منذ عقود والمصريون يتدفقون إلى دول الخليج العربي، أعداد من جيلنا والأجيال القادمة ولدت، وتربت، وتعلمت في دولة خليجية، لدرجة أشعرت المصريين ببعض الانتماء لبلاد يعمها النظام، والمرتبات المجزية، والطرق المرصَّفة، مما سمح للعادات والتقاليد والملامح المصرية، بجانبيها المشرق والمظلم، بالتوهج، بما يوازي أو يتفوق على وجودها الطاغي في الوطن، بحسب من تحدثوا لرصيف22.
وداعاً لمصر أهلاً بمصر
تنفست المصرية أماني حامد (29 عاماً) في الإمارات الصعداء. أخيراً قالت وداعاً لكل سلوكيات الزحام التي عانتها في مصر، والتطفل على حياتها الشخصية، والمنافسة العدائية والمحسوبية في العمل، والترقيات، وإنهاء الأوراق الحكومية، والتقاليد المتحكمة في أزيائها، واختياراتها.
ارتاحت أماني في عملها الجديد، "نظراً لوجود نظام صارم للمحاسبة والرقابة على الأداء المهني لكل فرد داخل المؤسسة، صعب أن يتلاعب به أحد، أو يجني أحد على أحد"، بحسب قولها.
شجعها نظام العمل المنظم على التعرف على مصريين، وتخيلت "مجتمعاً صغيراً من الأصدقاء والأحباء، يبدد الإحساس بالوحدة"، تقول.
وتضيف:"حاولنا أنا وزوجي التعرف على جيراننا المصريين وزوجاتهم، ولكني صُدمت، وجدت كل ما كنت أكره في تصرفات الآخرين في مصر، مثل التطفل والتدخل في الأمور الشخصية جداً، بداية من السؤال السمج "لماذا لا ترتدين الحجاب؟"، وصولاً لمحاولة بعض الجيران من الذكور في التدخل في مظهري ولبسي من خلال تحريض زوجي علي".
سرعان ما عرفت أماني وزوجها أنهما لو أطالا علاقتهما بالجيران قليلاً لعادت المشاعر السلبية التي راودتهما في مصر، من "الانتهاك، والاستباحة، وعدم الشعور بالخصوصية".
تقول:"سألتني إحدى جاراتي ونحن نشتري بعض احتياجات المنزل في أحد مجمعات التسوق، عن سبب عدم إنجابنا طفلاً حتى الآن، الغريب في الموضوع أن تلك هي المرة الأولى التي نخرج فيها سوياً، وليس بيننا أي مساحة للسؤال عن أمور شخصية مثل الإنجاب، بعدها قررنا الابتعاد والقطيعة مع الجيران بأكملهم".
اتجهت أماني إلى مجموعات عبر فيسبوك تجمع أصحاب الأفكار الواحدة، وبدأت تسأل إن كان هناك أحد يعيش في الإمارات، خاصة في الإمارة التي تحيا فيها، وهكذا صنعت صداقات جديدة مع مصريين آخرين.
"خير أهل مصر"
عانت دعاء الفقي، ربة منزل، مقيمة بقطر (34 عاماً)، من حالة نفسية مضطربة، هي وصديقاتها خلال جائحة كورونا، بسبب الإغلاق العام، ومنع التجمعات. وتزايدت مشاعر الخوف اليومية بسبب مراقبة أعداد الإصابات المتزايدة، وتملكها شعور بالتهديد.
أرسلت صديقة دعاء إلى مجموعة في تطبيق الواتس آب تحكي عن عدد كبير من العمال الهنود في حالة عزل منزلي لإصابتهم بكورونا، وبدأتا النقاش في ظروف هؤلاء العمال، حتى قررتا "طبخ وتغليف وجبات غذائية يومية، بعد السؤال عنهم ومعرفة عددهم، وأخبرناهم أننا سنرسل تلك الوجبات طوال 14 يوماً، وهي مدة العزل المنزلي".
انتشلتها مساعدتها تلك من اكتئابها، خاصة تفاصيل المهمة، بداية من الساندوتشات، وشراء كميات كبيرة من الخضار واللحوم والفراخ بأسعار مخفضة، تستكمل دعاء حديثها "تسلل إلينا الشعور بالدفء والانتماء لمجموعة من الأشخاص يتمتعون بإنسانية ومحبة للآخرين، بغض النظر عن جنسياتهم أو ديانتهم أو عرقهم، بعدها انضمت لنا أخريات، وبدأنا في توسيع الدائرة قليلاً".
"كلما تذمرت وأظهرت استيائي ورفضي لتصرفات شركائي في السكن، ردوا علي: يا عم عادي كلنا مصريين في بعض، حتى تركتهم، وبحثتُ عن جنسيات أخرى مثل أهل الشام"
بعد انتهاء الأزمة، جزئياً على الأقل، وشروع الناس في تناول جرعات اللقاح، لم تنته مشاعر دعاء الجميلة حيال صديقاتها المصريات، وباتت تذكر نفسها أنها علامة على "خِير أهل مصر" في المواقف والأزمات.
على عكس دعاء، كانت تجربة ماجد العلواني (26 عاماً)، مقيم في عمان، في سكن مشترك مع عدد من المغتربين المصريين، يقول: "عشت أسوأ أيام حياتي"، على حد تعبيره.
يقول لرصيف22: "رغم أنه كانت لي غرفة مستقلة لها باب خاص، وبداخلها دولاب خاص بي، لم أسلم من التطفل المثير للاشمئزاز يومياً، ولم يتوقف الأمر على طلب استعارة الأدوات الخاصة والملابس، بل امتد للتطفل علي في غرفتي، وتدخين السجائر بداخلها رغم أنني لست مدخناً، ونبهت شركاء السكن مرة واثنتين وثلاثاً، أنني أكره رائحة السجائر، بل امتد الأمر حتى فتح خزانة الملابس والتقليب بها".
ويوضح ماجد: "أشعر كأنني أسكن بالشارع، وليس في غرفة خاصة. العجيب أنه كلما تذمرت وأظهرت استيائي ورفضي لتلك التصرفات التي تؤذيني، وجدت الرد العجيب "ياعم عادي، كلنا مصريين في بعض"، رد غير مفهوم، ولا ينم سوى عن عقليات قبلية ضحلة لا تفقه من أبجديات احترام مساحات الآخرين شيئاً، ورغم أن هذا السكن كان قريباً جداً لعملي ولا يكلفني مصاريف انتقال، تكبدت عناء الانتقال لسكن آخر مع جنسيات أخرى، أغلبها من بلاد الشام، بحثاً عن الخصوصية".
"أنا راجل وعندي التزامات"
"حذار المصريين"، استغرب خضر (35 عاماً) النصيحة التي قالها له صديقه المصري فور وصوله إلى مطار الدوحة، وقال في نفسه: "مصري يحذرني من غدر المصريين".
وبعد تنقله في مناصب عديدة بشركات برمجة واتصالات، وإنشاء شركته الخاصة، اكتشف رويداً رويداً أن المصريين بحسب تعامله معهم "يمتازون بالتنافس العدائي في ما بينهم"، وسمع العديد من حكايات عن أناس فصلوا من العمل بسبب تحريض زملاء مصريين عليهم.
"عرض على جهة العمل مرتباً أقل مما طلبته، فأخذوه هو".
ولكن فاطمة المهدي، طبيبة علاج طبيعي، تعمل بالمملكة العربية السعودية، لم تكن بحاجة إلى نصيحة تحذير من التعامل مع أبناء بلدها، فقد جربت ذلك وهي لا تزال في مصر. تقول: "قبل سفري، فور أن علم زميلي بأنني وجدت فرصة للعمل بالسعودية، وأنني على وشك تقديم أوراقي، سألني عن تفاصيل تلك الفرصة، وبالطبع رددت عليه بكل حسن نية، فسبقني إلى تقديم الأوراق، بل عرض على جهة العمل مرتباً أقل مما طلبته، فأخذوه هو".
وتضيف: "وعندما واجهته قال لي "أنا أولى بالفرصة دي، أنا راجل وعندي التزامات"، طبعاً رده له أبعاد ذكورية وأنانية كثيرة، ولكنه ليس مجال الحديث الآن، وعندما نجحت في إيجاد فرصة أخرى، ولكن هذه المرة تكتمت على التفاصيل، وبالفعل سافرت".
"هنا في قطر أشعر أني على خطأ، وحدي دون أن يلومني أو يعنفني شخص، إن لم أتبنَّ عاداتنا وتقاليدنا، من زواج وإنجاب وتدين وتكديس للأموال"
في السعودية، باتت فاطمة تؤثر العزلة، وعدم الاختلاط مع أحد من بنات جاليتها، وذلك لموقف تعرضت له، وأثر فيها كثيراً، تحكي: " في البداية كنت لا أصدق ما يقال عن كيف أن المصري مستعد لإيذاء أخيه المصري لو في هذا مصلحة له، حتى اصطدمت بموقف مع زميلة حاولت فيه أن تلفق لي الكثير من أخطاء العمل التي هي مسؤولة عنها".
وتتابع: "المحزن أننا كنا متقاربتين إلى حد ما، ونقضي وقتاً طويلاً معاً، ولكنها أرادت إزاحتي في العمل، خاصة أننا كنا مقبلتين على موعد الترقيات والمكافآت، وكانت هي ترى فيّ تهديداً".
آثرت فاطمة هي الأخرى، فضلاً عن الوحدة، عقد صداقات إذا أتيح لها ذلك، مع جنسيات عربية أو آسيوية، ما عدا المصرية.
"المصري لا يشعر بالغربة كثيراً في الخليج".
من ناحية أخرى، يرى خضر أن المصري "لا يشعر بالغربة كثيراً في الخليج، فلهجتنا معروفة للجميع، وأعدادنا كبيرة مقارنة بأي جنسية عربية أخرى".
وبحسب خضر، كل جنسية لها "حسناتها وسيئاتها، ولكن كثرة عدد المصريين وتزاحمهم، وقلة كفاءة وخبرة بعضهم، يحولهم إلى مجتمع يتقاتل أفراده في المؤسسة الواحدة، وينقلون العادات والتقاليد السلوكية بشكل أوضح عما هو في مصر".
يوضّح: "هنا في قطر أشعر أني على خطأ، لوحدي، وأنا منعزل، دون أن يحدثني أحد، إن لم أتبن بعض العادات والتقاليد، من زواج وإنجاب وتدين وتكديس للأموال، هذا الشعور لم يساورني قط في مصر إلا إذا عاتبني صديق أو قريب".
ويرجع خضر سطوة إحساسه بالعادات والتقاليد إلى "وجود نظام في الدوحة، ومرتبات كبيرة بالدرجة التي تبرز بشكل أوضح العادات والتقاليد، أما في مصر فتقاليدنا تتوه في الزحام، والعشوائية، والبطالة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون