اعتاد عم محمد، شيخ طاعن في السن، ندرة المياه الصالحة للشرب، وانقطاعات الكهرباء المتكررة، وغياب متطلبات الحياة الهنيئة والمرفهة، في قريته الصغيرة الواقعة أعالي منطقة تيكجدة الجزائرية، التي تمتاز بطبيعتها الخلابة، وتنوع تضاريسها، ولكنه يكترث بشدة للهواء البارد، النقي، المنعش، والسماء الصافية.
ولكن هذه النعمة المجانية التي ألفها باتت مهددة، خاصة قبيل عيد الأضحى، إذ تتعاظم سحب الدخان، التي تولدها حرائق الغابات المشتعلة.
يصف محمد الليلة التي اشتعلت فيها حرائق مهولة (تموز/ يوليو عام 2020) في مناطق متفرقة في غابات منطقة "تيكجدة" السياحية، شرقي محافظة البويرة، قائلاً: "الهدوء كان يخيم على المكان، لا يكسره سوى صوت الأغنام، التي كانت ترعى في السهول، وصوت العصافير وصغارها، كانت تقدم استعراضاً بين الحين والآخر، إلى أن لمحت أبصارنا سحابة من الدخان الكثيف، غطت بسرعة البرق زرقة السماء، واجتاحت النيران البرتقالية الأشجار المثمرة".
من آثار حرائق غابات في شهر تموز/ يوليو 2021، وقعت بمحافظة خنشلة شرق الجزائر.
"أسرع أهل القرية باتجاه الغابة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حتى وصلت مصالح الحماية المدنية "أعوان الدفاع المدني"، وبقي الأطفال والشيوخ في القرية يراقبون، ويحمون المنازل خشية امتداد ألسنة اللهب إليها، والنساء حملن على أكتفاهن دلاء المياه، واتجهن نحو الغابة، فمعدلات الحرائق التي اندلعت بلغت مستوى لم يسبق وأن شهدناه من قبل".
"كلنا نتغذى من الغابة، هرّبنا الأبقار والماعز، وهربنا نحن أيضاً، كنا نرتجف من شدة الخوف، كانت ألسنة اللهب تمتد بسرعة البرق باتجاه قريتنا، وواجهنا جميعاً مشاكل في التنفس"
عاش أهل القرية يوماً عصيباً ربما لم يصادفوه منذ فترة طويلة، فالتوتر كان ظاهراً على وجوههم، ممتزجاً مع صراخ الرجال وعويل النساء، كانوا/كن في الخط الأمامي، رفقة أعوان الغابات، ومصالح الدفاع المدني.
يقول محمد لرصيف22: "النيران لم تخمد إلا بعد مرور ثلاثة أيام كاملة، إذ تحولت الغابة التي كانت رئة القرى المجاورة، ومصدراً رئيسياً لإنتاج الأوكسجين إلى مصدر لانبعاث غاز الكربون، وكل الحيوانات البرية التي كانت تعيش في داخلها، وبينها العشرات من الأنواع النادرة، تفحمت، وهو ما حز في نفوسنا".
حيوانات متفحّمة
ويوجه الشيخ المسن أصابع الاتهام نحو عصابات الفحم الخشبي الذي يستعمل في الطهي، فهم يعمدون إلى إحراق أكبر عدد من الأشجار، بهدف توفير المادة الأولية لصناعته، غير آبهين بعواقب هذه الحرائق.
"جرائم هذه العصابات لا تتوقف عند هذا الحد فقط، بل يقومون بقطع الأشجار العالية الناضجة من أجل الحصول على ألواح التقطيع الخاصة بالمطبخ، وتنتشر هذه الظاهرة بشكل كبير مع اقتراب عيد الأضحى"، يختم محمد حديثه، مستاءً ومتسائلاً: "ما ذنب البيئة؟".
سيناريو كارثي آخر عاينه سكان قرى محافظة تيزي وزو، مدينة جزائرية تقع على بعد 30 كلم من جنوب سواحل البحر الأبيض المتوسط، وعلى بعد 100 كلم شرق العاصمة الجزائرية، أبرزها قرية "أحميل"، و"إيعكوران" الصغيرة، و"شعوفة"، و"إيغيل مهدي أث زيكي".
من آثار حرائق غابات في شهر تموز/ يوليو 2021، وقعت بمحافظة خنشلة شرق الجزائر.
تروي نانا وردية، في العقد الخامس من العمر، ذكرياتها الخاصة عن ذلك اليوم المشؤوم (آب/ أغسطس 2020): "لم نعد نرى من شرفة منزلنا الواقع في أعالي قرية أحميل إلا سحابة من الدخان تلف الغابات المجاورة، كنا في السابق نرى سحباً جبلة تغطي القمم، كل من كان بالقرية اتجه نحو الغابة لإخماد ألسنة اللهب باستعمال مكانس تقليدية الصنع، ولم تكد تمر ساعات قليلة حتى سمعنا أصواتاً تنبعث من مكبرات الصوت، تطلب منا إخلاء المنازل والتوجه إلى أماكن أخرى آمنة".
يحرقون أكبر عدد من الأشجار مع اقتراب عيد الأضحى، تندلع الحرائق، ويشم السكان رائحة الحريق الذي يرتقبونه ويخافونه، وتتفحم حيوانات الغابة، والسكان ما بين الصراخ والانتظار والهرب
تكمل، ودمعات تلوح في عينيها المجهدتين: "الخيار كان صعباً للغاية، خاصة أن الحيوانات التي كانت في المراعي وداخل الإسطبلات لا تعد ولا تحصى، كلنا نتغذى من الغابة، هرّبنا الأبقار والماعز، ولم نجد نحن أيضاً ملجأً سوى الهروب، خرجنا وكنا نرتجف من شدة الخوف، كانت ألسنة اللهب تمتد بسرعة البرق باتجاه قريتنا الصغيرة، والكل كان يواجه صعوبات في التنفس بسبب الدخان الكثيف، خاصة الكبار في السن والأطفال".
