شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الملل: غول تفاصيل حياتنا وجلّادها

الملل: غول تفاصيل حياتنا وجلّادها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 22 يناير 201910:28 ص
أستخدم ضمير "الأنا" في بعض أجزاء هذا النص في محاولة لفهم الملل، كونه شخصيّاً من جهة، وموضوعاً لا يمكن بدقة تحديد حدوده أو مصدره، "أنا" أم "العالم"؟ أين يبدأ مللي ومن أين يتسلل ملل العالم إليّ؟ فالعطب أو الخلل الذي يخلق "الملل" مستحيل التحديد، لكنْ لدي يقين، أن هناك نوعاً من اللامعنى الذي لا أستطيع تحديد مصدره.
أين يبدأ مللي ومن أين يتسلل ملل العالم إليّ؟
"أنا أشعر بالملل!"، تصريح غير دقيق لحالة غير واضحة، لوصف عدم القناعة فيما يحصل، ولا أعني هنا غياب المعنى أو الجدوى، بل غياب القيمة الذاتيّة والموضوعيّة، فالملل لا يعطُل "العمل"، لكنه مُراقب كليّ الحضور، موجود في كل التفاصيل، أثناء الكتابة، خلال المشي، داخل المسرح، لحظة الاستيقاظ، هو الغول الذي لا يوجد وقت لظهوره، يراقب خط الإنتاج من جهة، ويهيمن في أوقات الراحة واللاعمل من جهة أخرى، هو امتياز "البقاء" وعدم الخروج للصيد.يتكاثف الملل في أشد لحظات تلبية الرغبة، هو الهيولى التي تملأ المسافة بين الأنا والعالم، أشبه بمكوّن خفيّ لزج للوجود، لا يعيق الحركة، لكنه يزداد مرئيّة مع تنامي عدم الرضا، وغياب الإشباع الحقيقي لأي رغبة سواء داخلية حميميّة أو علنيّة سياسيّة. الملل أشبه بالضوء الذي ينير حياتنا اليومية اللامتناهيّة الرتابة والسخافة، هو الدليل على أن هناك عطلاً ما، فما هو موجود لا يكفي، ولا بد من جديد، ومن هذه النزعة للقضاء على الملل تزدهر الثقافة الاستهلاكيّة، لا فقط عبر مُنتجاتها، بل بوعودها بالجديد والمتغير، هي تضبط إيقاع العالم لتترك الفرد دوماً في سعي للجديد الذي تتلاشى قيمته بمجرد امتلاكه أو الحصول عليه، فهناك دوماً خيار أفضل، ولا بد من نفي "الآن" كي يتاح لنا اختبار غيره،  وهذا ما يُبرز قدرة الملل على عبور التاريخ، إذ يمتلك زمناً هائلاً، سرمديّاً ربما، هو يقين مُستمر و"قديم"، والأشدّ حضوراً حين تكون هناك مشكلة في الوقت وإطار صرفه، كما في محاضرة مملة، أو عمل تافه، أو انتظار القطار لـ30 دقيقة، الملل قرين الوقت الضائع، وعدو الوعي بهذا الوقت.ما إن ندرك بإننا أفراد، أو ما إن أدركت بأنّي فردٌ ذو مسؤوليات حتى ظهر الملل، وتحولت الحياة اليوميّة إلى سجن، غسل الصحون، تنظيف المنزل، معضلة تحضير الطعام، قراءات متنوعة، كل التفاصيل اليوميّة و"الجهد" المبذول لتحقيق حاجات ما، تقابل ذلك كله رغبة عميقة بالتخفف والتحرر من هذا السجن من أجل "منبّه" أو "جديد" ما ينسف الرتابة والإيقاع، وهنا يكشف الملل عن تقنياته، هو قادر على التحوّل وتبنيّ أي "جديد" ونزع القيمة منه. يُعرّف الملل الحياة سلبياً، لأن كل ما نقوم به سعيٌ للتخلص منه، ولو مؤقتاً، وهنا يبرز "المثير للاهتمام" بوصفه يُهدد الملل، لكن ما تلبث الإثارة أن تتلاشى بسبب التكوين/ الشكل ذاته لما هو مثير للاهتمام، فالخبرة الشخصيّة تكشف أن الشكل يختزن داخله تاريخاً مملاً لنفي الملل، كما في المسرح، والسينما، ووسائل الترفيه، كلها أشكال لأوقات الفراغ، تنويعات لملء وتغيير إيقاع الزمن لا جدياً، وهنا تكمن المشكلة في هذه الأشكال، فهي لا تراكميّة، وتسعى لأن تكون جديدة دوماً، ما يجعلها  محكومة بالتلاشي لصالح الزمن، فلا شيء يُخزّن، كون الشكل ذاته محكوماً بالاختفاء. يفترض الملل الوعي بالذات، ولا يمكن إدراكه إن كنا نياماً، أو تحت تأثير المخدرات، أو في لحظات الرعشة الجنسية، فهناك أزمنة بلا ملل، كل ما فيها جديد، والسبب هو تلاشي الوعي بالذات والإحساس بالفردانيّة، ربما لو كنا أسرى لعبة فيديو أو في ثقب أسود لتلاشى الملل، فـ"الفرد" ضمنهما فوق الزمن، كون الأنا تتلاشى وتصبح جزءاً من الوجود الموضوعيّ.
الملل أشبه بالضوء الذي ينير حياتنا اليومية اللامتناهيّة الرتابة والسخافة، هو الدليل على أن هناك عطلاً ما، فما هو موجود لا يكفي، ولا بد من جديد، ومن هذه النزعة للقضاء على الملل تزدهر الثقافة الاستهلاكيّة، لا فقط عبر مُنتجاتها، بل بوعودها بالجديد والمتغير.
يفترض الملل الوعي بالذات، ولا يمكن إدراكه إن كنا نياماً، أو تحت تأثير المخدرات، أو في لحظات الرعشة الجنسية، فهناك أزمنة بلا ملل، كل ما فيها جديد، والسبب هو تلاشي الوعي بالذات والإحساس بالفردانيّة، ربما لو كنا أسرى لعبة فيديو.
العلاقة بين الملل والموت إشكاليّة، فأقصى أشكال الملل تشابه الموت، إلّا أن الموت ذاته فيه خلاص من الملل، هو قطيعة كليّة مع "الإيقاع"، ندرك عبره إنسانيتنا ذاتها.
إدراكنا للفراغ ثم تطابق فراغنا الداخلي مع فراغ العالم يحررنا من الملل، كوننا نكسر الحدود بين الداخلي الذاتيّ والخارجي الموضوعيّ، هذه اللحظات من "الفراغ" تحقق في الاستمناء، ولحظات الإنزال التي كلما طالت تمدد الفراغ، فسطحيّة العالم وخلوه من المعنى بتطابقان مع شعورنا بالنشوة، كون النزعة للاكتمال أو الانغلاق تتحقق لثوانٍ أثناء غشاوة الإنزال، للحظات نصبح دون أي رغبة بالجديد، ندخل صمتاً تاماً دون أي إيقاع، وهنا تظهر العلاقة بين الملل والنزعة لانتهاك الحدود -أو الشرّ كما يسميها البعض -والتي في جوهرها تعادي الملل، فالحواف تتلاشى حين يُكشف الداخل ويصبح مرئياً، فالفتحات ومساحات اللعب فيها وضمنها تُحرر الداخليّ المتماسك نحو الخارجيّ السياسيّ، هنا يتلاشى الملل كون الأنا نفسها تتفكك، ويُهدد تماسكها ووحدتها العضويّة أو الرمزيّة، ليتركزّ الوعي بأكمله في نقطة/فتحة واحدة، تلفظُ ما بداخلها أو تبتلع الخارج، لنرى أنفسنا نتلاشى أمام إشباع داخليّ لا يشبه استخدام أو شراء أي سلعة. يعد الله عباده بفضاءات لا يملّون فيها، وتتناهى ضمنها حركاتهم إلى الثبات، بسبب تلاشي الإيقاع، لكن هذا الوعد، والسبيل إلى تحقيقه حاضر دوماً بوجوهنا، ومرتبط بالحدث الذي طالما كان الأكثر جدّة وعصريّة، والذي يصفه والتر بينجامين بقوله "بالنسبة للناس اليوم هناك شيء وحيد يعتبر جديداً بصورة جذريّة، ولطالما كان حاضراً، هو الموت". العلاقة بين الملل والموت إشكاليّة، فأقصى أشكال الملل تشابه الموت، إلّا أن الموت ذاته فيه خلاص من الملل، هو قطيعة كليّة مع "الإيقاع"، ندرك عبره إنسانيتنا ذاتها، لكن لطالما هناك وعي، فلا مهرب من تلمس الفراغ العميق الأسود الذي ينبض في أعلى المعدة، وتأمل ضحايا الملل الذين يلتهمهم ويبتلعهم تدريجياً.
 

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image