شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"المدينة على حافة الانحلال"... "الانفتاح السعودي" بعيون مغتربين/ات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 3 أبريل 202106:30 م

"لم تعد جدة كما كانت، تغيّرت بلا رجعة وتغيّرتُ معها أيضاً، لكنني عجزت عن مسايرة تطورها، على الرغم من أنّ المدينة الساحلية، كانت أكثر مدن السعودية انفتاحاً"، تقول آية حسن (28 عاماً)، مصرية، ربة منزل.

تقيم آية (التي تربّت بطريقة متدينة، وكانت ترى بلد الحرمين كنموذج اجتماعي ينبغي للدول الإسلامية تبنيه) في جدّة منذ عام 2015، ما جعلها شاهدة عيان على التغير الجذري الذي طال المملكة، تراه يجرف المجتمع إلى "حافة الانحلال الأخلاقي"، بعد عقود من المحافظة والالتزام بأوامر الشريعة.


"إذا كنت إنت مش قادر تلبس بنتك، اللي هي بنت واحدة طرحة، عايزني ألبس 10 مليون بنت طرحة في البلد... وعايزني أقفل السينما والمسارح، وأخليها ضلمة خالص"، يقول الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في خطاب شهير، ساخراً من المرشد العام للإخوان المسلمين آنذاك، حين طلب من الرئيس إجبار النساء على ارتداء الحجاب في الخمسينيات. بحسب روايته، وبعد مرور عقدين من الزمان، ومع موجة الانفتاح، وهجرة المصريين إلى دول الخليج، وتأثرهم حتى في الداخل المصري بتيار الصحوة الإسلامية، لتتوسّع دائرة المحجبّات منذ ذلك الوقت حتى بلغت نسبة 90% من نساء مصر.

تبدي آية انزعاجاً كبيراً لهذه التغيرات، وترى أنها "تنسلخ" من هويتها المصرية مضطرة، لتتعايش مع تلك الظروف، تقول: "بعد تلك التغيرات، أشعر وكأني انسلخت من مصريتي لأتعايش".

"ملايين من المغتربين، سواء من المسلمين أو غيرهم، عاشوا في ظل اختناق حضاري، مضطرين لأجل كسب أرزاقهم، بعضهم أجبر على ممارسة شعائر ليست له، والبعض الآخر عاش حياة مزدوجّة، المهم ألّا تلقي الهيئة القبض عليه متلبساً"

امتدت إجراءات الإصلاح الجذرية أخيراً لكافة مناحي الحياة، خاصة ما يتعلق بالمرأة والحجاب والنقاب الإجباري، والتحكم في سلوك المواطنين/ات عبر هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي كانت وصية على كل صغيرة وكبيرة في حياة النساء قبل الرجال.

لا تلتفت آية إلى المكاسب التي حققتها المرأة، ومساحات الحرية التي كانت محرومة منها مقارنة بالرجال، وتختزل "الانفتاح" في مظاهر تراها "غير أخلاقية"، و"محرمة شرعاً"، تكمل حديثها لرصيف22: "في البداية صُدمت بهذا التحول الذي وقع بين ليلة وضحاها، وأعتقد أنّه ربما يعطي مساحة لممارسات تتنافى مع الدين الإسلامي كما عهدناه، فلا أفهم لماذا خلعت النساء الحجاب؟ ولمَ يكون التعرّي وشرب الخمور مظهراً حداثياً؟ كل هذه التفاصيل تشعرني بالقلق، وبأنّ الممارسات التي تخالف الشريعة أصبحت حرية شخصيّة".

بدأ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في تقديم خطة 2030 في ربيع 2016، وذلك لتقليل اعتماد بلاده على النفط كمصدر رئيسي للدخل القومي، لتصبح السياحة والترفيه أهم أولويات المملكة، التي لم تكن تسمح للنساء سابقًا حتّى بقيادة السيارات، إلى أن قرر الملك سلمان بن عبد العزيز منحهنّ هذا الحق، في أيلول/ سبتمبر 2017.

ومع وجود جالية أجنبية كبيرة في المملكة، جاءت هذه التحولات بمثابة صدمة مفرحة للبعض، لكنّها خيبت آمال تيار كبير من المحافظين المتدينين المتأثرين بتيار الصحوة، لطالما رأوا في النهج المحافظ لسلوك المملكة منهاجاً يحب أن تطبقه كل الدول الإسلامية، وعجز بعضهم عن تقبل السعودية الجديدة، فصاروا هائمين على وجوههم بلا مرجعية، بعدما ذهبت مرجعيتهم بلا عودة.

يرى إبراهيم عز الدين (31 عاماً)، مصري، محاسب بإحدى شركات البترول في الرياض، هو الآخر أنّ الانفتاح أمر مهم وضروري في العصر الذي نعيش فيه، لكنّه لا يرى أنّ الانفتاح "مشروط بالاختلاط بين الجنسين، وحفلات السهر وتعري النساء وتدخينهن علناً، كما يحدث الآن"، على حد تعبيره.

ويقول: "لست ضد الانفتاح أو قيادة النساء للسيارات، لكنني ضد السماح لهنّ بخلع الحجاب، فهو أمر ديني، ولست مع اختلاطهنّ بالرجال أو سفرهنّ للخارج، كل هذا لا يعني أنني مع قمعهن، بل مع ضبط حقوقهن وحقوق الرجال كذلك، وفقًا لأوامر الشرع".

بلغ عدد المصريين في المملكة العربية السعودية 2.9 مليون نسمة، حتّى عام 2018، وهو ما يمثل 46.9% من نسبة المصريين المقيمين في الدول العربية، وفقاً لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وتعد السعودية أكثر الدول العربية جذباً للعمالة المصرية، منذ سبعينيات القرن الماضي، مع صعود اقتصاديات النفط التي غيّرت وجه المنطقة، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وهذا ما جعل نمط التدين السعودي تحديداً، أكثر رسوخاً عند المصريين، الذين لم يعرفوا الحجاب قبل السبعينيات، ولم يكن للتدين الشكلي حضور واضح قبل حقبة السادات.

"ما كان في الخفاء أصبح علناً"

شعرت شيماء (32 عاماً)، اسم مستعار، خريجة كلية تربية علم نفس، وتقوم ببعض الأعمال التجارية، بارتياح كبير لتلك التغيرات، فقد تمكنت أخيراً من قيادة السيارة، وبات أصحاب المطاعم يسمحون لها، هي وزوجها، بالجلوس معاً بأريحية أكبر من ذي قبل، وأحست بألفة كذلك وهي تزور "مولات" جدة، فالعديد من الخدمات تولى أمرها نساء، بدلاً من رجال آسيويين، هنود وبنغال.

تستطيع شيماء، وهي مصرية، نشأت في مدينة جدة، ثم عادت إلى مدينة جنوبية في المملكة بعد زواجها، التجول وحدها بالسيارة لساعات متأخرة من الليل، تنظر حولها، العديد من النساء، سعوديات ومغتربات، يملأن الطرقات، "لقد تغير المشهد بشكل كبير".

على عكس آية وإبراهيم، لم تكن شيماء ترى في السعودية بلداً محافظاً من الأساس، تقول: "عندما كنت في المدرسة كانت السعوديات أكثر ميلاً لإقامة علاقات مع الشباب، حتى قبل المرحلة الجامعية، وعندما عدت أيضاً، الدعارة موجودة، والحفلات المختلطة تقام، ولكن في الخفاء، الجميع يخشى العلن. بعد التغيرات الأخيرة فقط ما كان في الخفاء أصبح علناً".

تغيرت أشكال المقاهي في العديد من المدن جنوب المملكة، استبدلت الواجهات الخشبية بالزجاجية الشفافة، والجلسات المختلطة باتت مسموحة للجميع.

أما عن تأثير تلك التغيرات على النساء المغتربات، تقول شيماء لرصيف22: "على حسب كل جنسية، وكل طبقة اجتماعية حتى بين المواطنات، فصديقاتي المغتربات من المغرب العربي مثلاً سعدن بتلك التغيرات أكثر من المصريات، فهن يملن إلى السهر والتحرّر".

