عاشت قطاعات من المجتمع المصري في مناطق مهمشة، شديدة الاكتظاظ، ومحرومة من البنية الأساسية، والسكن اللائق، خاصة حول المدن الرئيسية كالقاهرة والإسكندرية.
مع مرور الزمن، أصبح لتلك القطاعات "ثقافة" تخصّها، تعكس نمط حياتها، وطريقة تفكيرها، وإحدى أكبر تجلياتها تجسدت في أغاني "المهرجانات"، التي تتحدث عن أجواء اجتماعية يسودها ثقافة التحرش، زنا المحارم، وانتهاك جسد المرأة، ما حفز الشرائح الاجتماعية الأخرى على رفض هذا النوع من "الفن"، واعتبروه هادماً، ليس فقط للذوق ولكن للأخلاقيات، في حين انبرى فريق آخر يعتبر ذيوع هذا النمط الغنائي وانتشاره، نجاحاً من العبث مقاومته أو منعه.
وفي ظل هذا الانقسام، كان لنقابة المهن الموسيقية في مصر، برئاسة الفنان هاني شاكر، وقفة ضد هذه الأغاني، بمنعها في الأماكن العامة، والسياحية، والحفلات، والفنادق.
تفجرت الأزمة في حفل عيد الحب الأخير الذي أقيم في إستاد القاهرة، وكان سبباً في غضب نقابة المهن الموسيقية لوقف هذه الأغاني، بعد استمرار مطربي المهرجانات- تحديداً أغنية "بنت الجيران" للمطربين حسن شاكوش وعمر كمال- في استخدام ألفاظ مرفوضة في الأغنية، وهي جملة "أشرب خمور وحشيش".
"شعبية المهرجانات زائفة"
يرفض هاني شاكر نمط أغاني المهرجانات بشكل قاطع، يقول لرصيف22: "هذه الأغاني التي تعتمد في كلماتها على الإيحاءات الجنسية والتلميحات، والحثّ على مخالفة العرف والأخلاق، مرفوضة تماماً وستظل مرفوضة، لأننا مجتمع شرقي يرفض الإخلال بالقيم، لذلك جاء قرارنا بمنع انضمام مطربي المهرجانات للنقابة، ووقف أغانيهم، اتساقاً مع توجه عام للمجتمع برفض الأغاني التي تنحدر بمستوى الذوق العام وأخلاقيات المجتمع".
ويقول شاكر متذكراً بحنين حال الغناء في الماضي: "الغناء والطرب المصري يعاني منذ 10 سنوات، من غياب الحفلات الغنائية الراقية التي كان الجمهور ينتظرها نهاية كل أسبوع أو كل شهر على شاشات التليفزيون، هذا الغياب العشوائي أو المتعمد جعل المنتجع الغنائي الذي يصنع تحت بير السلم هو المتحكم في الذوق العام".
"هذه الأغاني التي تعتمد في كلماتها على الإيحاءات الجنسية، والتلميحات، والحثّ على مخالفة العرف والأخلاق، مرفوضة تماماً، وستظل مرفوضة، لأننا مجتمع شرقي..." هاني شاكر لرصيف22
ويشدد هاني على "حق كل شخص في الغناء"، ولكن "النقابة من حقها أن تعطى تصريحها لمن تراه يتماشى مع الذوق العام، وتتوافر لديه مقومات الغناء فقط، وليس لكل من ادعى الغناء، ومارسه مخلاً بالأخلاق، وضارباً بأعراف الشعب المصري، وتقاليده عرض الحائط".
على جانب آخر، الموزع الموسيقي طارق مدكور يقول في تصريحات لرصيف22 عن نفسه أنه "أكثر تقبلاً" لفكرة أغاني المهرجانات، ويضيف: "إن الكلمات التي تحملها هذه الأغاني، والتي يثير بعضها سخط المتابعين، والمسؤولين، بعضها دراج في الدراما والسينما المصرية، ونشاهدها كثيراً في الأعمال التليفزيونية، والتي يتناسب عرضها أيضاً مع شهر رمضان الكريم الذي من المفترض أن يكون فيه المجتمع أكثر التصاقاً بالعبادات والقيم والأخلاق".
"لا توجد قواعد واضحة لما يتسق أو لا يتسق مع المجتمع".
وتابع مدكور دفاعه: "المهرجانات شكل من الأشكال الموسيقية التي ظهرت في الفترة الأخيرة، بعضها يحمل إيحاءات جنسية خارجة بالفعل، لكن بعضها بريء من هذه التهمة، ويجب قبل التعميم أن ننتقي المميز من هذه الأغاني، والجيد من تلك الأصوات، وندعمها بدل محاربتها، خاصة أنه لا توجد قواعد واضحة لما يتسق أو لا يتسق مع المجتمع، في ظل التفاوت الكبير في أذواق الجمهور المتلقي، ويجب أن يكون الحكم بالقبول أو الرفض لهذا المنتج الموسيقي والغنائي متروك للجمهور".
ولكن شاكر لا يقر بحكم الجمهور وحده كمعيار لقبول هذا النوع من الغناء، يقول شاكر: "مشاهدة الأغنية بالملايين عبر يوتيوب وفيس بوك وباقي وسائل التواصل الاجتماعي لا يعني نجاحها على المستوى الشعبي، الشعب يميل للتطلع، ويسيطر عليه الفضول، لذلك هذه المشاهدات التي تقدر بعشرات الملايين خادعة وغير حقيقية، ولا يعنى سماع الأغنية الإعجاب بها".
وختم نقيب الموسيقيين حديثه قائلا: "أغاني المهرجانات تمثل تياراً فنياً مؤقتاً لم يبن على أسس سليمة، لذلك سيكون عمره قصير، خاصة إذا اتحدت النقابات والهيئات، وعلى رأسها هيئة الرقابة على المصنفات الفنية، لتحجيم هذه الظاهرة، فالفن الحقيقي، الهادف سينتصر في النهاية على هذه الظواهر الصوتية المؤقتة".
"لا أسمح لزوجتي بسماع المهرجانات"
يشير محمد عشري، اسم مستعار (30 عاماً) ويعمل مدير تحرير لموقع إلكتروني مستقل، إلى أن ما لا يلتفت له البعض، أن الواقع في كثير من المناطق العشوائية والشعبية تغير كثيراً.
اضطر العشري في بدايات طريقه المهني في الإعلام للسكن في مناطق عشوائية في القاهرة مثل "أبو قتادة"، و"بين السرايات"، وكانت له علاقات مع أهل المنطقة، وأقام علاقة مع فتاة تنتمي لتلك "الثقافة"، وأثرت على ذوقه الموسيقي، واستمتاعه بأغاني المهرجانات.
يقول العشري لرصيف22: "علاقتنا كانت غريبة جداً، فهي تكرهني وتتعامل معي بعنف، وتعرف أني لا أحترمها، وهي أيضاً لا تحترمني، كما يحدث في العلاقات بيننا، حتى كلمات الحب بيننا يتخللها كلمات عنيفة، وأفعال عنيفة، البعض يغازلها في الشارع بطريقة فجة، ولكنها تضحك، وأحياناً تنبسط من المعاكسات، وتشتم أيضاً".
ويرى محمد أن جيلاً نشأ في أشكال "غريبة وعشوائية" من المشاعر، والتصرفات، وأن تلك الأغاني رغم انتهاكها لما يعرف بـ"الأخلاقيات العامة"، ولكنها تعكس واقعاً آخر لا يلتفت له المسؤولون، والساكنون خارج العشوائيات.
يرى محمد أن جيلاً نشأ في أشكال "غريبة وعشوائية" من المشاعر، والتصرفات، وأن تلك الأغاني رغم انتهاكها لما يعرف بـ"الأخلاقيات العامة"، ولكنها تعكس واقعاً آخر لا يلتفت له المسؤولون، والساكنون خارج العشوائيات
ولكن هيثم الحديدي، شاعر غنائي (26 سنة) من القاهرة، يطالب بشدة بمنع تلك الأغاني، يقول لرصيف22: "مهرجان "أمك صحبتي"، مهرجان "كل البنات ببلاش"، مهرجان "بز الموزة"، مهرجان "حريم زينة"، مهرجان "البت الفرسة" ومهرجان "البت فاتحة الملعب"، كلها أغاني تحمل تحريضاً على التحرش، وانتهاك جسد الأنثى، ومعاملتها على أنها سلعة في سوق تجارة الجسد".
وعن تأثر الشباب والفتيات بتلك الأغاني، يقول الحديدي: "لا أرى عجباً في تعلق الشباب بهذه الأغاني، لأنها تثير شهوتهم وغرائزهم، إنما الأزمة في تأثير هذه الأغاني على الأطفال، وتعلق النساء بها، رغم أنها تنتقص من قيمة الأنثى، وتنتهك خصوصياتها وإنسانيتها".
"الأزمة في تعلق نساء بأغاني تنتهك إنسانية وقيمة المرأة".
يتابع الحديدي، معبراً عن ثقافة يتبناها بعض المصريين في فرض الوصاية على أخواتهم وزوجاتهم: "من غير المنطقي أن أسمح لأختي أو زوجتي بسماع أغاني مثل "أصحى ياللي أمك صحبتي، خالتك كمان كانت فردتي، وأختك بترقص على مطوتي، أحسن من أيها سرسجي" للمطرب حمو بيكا، أو الأغنية التي تدعو وتشجع على زنا المحارم وتقول كلماتها "البنت ليل نهار قاطعة، وابوها دوغري مشقلطها، بتخش في الضلمة في متعة، حيحانة مش عارفة غلطها، وولعة تسحب ورا ولعة وكلبة أبوها منططها"، طبيعة عملي تحتم علي سماع كل الألوان الغنائية، لكن لا يجب تصنيف هذه المهرجانات على أنها فن من الأساس".
ويرفض مدكور الحكم المطلق على مطربي المهرجانات بالمنع، دون إخضاعهم لتحقيق بواسطة نقابة المهن الموسيقية، لمعرفة تفاصيل وكواليس الأغنية سبب المنع، خاصة أن شاكوش وعمر أقرّا بحذف الكلمات الخارجة من أغانيهم، وبحرصهما على حذف الكلمات المتعارضة مع أخلاقيات الشارع، وغناؤها في حفل استاد القاهرة في عيد الحب جاء بالخطأ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...