عندما قررت السفر حلمت وتوقعت أنني سأودع كل شيء سيىء، ومرهق، ومحبط، ومخيف في مصر، وأبرز هذه الأمور الروتين الحكومي القاتل.
يضطر العديدون في مصر لإجازات قد تستمر لأيام حتى ينهوا إجراءات "ورق" يخص السيارة أو السكن أو بطاقة الهوية الشخصية.
عدت إلى مصر في غمضة عين.
بمجرد أن اقتربتُ من مجمع السفارات في قطر، عدت إلى مصر في غمضة عين، هالني منظرنا ونحن في طوابير طويلة تحت الشمس الحارقة، وطريقة التعامل المتعالية التي ألفناها داخل بلدنا. هنا في دولة أخرى، روتين قاتل ينتظرني في كل محاولة لتخليص ورقة ما من خلال السفارة، أو حتى الاستفسار عن أمر ما، أو ممارسة أي استحقاق ديمقراطي.
يختلف المصريون في دولة قطر، لأن خلفياتهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية متنوعة، تشعر بذلك وأنت تصطف تحت الشمس الحارقة.
يختلفون أيضاً في توجهاتهم السياسية حيال الدولة ومعالجتها لمشاكلنا، ولكن في الاصطفاف أمام مجمع السفارات في قطر، لنيل "بركة" الدخول إلى سفارتنا، توحدنا مشاعر معينة، مميزة، أمام ما يمثل الدولة في "الغربة"، السفارة المصرية، وحدها من بين كافة السفارات التي تحظى بامتياز الطابور الطويل والمحبط والمقرف.
الحسرة
"أحياناً أشعر وكأن تعطيل مصالح المواطنين المصريين في قطر مزاج خاص، لدى القائمين على السفارة المصرية"، يقول جلال متولي، اسم مستعار، ينتمي إلى الأسكندرية، مقيم بالعاصمة القطرية الدوحة.
يتساءل جلال، وهو مدير تنفيذي لإحدى شركات الملاحة بقطر، قائلاً لرصيف22: "هل يعقل تجديد جواز السفر في مدة تستغرق من ثلاثة إلى ستة شهور، ويا ليتها تأخذ تلك المدة فقط، بل أنا مجبر يومياً على الدخول للصفحة الرسمية للسفارة، لعلي أجد اسمي بأحد كشوفات البركة التي تعلن عن وصول الجوازات الجديدة".
المصريون يختلفون أيضاً في توجهاتهم السياسية حيال الدولة ومعالجتها لمشاكلنا، ولكن في الاصطفاف أمام مجمع السفارات في قطر، لنيل "بركة" الدخول، يوحدنا العرق، والإحباط، والخوف مما يمثّل الحكومة
ويتابع بنبرة ممتعضة: "وكأنه من الصعب أو المستحيل أن تعتمد السفارة على تطبيق بسيط تستخدمه حتى المطاعم في جميع أنحاء العالم، يعلمك إذا كان جواز السفر الخاص بك وصل أم لا؟".
يرى جلال وجود علاقة وثيقة بين الحكومة المصرية و"الروتين غير الضروري حتى وإن كان ذلك من خلال منشآتها في الخارج، إذ لا يمكن لأي مواطن مصري أن يستفسر أو يستعلم عن أي أمر يخص المعاملات الورقية والقانونية إلا من خلال التوجه للسفارة مبكراً جداً ليقف في صف طويل جداً في الشارع تحت نيران شمس الخليج".
ويضيف: "أمر مؤسف جداً أن تكون السفارة موجود بالطوب والحجارة في عام 2021، بينما بالفكر وطريقة العمل فهي تعيش في العصور القديمة".
يشعر جلال بالحسرة تتسرب لروحه، وهو في الطابور، متعرق، يمد بصره بضعة أمتار، ليجد المجمع القطري الوطني للخدمات الحكومية، يقول: "هل تعلمين كيف نتعامل معه؟ ندخل على التطبيق الخاص به من الهاتف الذكي، ثم نختار نوع الخدمة المطلوبة، لتظهر لنا قائمة المواعيد المتاحة، فنختار الموعد المناسب، ونذهب قبله بربع ساعة فقط، لنجد أنفسنا داخل قاعة انتظار كبيرة جداً، ومكيفة. يستقبلك موظف واحد يأخذ الأوراق والمعاملات لينهيها كلها من المكاتب المعنية بالأمر".
"هل هذا التنظيم والتيسير على المواطنين أمر إعجازي مثلاً، لا تستطيع مصر أن تفعله؟"، يتساءل جلال.
سوق شعبية
"كل تجاربي السيئة مع السفارة تتلخص في كلمة واحدة: الطابور"، يقول كمال السعيد، مدرس (37 عاماً)، ينتمي إلى كفر الدوار، ومقيم بمدينة الدوحة.
يحكي كمال لزصيف22 قصة من الحكايات التي يتداولها الناس كثيراً لتزجية الوقت الطويل في طوابير السفارة: "في إحدى اللحظات الأكثر درامية في حياتي، ذهبت للسفارة لاستخراج وثيقة سفر لطفلي الحديث الولادة، كنت أمام بوابات السفارة الساعة العاشرة صباحاً، وجدت مواطناً وليس موظفاً، متطوعاً في تنظيم الأدوار، يجمع كل 10 أفراد في مجموعة، فأخذت دوري، ففوجئت بأنني في المجموعة الـ21، طبعاً كانت تلك أول صدمة لي، استسلمت للأمر الواقع، وانتظرت مع المنتظرين، في الشارع، في شمس قطر الحارقة، ودرجة حرارة متخطية الـ35 درجة بكثير".
ويتابع: "الغريب أن مكان الانتظار كان خارج مجمع السفارات، الذي يضم سفارات أكثر من دولة، وليس أمام السفارة المصرية، ولا أعلم الحكمة من هذا".
"كانت تلك الصدمة الثانية، السفارة مثلها مثل الأسواق الشعبية".
ويضيف: "انتظرت ساعتين تقريباً، ثم دخلت، وكانت تلك الصدمة الثانية، السفارة مثلها مثل الأسواق الشعبية، وجدت ما يقرب من 200 شخص منتظرين قبلي، والمكان مزدحم، ليس فيه موضع قدم، انتظرت ساعة وربع، لأجد أنهم وصلوا لرقم 60 وأنا رقمي فوق الـ200".
ويكمل: "وبعد كل تلك المعاناة فقدت الأمل في إنهاء تعاملاتي الورقية وانصرفت، طبعاً لست محتاجاً للحديث عن أن حل كل تلك المأساة أسهل من قتل ذبابة، وهو اعتماد نظام إلكتروني أو تطبيق لإدخال البيانات وتقديم الطلبات، ولكن لأسباب مجهولة لا تزال السفارة المصرية في قطر لا تلقي بالاً للتعاملات الإلكترونية".
يقارن كمال بين وضع سفارة بلده وسفارات دول أخرى نامية: "الحلول والاقتراحات كلها موجودة ومعمول بها، ولن نخترع العجلة من جديد، أذكر أن السفارة الباكستانية في دولة الإمارات، تم تغيير طاقم العمل بها بسبب تقاعسهم، وتعمدهم تعطيل مصالح مواطنيها، المحير أن نجد دولاً صغيرة تتصرف بما يتوافق مع متطلبات العصر، بينما دولة بحجم مصر وعراقتها، ومن أول البلاد التي اخترعت نظم الإدارة في التاريخ، تقف عاجزة أمام تسيير أحوال رعيتها في دولة أخرى".
تجربة كوميدية
حكاية أخرى، وما أكثر الحكايات التي نتداولها نحن المصريين عن تعامل السفارة معنا، وقعت قبل ثلاث سنوات، يتذكرها جيداً سمير عمارة، مهندس صوتيات (41 عاماً)، ينتمي إلى محافظة البحيرة، ويسكن في مدينة الوكرة بقطر: "تجربة كوميدية، لا أظن أن الوضع تغير للأفضل، كنت أرغب في السؤال عن الأوراق المطلوبة لتخليص معاملة قانونية خاصة بي، ظللت أذهب للسفارة يومياً من الساعة الثامنة صباحاً، أنتظر دوري ثلاثة أيام متتالية، حتى أكرمني الله بالرد على سؤالي في اليوم الثالث".
ويضيف سمير لرصيف22: "لم أكن وقتها أعرف أن هناك مجموعات على موقع فيسبوك تجمع أبناء الجالية المصرية في قطر، يا ليتني كنت أعلم هذا، فهم متعاونون ويجيبون على كافة الأسئلة من خلال تجاربهم السابقة، أسرع وأفضل من السفارة، الغريب أنني احتجت ثلاثة أيام كاملة فقط لأعرف إجابة عن سؤال واحد، وكأن السفارة المصرية استوردت الطابور من مصر، ووضعته أمام بوابات مجمع السفارات، أو بمعنى أدق جلبت معها ثقافة الطابور الطويل".
"المحير في الأمر أن نجد دولاً صغيرة تتصرف وفق ما يتوافق مع متطلبات العصر، بينما دولة بحجم مصر وعراقتها، ومن أول البلاد التي اخترعت نظم الإدارة في التاريخ، عاجزة عن تسيير أحوال جاليتها"
أسئلة عديدة تراود خيال سمير عن تعامل السفارة المصرية معهم بتلك الطريقة، طوال سنوات إقامته في قطر، يقول: "حتى الآن لا أعلم لماذا تعمل السفارة أربعة أيام فقط في الأسبوع بمعدل ثلاث ساعات يومياً؟ الأمر الذي يترتب عليه إنجاز التعاملات في أوقات قياسية، فالسفارة المصرية مثلاً تنفرد بالرقم القياسي في عدة أشياء، مثل خمسة شهور تقريباً لاستخدام جواز سفر، ولماذا تأخذ السفارة إجازاتها السنوية المصرية والقطرية، فهذا أيضاً أمر غير مفهوم".
الخوف
رغم أن بعض المواطنين المنتمين للجاليات المصرية في عدد من دول الخليج الأخرى، يواجهون نفس الصعاب والبيروقراطية القاتلة، ويكتبون باستحياء عن ذلك في غروباتهم الخاصة، وعن تأخر جوازات السفر المجددة، والإصرار على تجاهل الحلول التكنولوجية، إلا أنهم يتحاشون الحديث إلى الصحافة.
حاولت التحدث إلى عدد منهم، إلا أنهم رفضوا التعاون بشكل قاطع، معبرين عن خوفهم من "بطش السفارة" بهم في الغربة، أو "تعمد تعطيل مصالحهم" المرتبطة بالسفارة.
حتى أنا، وأنا أكتب هذا المقال، لا أخفيكم سراً، فقد أصبح تعامل الصحافيين المصريين مع المسؤولين، خاصة الذين يكتبون في مواقع مستقلة، يمثل مخاطرة، مجرد السؤال قد يعرضنا للخطر، وإن كان عن أمور صغيرة يمكن علاجها ببساطة.
خفتُ.
لعل تلك الأوقات الطويلة التي نقضيها نحن المصريون، أبناء الطوابير في أروقة المكاتب الحكومية، عملت سحرها فينا، ورغم امتعاضنا، وإحباطنا، أشعرتنا، ربما، بسيطرة الدولة على شرايين حياتنا، فبتنا جميعاً نتحاشى المخاطر، وننشد السلامة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...