يستحيل على الموريتاني أن يكون مزدوج الجنسية بسبب قانون الجنسية الذي يمنع ذلك. ولأن أبناء البلد كغيرهم من أبناء دول الجوار، يضطرون إلى الهجرة، إذ لا سبيل غيرها للخروج من الواقع الاقتصادي السيئ، وكذلك لتحسين قدراتهم العلمية والمعرفية، يجدون بعد سنوات أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ. التشبّث بالجنسية الموريتانية وحدها، أو الالتفاف على القانون، ولو إلى حين.
جذور وفروع
في العقود الماضية، شهدت موريتانيا موجاتٍ شديدة من الهجرة نحو ملاذات مختلفة تعددت وتنوعت من الولايات المتحدة الأمريكية إلى أوروبا وبعض الدول الأفريقية والخليجية.
وحسب تصريح سابق لوزير الخارجية الموريتاني، "يبلغ عدد الموريتانيين في الخارج زهاء نصف مليون شخص"، وهذا الوضع شكّل مجتمعات جديدة من الموريتانيين الذين يحملون جنسيات دول أخرى، لكنهم يعانون من واقع يرونه ظالماً، وهو أن كلّ من يحمل جنسية دولة أجنبية، تسقط عنه الجنسية الموريتانية، ولا تعود إليه إلا باستثناء يمنحه رئيس الدولة .
عبد الله ولد سيدي موريتاني حاصل على الجنسية الأمريكية، لكنه إلى الآن محروم من جنسيته الموريتانية. وكانت بداية علاقة عبد الله مع أمريكا هي رغبته في زيادة تحصيله العلمي، وقال في حديثه لرصيف22: "أنا حاصل على البكالوريوس في إدارة الأعمال، وشهادة عليا من جامعة كولومبيا في أساسيات الأعمال، ولدي خبرة طويلة في تطوير الأعمال وتطوير شبكات العلاقات، والتجارة وغيرها".
لأسباب تاريخية، ومخاوف على الدولة المستقلة حديثاً في الستينيات من القرن الماضي، منعت موريتانيا مواطنيها من أن يكونوا مزدوجي الجنسية. وهذا ما تعاني منه الجاليات الموريتانية في العالم اليوم
يحكي قصته لتحقيق الحلم الأمريكي، ورغبته في الاندماج في بلاد "العم سام" قائلاً: "قدِمت إلى الولايات المتحدة لمواصلة مشواري الدراسي، وأقمت فيها، وحصلت على الجنسية الأمريكية، وأعدّ نفسي مزدوج الجنسية رغماً عن القانون الموريتاني الذي يمنعني من ذلك مؤقتاً حتى أسترجع جنسيتي الموريتانية".
وأكد ولد سيدي على أن "ازدواجية الجنسية هي المطلب الأول للجالية الموريتانية في الولايات المتحدة، والتي لا تزال ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالوطن الأم، خصوصاً أن القانون الأمريكي لا يحرم المواطنين الأمريكيين من جنسياتهم الأصلية، ويسمح لهم بالاعتزاز ببلدانهم الأم، ولا يشترط عليهم التخلي عن جنسياتهم، وروابطهم بأوطانهم".
وأضاف: "تم تقديم هذا المطلب للنظام السابق الذي وعد بتحقيقه، ثم قُدّم مجدداً إلى فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أثناء الرئاسيات، وخلال زيارته نيويورك على هامش قمة الأمم المتحدة، وقد وعد مشكوراً بتحقيقه. كما أن هناك مشروع قانون لم يستلمه البرلمان بعد، لكننا نأمل بإقراره قريباً".
محظوظون... ولكن
تختلف قصة المهندس الموريتاني يحيى ولد اللود عن حكاية مواطنه عبد الله، فيحيى نجح في الحصول على استثناء بازدواجية الجنسية، وقد تحدث لرصيف22 قائلاً: "أنا شخصياً حصلت على ازدواجية الجنسية من خلال جهود جماعية قمنا بها هنا في أمريكا، حين زارها الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، وتعهّد بحل معضلة ازدواجية الجنسية، وقال آنذاك إن الأمر لم يُعرض عليه من قبل، وإنه لم يصله طلب إلا وافق عليه، وقال لنا: تقدموا بطلب جماعي، فأعددنا لائحةً من الجاهزين، وكانت لائحة فيها عشرون اسماً أو ثلاثون، أرسلناها إليه، وتمت الموافقة على تسعة منهم بينما قيل إن ملفات الآخرين ليست مكتملة، وكنت محظوظاً لأنني واحد من الذين تم منحهم الحق في ازدواجية الجنسية".
وكانت بداية يحيى مع الهجرة في سنة 1999، إذ قال: "أنا خريج الجامعات العراقية عام 1998، وهاجرت إلى الولايات المتحدة بعدها بعام، وكان مخططي هو أن أكمل دراستي هناك، ثم الرجوع إلى بلدي. ولكن ظهر لي أن ذلك مجرد حلم. فمن غادر ليس بعائدٍ، ومن رحل عن موريتانيا في ظروفها الاقتصادية آنذاك والتي لا تزال على حالها، ليس بعائدٍ".
ويملك يحيى حالياً شركة للشّحن واللوجستيك مقرها في نيويورك، ولديها مكاتب في موريتانيا. وتحدث يحيى عن نضال الجالية الموريتانية في أمريكا لتصبح ازدواجية الجنسية حقاً لا "هبة" من طرف الرئيس الذي يخوّل القانون له وحده منح الحق فيها قائلاً: "بخصوص النضال من أجل قضية ازدواجية الجنسية، لم يزر سفير أو بعثة وزارية أمريكا ولا عُقِد لقاء مع الجالية، إلا وطُرح خلاله هذا المطلب. فهذه هي الغاية الأولى من كل لقاء مع المسؤولين الرسميين. ويُقدّر الحاملون للجنسية الأمريكية بين ثمانية إلى عشرة آلاف شخص. والعدد يرتفع، فكل سنة يضاف إليه العشرات، إن لم يكن المئات من الحاملين الجدد للجنسية الأمريكية. فبعد الإقامة لخمس سنوات، يحصل بعضهم على الجنسية، وجميع تجمعات الجالية الموريتانية في أمريكا تعتبر هذا المطلب أساسياً لها، ومن مطالبها الكبيرة".
يضطر الموريتانيون مزدوجو الجنسية إلى الاحتيال أو دفع رشاوى لزيارة بلدهم. فما هو السبب في ذلك؟
وأضاف يحيى أن البعض ينشط أيضاً على المستوى الوطني لتحقيق المطلب قائلاً: "كل مكتب للجالية يعتمد هذه القضية كواحدة من قضاياه المهمة، ويعرضها على الرسميين ويشرح لهم معاناة الجالية. المعاناة لا تنتهي لأن أغلب الناس والأسر أساساً حين يذهبون إلى موريتانيا يقضون فترة طويلة، إذ يقضي البعض الكثير من الوقت متغرباً، وحين يعود إلى موريتانيا يضطر إلى البقاء أشهراً عدة، وحين يدخل بأوراقه الأمريكية، أو بأي جواز سفر أجنبي آخر، يعطونه تأشيرة صالحة لمدة شهر واحد، وحين تنتهي يُعدّ مخالفاً للقانون، ويتعرض للابتزاز كلما أراد تجديد أوراقه الثبوتية لدى إدارة الحال المدنية، كما تبتزه الشرطة عند مغادرته".
ابتزاز ومعاناة
وحسب موريتاني حاصل على الجنسية الأمريكية، ومحروم من ازدواجية الجنسية، فضّل عدم كشف اسمه، فإنه حين يدخل إلى بلده موريتانيا، لا بد أن يدفع 60 دولاراً، وحين يقضي أكثر من الشهر الذي يملك الحق فيه بفضل "تأشيرة السفر"، عليه دفعها من جديد، فمثلاً إن كانت أسرة مكوّنة من خمسة أشخاص فستدفع 300 دولار عند الدخول وعند الخروج من الحدود".
وقال يحيى ولد اللود: "كانت موريتانيا في السابق تمنح التأشيرات للأجانب من سفاراتها هنا، ولكن حين أُلغي ذلك، أصبحت التأشيرة تؤخذ في المطار ولا تُعطى لمدة تتجاوز الشهر الواحد. عندها أصبح البعض يدخل إلى موريتانيا عن طريق التحايل؛ مثلاً يدخل بجواز سفر موريتاني، ويخرج بالجواز الأجنبي، ويلجأ إلى عمليات رشوة من تحت الطاولة".
وأكد يحيى على أنه "لا يوجد بلد في العالم يُسقط جنسيته عن مواطنيه حين يحصلون على جنسيات أجنبية، إلا بلدان قليلة، وهذا أمر سيئ، فمواطنك حين يحصل على جنسية بلد آخر، يعود عليك وعلى نفسه بالفائدة، وتسهل له أمره".
بقاء صلة وثيقة بالوطن، يشجع الجالية الشابّة على جلب المستثمرين ودعم السياحة الموريتانية. بينما التخلي عن كل هذه الطاقة الشابّة في المهجر، سيدفع إلى قطيعة قد تتخذ مسارات سلبية جداً
من جانبه يعدّ عبد الله ولد سيدي أن "ازدواجية الجنسية خدمة للوطن، وللجالية من نواحٍ عدة أهمها الثقافية والاقتصادية. فوجود جالية موريتانية قوية الارتباط بوطنها الأم، يخدم مصلحة موريتانيا العليا من حيث التعريف بموريتانيا، والدفاع عنها. كما أنه من الناحية الاقتصادية يخدم الاقتصاد الموريتاني، لأن قوة ذلك الارتباط تمكّن من تدفق العملات على نواكشوط، وتشجيع أفراد الجالية في الاستثمار في بلدهم الأم، وجلب خبرات ومهارات وأفكار، البلد في أمسّ الحاجة إليها لتحقيق طموحاته التنموية".
وأشار إلى أن "بقاء صلة وثيقة بالوطن، يشجع الجالية الشابّة على جلب المستثمرين ودعم السياحة الموريتانية التي تحتاج الكثير. بينما التخلي عن كل هذه الطاقة الشابّة في المهجر، وخصوصاً التي تعيش في الولايات المتحدة، سوف يدفع إلى قطيعة قد تتخذ مسارات سلبية جداً، منها سقوط بعض أفراد الجالية في متاهات بعض المنظمات التي تفتك بالدول النامية، وخصوصا العربية منها، لتستخدم شهاداتهم ضد بلدهم في تشويه سمعته، والضغط على حكومتهم، وحرمانها من أي تمويلات أو برامج تنموية قد تخدم نموّ البلد وازدهاره، بل قد يصل الأمر إلى زعزعة الأمن والاستقرار، لا قدّر الله".
أسباب تاريخية
وحسب يحيى ولد اللود فقصة التضييق على ازدواجية الجنسية بدأت في ظروف استثنائية، إذ قال: "بدأ الأمر في ظروف استثنائية في الستينيات من القرن الماضي مع الاستقلال، لأن البلد كان مستهدفاً وهناك أطماع أجنبية؛ أطماع المغرب ومطالبته بموريتانيا، والمشاكل مع الصحراء الغربية، والمشاكل في الجنوب، بالإضافة إلى بعض المهاجرين الذين يحاولون أن يذوبوا في النسيج الموريتاني. حاولت السلطة من خلال هذا القانون أن تقف في وجه كل ذلك، لكن هذا بلا معنى".
وقال يحيى إن "آخر كلام في هذا الموضوع هو تعهد بحل هذا الملف من طرف الرئيس الموريتاني الحالي محمد ولد الغزواني خلال زيارة قام بها إلى الولايات المتحدة، حيث قال إن الأمر منتهٍ، وإن مشروع القرار المتعلق بالسّماح بازدواجية الجنسية سيُعرض على البرلمان، وإنه ليس لدى الحكومة أي مشكلة، وستعرض مشروع القانون على البرلمان. وحين يوافق عليه سيكون قانوناً سارياً بدل هذا الواقع الحالي، شرط موافقة رئاسة الجمهورية على احتفاظ المواطن بجنسيته". وخلص يحيى قائلاً: "أعتقد أن شرط موافقة الرئيس ظالم، فرئاسة الجمهورية لا تمنحها إلا بالمحاباة، أو إذا حدث خرق بسبب ضغط معين مثل زيارة الرئيس السابق لأمريكا، وهو ما استفدت أنا منه، لكن لا زوجتي لديها الحق نفسه، ولا ابني، فكل واحد منهما لا يزال محروماً من ازدواجية الجنسية. وحسب آخر اتصال بيني وبين النائب البرلماني محمد الأمين ولد سيدي مولود، فإن مشروع القانون لم يُعرض إلى الآن على البرلمان الموريتاني".
لكن وعلى الرغم من الوعود المتأخرة، فإن المهاجرين الموريتانيين عبر العالم عازمون على الاستمرار بالمطالبة بحقهم الطبيعي في انتمائهم إلى الوطن الأم، حيث جذورهم، وجذور أجدادهم. وأكد عبد الله ولد سيدي: "سنواصل بحول الله متابعة مطلبنا المشروع في ازدواجية الجنسية حتى يأذن الله، ويستجيب فخامة الرئيس، ويفي بوعده في هذا الصدد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...