صورة لفحم يباع في شوارع الجزائر، المنتج الذي يدفع عصابات لحرق أشجار الغابات.
"بعد إعلان السلطات المحلية السيطرة على الحرائق، بعد مرور أربعة أيام كاملة، عدنا أدراجنا، صادفتنا مشاهد مروعة، تركت ألماً رهيباً ومعاناة في قلوبنا، بسبب أبقار وأغنام وطيور رأيناها متفحمة وكأنها مجمدة، فلا شيء بقي مثلما كان عليه، فالمنطقة التي كنا نقطن فيها احترقت بالكامل، حتى الأشجار، والنباتات الصغيرة، والأرض اكتست باللون الرمادي والأسود كأنها ساحة حرب".
أشارت الخالة وردية إلى أن هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها، بل سبقتها حوادث أخطر، تتلف الأموال والأرواح والثروات الطبيعية، بسبب تجار الفحم أو ما يعرفون بـ"البارونات".
شوارع الفحم
الملاحظ أن شوارع الجزائر هذه الأيام، قبل بدايات عيد الأضحى مثل كل عام، تعج بالفحم وأنواعه، فأينما تمر تلمح عيناك أكياساً كبيرة بيضاء اللون، مليئة بالفحم الخشبي، الذي يتميز بسرعة اشتعاله.
اقتربت من أحد التجار لمعرفة مصدر هذه المادة، رفض، وطلب مني الانصراف بمبرر أن هذه المهنة تنتشله من قوقعة البطالة الخانقة.
من آثار حرائق غابات في شهر تموز/ يوليو 2021، وقعت بمحافظة خنشلة شرق الجزائر.
اقتربتُ من آخر كان يقف على قارعة الطريق، وسط العشرات من الأكياس، ينتظر مرور الزبائن، حاولت في البداية تقمص دور "الزبونة" لاستقصاء بعض المعلومات، أخبرني الشاب الأسمر أن مادة الفحم تكتسي اللون الأسود، وتجلب من مناطق عديدة في الجزائر، وعادة ما تصنع من أغصان أشجار الصفصاف، ومن شجر العرعار البخاري، الذي ينتشر بكثرة في المناطق الباردة شمال البلاد، وكذلك أشجار الكاليتوس.
وعن طريقة استخراجها، يقول أحمد، وهو في العقد الثالث من عمره، إن الخشب يُحرق لمدة تتجاوز الثلاثين يوماً، حتى يتحول إلى فحم يستعمل في شواء اللحم في عيد الأضحى، ويباع الكيلوغرام الواحد بقيمة تتراوح بين 25 و35 ديناراً أي ما يعادل أقل من نصف دولار فقط.
وتنتعش هذه التجارة تقريباً في كل شوارع وساحات العاصمة الجزائر، مثل باب الوادي، وساحة الشهداء، والرغاية، والرويبة، وهراوة، وعادة ما يلجأ باعة الفحم إلى استعمال عربات صغيرة متنقلة من أجل التجوال بين شارع وآخر، يبيعون سلعتهم.
الإقبال على شراء الفحم هذه الأيام كبير جداً، وأغلب الزبائن يفضلون اقتناء النوعية الجيدة من الفحم، والتي تشتعلُ بسهولة ولا تخلف دخاناً كثيفاً يؤذي العيون.
فتوى استخدام الفحم
قبل أيام قليلة من عيد الأضحى نشرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهي أكبر تجمع لرجال الدين في البلاد، على صفحتها الرسمية، فتوى للدكتور بلخير طاهري الإدريسي الحسني المالكي، يحرم فيها شراء الفحم هذه السنة، بسبب الحرائق التي اجتاحت البلاد للحصول على الفحم.
من آثار حرائق غابات في شهر تموز/ يوليو 2021، وقعت بمحافظة خنشلة شرق الجزائر.
وتقول الفتوى: "هناك سماسرة في الفحم يتعمّدون حرق الأشجار، ثم تأتي المطافئ بأطنان من الماء لإخمادها، ثم يأتي هذا السمسار ليجدها جاهزة للبيع، خاصة مع قرب يوم العيد، وازدياد الطلب، فضلاً عن الأيام العادية من جهة طلبه من أصحاب المخيمات الصيفية عند الشواطئ"، وعلى هذا الأساس، وصلت الفتوى إلى أنه "يحرم شراء هذا الفحم، قطعاً للطريق أمام هؤلاء المفسدين، الذين يهلكون الحرث والنسل".
وبحسب ما نشرته الصحافة المحلية اليوم الأحد 18 يوليو، فقد أجهضت القوات الأمنية الجزائرية الأيام القليلة الماضية محاولات إشعال النيران في العديد من الغابات، على غرار غابة "بينام"، التي تعتبر من أكبر الفضاءات الخضراء مساحة في العاصمة الجزائرية، وتعتبر من أهم رئات المنطقة.
كذلك أجهضت مصالح الغابات بالتنسيق مع الدرك الوطني، محاولة إضرام النار بغابة "عين النحاس" في محافظة عين الدفلى غرب الجزائر، بعد تلقيها معلومات عن وجود عجلات مطاطية مستعملة بالمنطقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...