"فِينْ أزِّينْ... بَاغَا وْنِيس؟ غِيرْ تْكَلمي معايا". بمثل هذه الكلمات وغيرها يتوجه المتحرّشون إلى النساء في الشارع العام المغربي. "هل تريدين أنيساً؟" ذات الدّلالة الجنسية، أو عبارات تتغزّل بجسد المرأة حد الوقاحة، كلمات أصبحت من القاموس اليوميّ. وفي حال الصمت، تواجَه النساء بالشتائم، وقد يصل الأمر إلى الضرب على مرأى المارّة أحياناً.
حالات ليست معزولة تشير إلى استمرار ظاهرة التحرّش على الرغم من العمل الجبّار الذي يقوم به المجتمع المدني لمحاربة الظاهرة المجتمعية منذ سنوات، والتي دفعت بالمشرّعين إلى إقرار قانون يجرّم التحرّش، حتى ضمن الشبكات الاجتماعية. لكنَّ القانونَ وعدداً من حملات التوعية، تظل حبراً على ورق. ويجعل المتحرّشون حياة الكثير من النساء جحيماً.
الشارع "الحرام" على النساء
يتربّص المتحرّشون بالنساء عند كل منعطف طريق. تقول مريم إنها أضحت مصابة بالرّهاب من الخروج إلى الفضاءات العامة بسبب الظاهرة: "والله بتّ أخجل من نفسي، وأنا أحاول المشي بمحاذاة البحر لاستنشاق بعض الهواء النقي، وفي أغلب الأحيان أتراجع عن رغبتي هذه فور تذكّري لعنف كلمات من قد أمرّ بجانبهم". بهذه العبارات تعبّر الشابّة عن مأزق العيش في مجتمع ذكوري، هي التي تحب الحياة، وتؤمن أن لها الحق في عيش أيامها على "ميزان" مزاجها، طالما أنها لم تمسّ حرية غيرها.
غير أن مريم، التي تدرس الاقتصاد في جامعة محمد الخامس في الرباط، تضيف: "في الأصل أنتمي إلى قرية صغيرة في جنوب المغرب، تربّيت على التمسك بالكثير من التقاليد، سواء في اللبّاس "المحتشم"، أو في أسلوب الحديث. حين قدمت إلى الرباط للدراسة، كنت خجولة وأؤمن بالحشمة كثيراً، وكنت أعتقد أنه إذا ما تجنبت الناس، سأعيش بسلام لأن العاصمة مدينة عصرية فيها الكثير من الحرية. لكنني كنت مخطئة فلم أسلم من التحرش في الشارع العام، إذ لا تزال العقلية الذكورية تكتسح المدن المغربية الكبرى، أكثر من القرى".
"هل تريدين أنيساً؟" ذات الدّلالة الجنسية، أو عبارات تتغزّل بجسد المرأة حد الوقاحة، كلمات أصبحت من القاموس اليوميّ المغربي. فمن يوقف المتحرّشين عند حدهم؟
وعلى غرار مريم، تؤكد ليلى (اسم مستعار) أنّ المتحرّش لا يعير بالاً إذا ما كانت الفتاة مُحجَّبة أو غير ذلك، بقدر رغبته في إفراغ ما يحفظه من كلمات التحرّش، أو تلذذه بمضايقة الآخر"، وأردفت: "أعتقد أن أي شاب يقوى على التحرّش بالنساء في الفضاء العام أو داخل مقرات العمل، أو الفضاء الإلكتروني، هو بحاجة إلى معالجة نفسية على وجه السرعة، كي لا يبث المزيد من سُمِّه على نفسياتنا. تكفينا مشاكلنا اليومية، وكفاحنا المستميث في إثبات ذواتنا داخل مجتمع ذكوري، إلى أن يثبت العكس".
وعلى الرغم من أن القانون المغربي المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء 103-13، الذي دخل حيز التنفيذ في شهر أيلول/ سبتمبر عام 2018، يتضمن مقتضيات تعاقب على التحرّش الجنسي في الفضاءات العمومية، سواء أكان ذلك "بأفعال أو أقوال أو إشارات ذات طبيعة جنسية أم لأغراض جنسية"، تشمل السَجن من شهر إلى ستة أشهر، وغرامة من ألفين إلى عشرة آلاف درهم، أو بإحدى العقوبتين، إلا أن ألسنة النساء لا تزال تبوح بالكثير ممّا يقاسينَه.
وبحسب مذكرة حول "العنف ضد النساء والفتيات" نشرتها المندوبية السامية للتخطيط، خلال الأشهر القليلة المنصرمة، استناداً إلى نتائج البحث الوطني حول العنف ضد النساء والرجال في 2019، فإن من بين 12.6% من النساء اللواتي تعرّضن للعنف في الأماكن العامة خلال الاثني عشر شهراً الماضية، 7.7% كنّ ضحايا للعنف الجنسي؛ الأمر الذي يضع الإصبع على جرح غائر في نفسية الكثير من النساء المتجرّعات مرارة التحرّش كنوع من العنف المعنوي.
ليلى التي تعمل في المجال السمعي البصري، تؤكد لرصيف22 أنه "على الرغم من إقرار القانون إلا أن الإشكال يكمن في انعدام جديّة تطبيقه، وكذلك في خوف النساء من الاعتراف بتعرّضهن للتحرّش. وبحكم عملي على قصص النساء أعرف الكثيرات ممن تعرّضن للتحرّش أو الابتزاز الجنسي، ولا يستطعن البوح بذلك، لأنهّن في قرارة أنفسهن مقتنعات أن المجتمع يجرّم الضحيّة، ويُبرّئ الجاني المتحرّش مع كامل الأسف".
