ولأن ابني بعده صغير قمت بالاشتراك مع جارتي التي كانت تفعل مثلي في إقامة حفل طهور وجمعت منه مبلغاً كبيراً ساعدني في بدء مشروعي، وأواصل المسيرة الآن لتجديد منزلي".
استغلت السينما المصرية ظاهرة اختلاق المناسبات لجني المال في مهدها، حيث أخرج سامح عبد العزيز فيلم "الفرح" عام 2009، تدور قصته في حي شعبي حول اختلاق زينهم، أدى دوره الممثل خالد الصاوي، حفل زفاف، واستأجر عروسين، ليرد "النقوط" التي دفعها، ويتمكن من شراء ميكروباص، حيث جسد الفيلم مجتمعاً يعاني من البطالة، والندرة الاقتصادية، وعبء الديون، مما جعل حياتهم كلها وهم، واختلاق، تماما مثل تلك الأعراس.
لاختلاف كفر البطيخ عن غيرها من مدن وأحياء مصر، قرَّر المخرج حلمي ياسين تقديم فيلم وثائقي عنها حمل عنوان "كشف نقوط"، وهو الفيلم الذي ألقى الضوء على هذه الظاهرة، بكل ما أنتجته في مجتمع كفر البطيخ من وظائف مستحدثة اقتربت من عشرين وظيفة، يعيش ممتهنوها على ما تدره عليهم من أرباح في موسم الأفراح السنوي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...