"الوضع غاية في التعقيد"

يرحب سنيهال ريناش (43 عاماً)، مهندس اتصالات هندي، مقيم في الرياض، منذ عشر سنوات، بالتغيرات الجديدة، إذ لم يكن يتخيّل أن يراها، لكنّه سعيد بما يعيشه الشعب السعودي والمغتربون الذين عانوا في ظل هذا الانغلاق الإجباري الذي منعهم من ممارسة حرياتهم الشخصية.

يقول ريناش: "الأمر كان غاية في التعقيد، والقيود كانت تحيط بالجميع، وخاصة المغتربين، القرار كان ثورياً للغاية، لكنّه حتمي لعلاج ما خلفته سنوات الانغلاق".

تمثل الجالية الهندية، إحدى أكبر الجاليات في المملكة، إذ تبلغ مليونين و600 ألف مواطن وفقاً لبيانات وزارة الشؤون الخارجية الهندية عام 2020. وبالتالي فإنّ حياة هؤلاء المواطنين في ظل ثقافة غريبة ومنغلقة، وبعضهم يدينون بغير الإسلام، أكثر صعوبة، خاصة إذا لم يستطيعوا ممارسة شعائرهم الدينية أو الخروج من عباءة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لم تكن شيماء، مصرية مغتربة، ترى في السعودية بلداً محافظاً من الأساس، تقول: "عندما كنت في المدرسة كانت السعوديات أكثر ميلاً لإقامة علاقات مع الشباب، حتى قبل المرحلة الجامعية، وعندما عدت أيضاً، الدعارة موجودة، والحفلات المختلطة تقام، ولكن في الخفاء"

"لا نستطيع الجزم باستعداد المجتمع السعودي لهذه الخطوات الجذرية، لكن الشريحة الكبرى من الشباب، خاصة من حظي منهم بفرصة سفر إلى الخارج، كانت على أهبّة الاستعداد لهذا التغيّر، الذي كان لا بُدّ من حدوثه. لن يتقبّل هؤلاء أن يعيشوا حياتهم وفقاً لأوامر الهيئة، وإن أرادوا ممارسة حرياتهم الشخصيّة فعليهم الرحيل بلا عودة. فضلاً عن الملايين من المغتربين، سواء من المسلمين أو غيرهم، عاشوا في ظل اختناق حضاري، مضطرين لأجل كسب أرزاقهم، بعضهم أجبر على ممارسة شعائر ليست له، والبعض الآخر عاش حياة مزدوجّة، المهم ألّا تلقي الهيئة القبض عليه متلبساً"، يقول ريناش.

وفقاً لأحدث بيانات اليونسكو المتاحة حول تنقل الطلاب الدوليين لعام 2012، كانت المملكة العربية السعودية خامس أكبر دولة منشأ في العالم بالنسبة لأولئك الذين يدرسون في الخارج، تضم 62500 طالب. وبخطى ثابتة، تدرّج الأمير الشاب، في تطبيق رؤيته الإصلاحية لمجتمع سعودي أكثر انفتاحاً عن ذي قبل، ونزع عن المملكة رداء الإسلام المتشددّ، ساعياً نحو إسلام أكثر انفتاحاً، وهذا ما أثار حفيظة التيارات المحافظة ليس في المملكة وحدها، بل في المجتمعات العربية المتأثرة بنموذج الإسلام السعودي مثل مصر.

ومع تراجع تيّار الصحوة الإسلامية في المملكة العربية السعودية، واعتذار رموزه مثل الداعية الشهير عائض القرني، بدأت الإدارة السياسية في السماح بالأنشطة الفنيّة والثقافية بل وصل الأمر إلى إقامة حفلات غنائية لم يُمنع فيها الاختلاط بين الجنسين، ولأول مرّة في تاريخ المملكة الحديث، تفتتح صالات السينما أمام الجماهير التي أقبلت بنهم المتعطشين إليها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard