شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"ألعب وحيداً"... كيف يُمضي العاطل يومه في تونس؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 26 يونيو 202105:09 م

بينما كنت جالسة في ركن إحدى قاعات الشاي الضيقة، في منطقة لافايات بتونس العاصمة، أقرأ نصاً، تشتت تركيزي فجأة، أشار شخص يجلس في الكرسي المحاذي لطاولتي نحو شابين، كانا قد دخلا للتو، وجلسا في الجهة المقابلة، وتبدو عليهما علامات الرفاهية.

خلت في البداية أنهما محتالان أو أن وراءهما سراً، خاصة عندما رأيت نظرات الرجل الثاقبة لهما، بادرني بالحديث دون أن يزيح عنهما نظره، قائلاً: "هل تعملين؟"، هززت برأسي "نعم"، "نحن العاملين مدعاة للشفقة، نعمل ليل نهار لكي نأكل وندفع ثمن المواصلات، بينما هؤلاء "أولاد بابا وماما" تأتيهم اللقمة باردة كما يقال".

وتابع: "انظري إلى لباسهما وإلى تلك الساعة في يد ذاك، إنها تساوي راتبي، وهما عاطلان عن العمل منذ أكثر من سنة ونصف".

ظل حديث ذاك الرجل عالقاً بذهني، وطرحت تساؤلات عدة حول وضع وحياة العاطلين عن العمل في تونس، البالغ عددهم 742.8 ألف شخص من إجمالي السكان النشطين الذين يفوق عددهم 4.1 مليون شخص.

"الأمل في العمل شبه منعدم"

يجلس أسامة (27 عاماً) من منطقة قفصة جنوب تونس في مقهى شعبي بالمدينة العتيقة، وهو خريج لغة فرنسية، لكنه عاطل عن العمل منذ سنة.

يحتسي قهوته على مهل رفقة صديقه معاذ (28 عاماً)، وهو أيضاً خريج نفس الاختصاص، لكنه يعمل في البناء، ويسكنان معاً في بيت صغير بأحد الأحياء الشعبية.

يقول أسامة أن أمله في إيجاد عمل بات شبه منعدم، وأنه يخطط لهجرة غير شرعية متى سنحت الفرصة.

العاطل في حياته اليومية، غالباً ما يتحاشاه العاملون ظناً أنه سيقترض منهم، وإن لبس ساعة غالية قارنها صديقه الموظف بمرتبه، أو ارتاد مكاناً راقياً تساءل عن أموال "بابا وماما" التي تتدفق على جيبه بدون تعب 

ينظر معاذ إلى صديقه مبتسماً، ويمازحه ليخفف عنه وطأة المعاناة، ويقول: "أشك أن لديك كنزاً مدفوناً في مكان ما، ها أنت تأكل وتشرب وتلبس من أحسن الماركات، ولو كنت لا أعرفك لخلتك تشتغل في عمل مرموق".

يبتسم أسامة ابتسامة خفيفة، ويرتشف ما تبقى من فنجان القهوة، قائلاً: "سمعت هذه الجملة من أكثر من شخص، تباً، أتريدون أن أخرج في ثياب رثة وأبكي على الأطلال كي تصدقوا أنني عاطل عن العمل، أفضل أن لا آكل على أن أخرج بثياب رخيصة وبالية".

يختلف إحساس صابر، اسم مستعار، حيال بطالته عن إحساس أسامة، يقول لرصيف22: "تغيرت طباعي وأصبحت أميل إلى العنف بسبب نظرة المجتمع القاسية لي، بسبب البطالة. يتحاشى بعضهم الجلوس معي، والتقرب مني خوفاً من أن أقترض منه أموالاً، الفتيات يرفضن ربط أي علاقة بي بسبب أموري المادية الصعبة، حالتي النفسية باتت سيئة جداً".

ويضيف: "أقضي يومي في البحث عن عمل، وآخر اليوم أنطلق في ممارسة ألعاب الرهان الرياضي، باعتبارها السبيل الوحيد لتوفير بعض المال".

"الكذب وسيلتي الوحيدة للهروب".

ويكمل: "يتم في غالب الأحيان رفضي من العمل بسبب سوابق عدلية، دخلت السجن مرتين بسبب العنف. الكذب وسيلتي الوحيدة للهروب من أسئلة الأقارب والجيران، ماذا تعمل، متى ستتزوج؟".

ربما يدفعنا الفضول جميعاً كمعاذ، صديق أسامة لمعرفة مصدر "مصروف الجيب" للعاطلين عن العمل، خاصة في ظل غلاء الأسعار، والتدهور الاقتصادي، الذي شهدته البلاد مؤخراً. حاولنا الدخول في عالم هؤلاء، ومعرفة المزيد عن حياتهم غير المعلنة، وجدنا ثلة من الشباب في مقهى قرب محطة المترو في العاصمة، وتبين أن أغلبهم عاطلون عن العمل، وهم أصحاب شهادات عليا، يجتمعون كل مساء حول نفس الطاولة، يلعبون الورق للتخفيف من طول يومهم الفارغ.

يقول صفوان (30 عاماً) خريج جامعة الحقوق: "نجتمع هنا يومياً للعب، وتجاذب أطراف الحديث، وكل واحد منا يعلم الله كيف أتى بسعر القهوة التي سيشربها، أنا مثلاً آخذ من أمي خمسة دنانير(قرابة دولارين) يومياً كي لا أحرج أمام دعوات أصدقائي لاحتساء قهوة".

يضع مراد (34 عاماً) من محافظة الكاف، وهو عاطل عن العمل، خطة مالية محكمة للدنانير التي يقترضها من هنا وهناك، يقول ضاحكاً: "أصبحت خبيراً في الاقتصاد والتصرف بسبب البطالة، فاليوم مثلاً أخذت 10 دنانير من أختي، وسأحاول أن تكفيني لمدة ثلاثة أيام على الأقل، وطبعاً جميعها ستصرف على القهوة، فأنا أقضي معظم وقتي في المقهى، وغالباً ما أجلس وحيداً ألعب ألعاباً إلكترونية أو أشاهد مباراة ما حتى يعود أصدقائي من عملهم".

"أنا كده كده ميّت"

يعيش العاطلون عن العمل ضغطاً رهيباً في العائلة والمجتمع، لكن منهم من صنع من ذاك الضغط قوة، ولم يستسلم له، ولم يسمح للاكتئاب أن يتسلل إلى نفسه، وقرر العيش بشكل طبيعي، كما هو الحال بالنسبة لمحمد (31 عاماً) من تونس العاصمة.

عرف محمد بابتسامته التي لا تفارق محياه، رغم طول فترة بطالته، وهو خريج جامعة الاقتصاد.

"آخذ من أمي 5 دنانير لاحتساء قهوة مع أصدقائي"، "أخذت من أختي 10 دنانير، وسأتدبرها لثلاثة أيام على الأقل"، "لن أعيش حياتي كئيباً فالبطالة لا تسبّب الموت"

وعند سؤاله عن سر ضحكته الدائمة رغم البطالة، قال بلهجة مصرية: "أنا كده كده ميت، فالفيروسات والصواريخ التائهة والحروب والاقتصاد المتدهور كلها مميتة أكثر من البطالة، لا أحد سيموت من الجوع، لن أقضي حياتي مكتئباً وحزيناً وأدمر نفسي فقط لأنني في دولة نامية لا تحترم كفاءاتها، الرزق بيد الله".

تختلف الأحاسيس والأنشطة بالنسبة للعاطلين الرجال عن النساء اللواتي هن بلا عمل، ويعتبر كل طرف منهما أن الآخر أفضل منه حالاً.

تقول سندس (29 عاماً) من تونس العاصمة، وهي خريجة لغة إنجليزية، وتعاني البطالة منذ خمس سنوات: "أجزم أن البطالة أشد وطأة علينا منها على الرجال، فهم على الأقل يستطيعون الخروج والذهاب أينما شاؤوا، أما نحن فحبيسات البيت والمطبخ، بينما هم يعودون من المقهى أو من أي مكان آخر يجدون الطعام جاهزاً، والملابس نظيفة".

لا يشاطرها الرأي ابن عمها سامي (27 عاماً)، وهو الآخر عاطل عن العمل منذ سنوات، فينظر إليها غاضباً، ويقول: "سيأتي من يتزوجك وتكونين أسرة، بينما أنا لا أستطيع حتى التفكير في التعرف على فتاة بسبب قلة ذات اليد، سأعيش وحيداً طوال حياتي إن لم أجد عملاً رسمياً".

الإقصاء والمكانة الاجتماعية

للعاطلين عن العمل حياتهم المختلفة عن البقية، فهم شبه منعزلين عن المجتمع خاصة من منظور اجتماعي نفسي، إذ يفقد العاطل عن العمل الثقة في الآخر وفي المحيط حسب المختصة في علم النفس الاجتماعي، فتحية السعيدي.

تقول السعيدي لرصيف22 إن للبطالة مخاطر نفسية واجتماعية جمة، قبل أن تكون مشكلاً اقتصادياً بحتاً، فهما سبب ونتيجة.

وتضيف: "يحس العاطل عن العمل أن لا دور له في المجتمع بسبب التهميش المسلط عليه، فمنهم من ينعزل انعزالاً تاماً عن الجميع، ومنهم من يقرر الهجرة، فالعمل يعطي قيمة ومكانة اجتماعية للفرد، بالتالي يحس العاطل عن العمل أن لا مكانة اجتماعية له داخل مجتمعه، وأنه عبء على العائلة، ويدخل في حالات من الضغط النفسي والاكتئاب خاصة عند ابتعاد بعض الناس أو عندما يحس بابتعادهم سواءً كان إحساسه في محله أم لا".

وتلفت سعيدي إلى أن الغالبية في مجتمعاتنا باتوا يميلون إلى من له مكانة اجتماعية مرموقة، "لذلك نقول إن البطالة تساهم في الإقصاء الاجتماعي بالنسبة للنساء والرجال على حد سواء، فالنساء مثلاً يتأثرن نفسياً بالبطالة كأن تفكر الفتاة أن حظوظها في الزواج واختيار الشريك تُبنى على عملها، فالزواج هذه الأيام مبني على إستراتيجية اجتماعية، وأصبح الرجال يبحثون عن المرأة العاملة أكثر من تلك التي لا دخل لها".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image