السر في المجتمع
بالنسبة إلى الباحثة في العلوم السياسية والمتخصصة في شؤون المرأة أسماء مهديوي، فإن: "الثقافة السائدة في المجتمع ترفع الحرج الاجتماعي عن المتحرّش بتحميل المسؤولية للضحية، فالنماذج النمطيّة حول المرأة وسلوكها اليومي متجذرة في الوعي الجماعي، وهو ما يعيق بالضرورة مواجهة مثل هذه الممارسات التي تعيق مشاركة المرأة في المجال العام"، مبرزة أنه "في كثير من الأحيان يُفرض على المرأة أن تلبس ما يجعلها رجلاً، لأن قدْراً من الاسترجال ضروري بالنسبة إلى مجموعة من النساء من أجل الحماية".
"أتساءل عن حقوق الضحيّة: أليست هي الأَوْلى بالعلاج، وبالمراقبة والمواكبة للخروج من الصدمة؟". ظاهرة التحرّش تعم الشوارع المغربية
وعلى الرغم من الجهود المبذولة، تقول مهديوي: "لا نجد لغاية اليوم اعترافاً من قِبل النساء، وخاصة ذوات المناصب البارزة، بتعرضهن للتحرّش، ويبقى الموضوع حبيس الجلسات الخاصة، ولا يتم اللجوء إلى القانون وهو غير كافٍ من دون الحث على أسس التنشئة الاجتماعية والسياسية، وتنمية الوعي الأخلاقي، والاعتراف المجتمعي بكون التحرّش ‘عنفاً خطيراً’ يؤذي المرأة والمجتمع على حد سواء".
تعقيدات قانونية وتضامن ذكوري
وبالنظر إلى الشق القانوني في الموضوع، قال المساعد الاجتماعي في قسم قضاء الأسرة في المحكمة الابتدائية في الرباط محمد حبيب، إنه بحسب الدراسة الأخيرة للمندوبية السامية للتخطيط، فإنه وعلى الرغم من تعرّض حوالي 70 في المئة من النساء للعنف النفسي، إلا أن نسبة التّبليغ هي 6 في المئة فقط، وأضاف: "وهنا نتبيّن عدداً من الأسباب التي تجعل النساء لا يُقدمن على التبليغ، أولها إشكالية الإثبات القانوني، المبني على اعتراف الشخص المعتدي أو الشهود. علماً أن التحرّش والعنف النفسي يصعب أن تجد المرأة وسيلة لإثباته". وما يؤكد على هذا الحديث هو أن المجتمع ينصّب نفسه حكَماً ضد ضحية التحرّش، وفي العديد من الحالات يدافع بقيّة الرجال عن المتحرّش إذا واجهته المرأة بفعلته، واتصلت بالشرطة.
ومن الأسباب الاجتماعية التي تجعل النساء يتراجعن عن التبليغ عن شكاوى التحرّش، يضيف حبيب لرصيف22 أن هناك وصماً تعاني منه المرأة، فضلاً عن الأسباب الاقتصادية التي تدفع بالمجتمع إلى جعل المرأة ترضخ لما تعاني منه بالصبر، ويتضاعف الأمر حين تكون السيدة أُمّاً، فتقرر عدم التبليغ. وأكد أن "هناك موروثاً ثقافياً مغربياً يُذكي العقلية الذكورية، ويفسر النص القرآني بشكل خاطئ، إلى درجة التسامح مع العنف النفسي والتحرّش من قِبَل النسوة أنفسهن".
من بين 12.6% من النساء المغربيات اللواتي تعرّضن للعنف في الأماكن العامة خلال الاثني عشر شهراً الماضية، 7.7% كنّ ضحايا للعنف الجنسي
ويؤكد المتحدث أن هناك عدداً من العقوبات التي ينص عليها القانون، ويصعب تنفيذها، من قبيل الأحكام الصادرة بإبعاد المعتدي عن الضحية، إذ في الدول الغربية يُربط سوار بالشخص المعتدي لإقرار المنطقة المحظورة عليه. "لكن في المغرب لم نصل بعد إلى هذا المستوى من التقدم التكنولوجي"، مشيراً إلى أنه "من بين الأحكام، هناك العلاج النفسي للمعتدي، وهنا أتساءل عن حقوق الضحيّة: أليست هي الأَوْلى بهذا العلاج، وبالمراقبة والمواكبة للخروج من الصدمة؟".
تبقى حكايات النساء المتعرّضات للتحرّش في الفضاء العام، أو داخل مقرات العمل، أو حتى في الفضاء الرقمي، حبيسة ذواتهن. وبدرجة أبعد تبقى محصورة في أحاديث سرّية ضيقة، لا تصل إلى مسمع العامة، ولا يلجأْن إلى القانون في الغالب، وذلك لاعتبارات المجتمع الذي لا يزال ينظر إلى المرأة بعين قاصرة، وأيضاً خوفاً من أن يتم التعامل معهن في مخافر الشرطة بطريقة دونية، وتُرفض شكاواهن. هذا الوضع يجعل نساءً يحترقن بصبرهن وصمتهن، وأخريات يدافعن عن أنفسهنّ، لتحويل الشعور بالذّنب إلى صفّ "الذئاب البشرية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون