لا يُعد العمل الإبداعي والفني سلعةً يقدمها الفنان، ويحصل على بدل مالي مقابلها، وحسب، بل تؤهله في الدول المتقدمة، ليصبح صورة حضارية لبلده، ومن هنا انطلق مفهوم تكريم الفنانين الذي يحمل وجوهاً عدة، إما عن طريق جوائز مادية، أو معنوية تتمثل بشهادة، أو قلادة، أو أوسمة استحقاق، وصولاً إلى فتح قاعات الشرف لهم في المطارات، والاهتمام بهم لأنهم سفراء لبلادهم.
منذ زمن، استقطبت الدول العربية أصحاب المواهب الفنية، ولا سيما مصر التي منحت الجنسية للعديد من الفنانين العرب، منهم وردة الجزائرية، وصباح، وعبد السلام النابلسي، وفريد الأطرش، وفايزة أحمد، وسميرة سعيد، في حين اكتفت دول أخرى مثل سوريا بتكريم معنوي من دون إعطاء الجنسية، حتى للفنانين الذين ولدوا واستقروا فيها لسنوات طويلة، وهم من أصول أخرى.
بات المشهد العام يوحي أن دبي أصبحت مركز وجود الفنانين العرب بتقديمها الإقامات الذهبية والجنسيات لهم.
ومؤخراً، دخلت الإمارات العربية المتحدة على خط تكريم الفنانين والفنانات من خلال منح الجنسيات، وأيضاً "الإقامات الذهبية"، ما يوفر العديد من الميزات للحاصلين عليها. وضجّت مواقع التواصل في الأشهر الأخيرة بأسماء فنانين وفنانات عرب حصلوا على هذه الجنسية، أو الإقامة، خاصةً السوريين منهم، الهاربين من نيران الحرب في بلادهم، إذ تتالت أخبار إقاماتهم الذهبية في الإمارات، وحتى جنسياتهم، وكان آخر الحاصلين عليها الممثل ياسر العظمة. وتباينت ردود الفعل بين ترحيب بالأمر، وتخوين لمن خاض هذه التجربة، وحاز على جنسية، أو إقامة في غير بلده الأصلي.
بذلك، بات المشهد العام يوحي أن دبي أصبحت المدينة السياحية الأبرز، ومركز وجود الفنانين العرب، بعد أن كانت بيروت تأخذ هذه الصفة بمهرجاناتها وحفلاتها، واليوم باتت سمتها هي معالم الانهيار الاقتصادي. أما دمشق التي كانت تجمع النجوم في مهرجانات السينما، والحفلات، وغيرها، فأصبحت اليوم صحراء لا تروي ظمأها موسيقى، أو مشهد درامي.
ما هي الإقامة الذهبية؟
طبّقت الإمارات مطلع العام 2019، نظام تأشيرة إقامة طويلة الأمد، لمدة تتراوح بين خمس وعشر سنوات، وفق فئات تشمل المستثمرين، ورواد الأعمال، وأصحاب المواهب التخصصية، يسمح لهم ولعائلاتهم بالإقامة والعمل في البلاد، وتُجدَد بشكل تلقائي في حال توافر الشروط نفسها، من دون الحاجة إلى كفيل.
وحصل العديد من فناني وفنانات سوريا على هذه الإقامة، ومنهم مها المصري، وديمة الجندي، وتيم حسن، وقصي خولي، ونظلي الرواس، وكاريس بشار، بالإضافة إلى كتّاب مثل مازن طه، وعثمان جحا، ومخرجين مثل زهير قنوع، والسدير مسعود. ولم تقتصر المسألة على السوريين، إذ حصل على الإقامة مغنون ومغنيات عرب، كنجوى كرم، ولطيفة، وراغب علامة، وعمر عبد اللات، وممثلون وممثلات مثل محمد رمضان، ونيللي كريم، ونادين نجيم، ونبيلة عبيد، فضلاً عن نجوم عالميين كلاعب الكرة كريستيانو رونالدو، ولاعب التنس نوفاك ديكوفيتش، والممثل شاروخان، وغيرهم ممن اعتُمدوا كواجهات إعلامية للبلد المضيف.
ولم يصدر أي بيان رسمي، أو توضيح، من الإمارات حول كيفية اختيار الفنانين، وما إذا كان الموضوع انتقائياً، أو حقاً لكل فنان. ووفق تصريحات عدد من الفنانين السوريين، تبين أنهم يتوجهون إلى الإمارات للحصول على هذه الإقامة، بعد الموافقة عليها، إذ توجد مكاتب ترشح الأسماء، والسير الذاتية، لوزارة الثقافة والشباب، ليُمنحوا لاحقاً إقامتهم الذهبية لقاء رسوم تقارب الألف دولار أمريكي.
طبّقت الإمارات مطلع العام 2019، نظام تأشيرة إقامة طويلة الأمد، وفق فئات تشمل المستثمرين، ورواد الأعمال، وأصحاب المواهب التخصصية، يسمح لهم ولعائلاتهم بالإقامة والعمل في البلاد، وتُجدَد بشكل تلقائي في حال توافر الشروط نفسها، من دون الحاجة إلى كفيل
علاقة نفعية
أكد جزء من الفنانين السوريين المذكورين أن حصولهم على الإقامة لا يعني استقرارهم في الإمارات، أو إفراغ سوريا من الفنانين، كما ظن أو تخوّف البعض، واصفين الأمر بأنه لا يتعدى كونه "مكرمة" من دولة الإمارات.
العديد من هؤلاء الفنانين كانوا قد نقلوا بالفعل إقامتهم إلى الإمارات مؤخراً، أو منذ سنوات طويلة. منهم من غادروا سوريا نهائياً، أو قلّ وجودهم في دراما بلدهم المحلية، وتوجهوا للعمل خارج بلادهم نظراً للفارق الكبير في الدخل، ففي سوريا تُعطى الأجور بالليرة السورية، ولا تتجاوز ما يعادل الـ50 ألف دولار للممثل "النجم"، في حين قد يزيد هذا الأجر عن مئة ألف دولار خارج سوريا، إلى جانب تأمين الإقامة، والتنقلات، والمستلزمات الفنية واللوجستية كافة.
وفي الوقت ذاته، استفادت الإمارات من وجود هؤلاء الفنانين لرفع السوية بأعمال فنية مهمة، فشجعت المنتجين العرب على التصوير فيها من خلال دفع جزء من تكاليف الإنتاج، وصُوّرت فيها العديد من الأعمال السورية بدلاً من دمشق، مثل "الحرملك"، و"الأخوة"، وغيرهما.
أكد جزء من الفنانين السوريين أن حصولهم على الإقامة لا يعني استقرارهم في الإمارات، أو إفراغ سوريا من الفنانين.
بالإضافة إلى ذلك، استقطبت البرامج التلفزيونية الإماراتية الفنانين السوريين، كونها مدفوعة، وليست مجانية كغالبية البرامج السورية. لكنها في المقابل تستفيد من أسمائهم من خلال دعمهم للسياحة، وترويجهم للإمارات، إما بشكل عفوي، أو حتى لقاء بدل مادي، عبر الإعلانات الطرقية، ومواقع التواصل الاجتماعي، ونشر صور الفنادق والمطاعم والمقاهي التي تستقبلهم بشكل مجاني، أحياناً.
وعن هذا الموضوع، قال الممثل السوري محمد قنوع لرصيف22 إن هذه الإقامة هي "مكرمة" من دولة الإمارات لنجوم سوريا، لتسهيل عملهم، وتنقلاتهم، إن رغبوا في تصوير الأعمال الدرامية فيها، أو في دول أخرى، ولا توجد فترة معينة يجب عليهم العودة فيها إلى الإمارات، مثل بقية الإقامات، وهي لا تختلف عن الإقامة العادية بغير ذلك.
"لا تعني هذه الإقامة ابتعادنا عن الدراما السورية، أو دمشق، ولا نقبل أن يتم تخويننا، أنا وزملائي، أو التشكيك في وطنيتنا. حصلت على الإقامة حين كنت أصور مسلسل "السنونو" في الإمارات، ما أسعدني جداً".
الأمر لم يتوقف على الفنانين، إذ منحت الإمارات الإقامة الذهبية لمبدعين ومستثمرين سوريين استقروا فيها خلال السنوات الماضية، لتستفيد من إبداعاتهم، ورؤوس أموالهم.
عن هذا الأمر تحدث الخبير والمدرب السوري في مجال الطاقة راني الخضري لرصيف22، قائلاً إنه حصل مؤخراً على الإقامة الذهبية من فئة المبدعين. "الأمر جاء كتقدير من الدولة، ويقدم لي الكثير من التسهيلات والدعم، من خلال افتتاحي واحداً من أهم مراكز علم الطاقة، والدعم النفسي والمعنوي في دبي، فسمحت لي هذه الإقامة بالتملّك، والاستفادة من استقطاب الشخصيات الموجودة في الإمارات من مختلف الجنسيات"، يشرح الخضري، ويضيف أن سوريا ينقصها استقطاب هذه المواهب، بسبب غياب الرؤية المستقبلية للجيل الجديد.
عدّ الفنانون السوريون أن حصولهم على الإقامة الذهبية، بمثابة هدية مهمة، وحلّ إسعافي لحياتهم، وعملهم، وتنقلاتهم، مع تذيّل جواز السفر السوري قائمة أفضل الجوازات في العالم، وتدني أجور العمل المحلية مقابل تلك التي يمكن أن يحصلوا عليها خارج سوريا
الإقامة كحل إسعافي
لم يكن التنقّل بين الدول العربية، أو الأجنبية، أمراً يدعو إلى القلق بالنسبة إلى الفنان السوري قبلاً، بل أصبح كذلك بعد التغييرات السياسية، والمواقف التي اتخذتها العديد من الدول تجاه دمشق بعد عام 2011. ومع تذيّل جواز السفر السوري قائمة أقوى جوازات السفر في العالم، وجد الفنانون أنفسهم من أكبر الخاسرين، إذ تأذت أعمالهم، ومردوداتهم المادية، بالإضافة إلى مقاطعة الدراما السورية من معظم القنوات العربية التي كانت المستورد الوحيد لهذه الصناعة.
وحتى إن رغب الفنان/ة بالعمل في بلد آخر، فجواز السفر السوري يعيق التنقل، كما حدث مثلاً مع المغنية السورية لينا شماميان التي دُعيت لإحياء حفلات في تونس، فلم يُسمح لها بصعود الطائرة لأنها سورية، بالإضافة إلى العديد من الفنانين، وخاصةً الشباب الذين خسروا فرص عمل كثيرة بسبب عدم قدرتهم على تأمين تأشيرات دخول إلى أماكن التصوير والعمل.
مع هذه المعطيات كلها، عدّ الفنانون السوريون أن حصولهم على الإقامة الذهبية، بمثابة هدية مهمة، وحلّ إسعافي لحياتهم، وعملهم، وتنقلاتهم.
دمشق تلتزم الصمت
لم يصدر أي تصريح رسمي، أو موقف واضح من دمشق، تجاه الفنانين الحاصلين على الإقامات الذهبية، علماً أن القوانين السورية لا تُسقط عن أي مواطن حقه في الاحتفاظ بجواز سفره عند حصوله على إقامة، أو جنسية أخرى، إلا إذا طلب هو ذلك.
ولا يمكن أن نغفل، في هذا الصدد، أن العلاقات السورية الإماراتية باتت طيبة مؤخراً، بعد افتتاح الإمارات لسفارتها في دمشق عام 2018، وإعادة العلاقات الدبلوماسية التي كانت منقطعة لأكثر من ست سنوات بين البلدين. لكن اللافت أن أحداً من الفنانين السوريين الحاصلين على الإقامة، لم يتطرق إلى مسألة اتفاقية التطبيع التي أبرمتها الإمارات مع الكيان الصهيوني، وهل هي أمر يجب عليهم احترامه، إن لم يتعاملوا معه، كونهم يملكون إقامة البلد الآن، مع موقف سوريا الواضح منها؟
"الأمر جاء كتقدير من الدولة، ويقدم لي الكثير من التسهيلات والدعم، فسمحت لي هذه الإقامة بالتملّك، والاستفادة من استقطاب الشخصيات الموجودة في الإمارات من مختلف الجنسيات، في حين لا تعمل سوريا على استقطاب المواهب، بسبب غياب الرؤية المستقبلية للجيل الجديد"
وفي حزيران/ يونيو الفائت، أبدى نقيب الفنانين السوريين زهير رمضان "تحفظه" على حصول الفنانين على الإقامة الذهبية، وتساءل عن الدوافع الكامنة وراء هذا الأمر الآن، وأكّد ضمن أحد البرامج الإذاعية أنه سيرفضها إن عُرضت عليه. كما شن النائب السابق في مجلس الشعب السوري خالد عبود، هجوماً على الفنانين الحاصلين على الإقامات الذهبية، وحذّرهم من التسويق للإمارات، عادّاً الأمر "خيانة عظمى". أما الفنان دريد لحام فقد صرّح بأنه "ليس في حاجة إلى الإقامة الذهبية، حتى لو عُرضت عليه".
وحول موقف نقابة الفنانين من تصريحات النقيب، أكدت رئيسة فرع دمشق لنقابة الفنانين تماضر غانم لرصيف22، أن تصريحات رمضان آراء شخصية، ولا تمثّل النقابة التي لا يوجد في قوانينها ما يمنع الأمر، وعدّت الأمر تكريماً للفنانين السوريين، ولا علاقة للنقابة بذلك، وأضافت أنها "تفضّل موقعها في النقابة على الإقامة الذهبية".
مثل أي حدث يختلف ويتفق عليه الرأي العام، رأى البعض الإقامة ذهبيةً، وبعيار 24 قيراط، بينما جرّدها البعض من كل قيراط فيها، بل وصوّرها على أنها "فالصو"، ولا قيمة لها. ولكن في مطلق الأحوال، يحق لأي شخص الحصول على إقامة، أو جنسية، في أي بلد آخر، والاستقرار فيه أيضاً. لكن إن سألنا أنفسنا ماذا تقدم سوريا اليوم لجذب فنانيها، أو الفنانين العرب، أو المستثمرين، أو غيرهم، إليها، للعمل والإقامة فيها، ماذا سيكون الجواب؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين