أريد أن أكون سعيدًا ماذا أفعل؟
غريبة تلك النصائح التي يهديها إلينا الناس، ومنهم الأصدقاء والأهل، والشركاء، غريبة بحكم بُعد كل واحدة عن الأخرى، وغرابة النتائج، يقول والدي إنّ السعادة في الاستقرار والعيش متديناً، وعملياً، كل ما وراء ذلك لا طائل منه.
أتذكّر أحد أقربائي، معلم ثانوية عامة، متزوج وله ولدان، منضبط وعملي، وحياته لا كوارث فيها، يقول لي إنه يعيش في كابوس يومي، منذ أن يستيقظ، يُحبّ إيقاعه الخاص في حياته، أن يصحو وقت يشاء، يكره الالتزامات، ولا يحبّ الجنس أو العلاقات العاطفية، بالنسبة له كما يقول سارتر: "الآخر هو الجحيم"، يريد أن يعيش حياته بلا آخر.
يقول لي: أشعر أنّي أعيش في جهنم طوال اليوم، واللحظات التي تُعزّيني عندما تنام زوجتي وأولادي، أُعدّ كوب الشاي، وأدخن سيجارتي، إنّها لحظات ممتعة ولولاها لانتحرتُ.
يقول صديقي فتحي، يعمل في مجال التدريس، إنّ الحياة بسيطة، لا تحتاج إلّا إلى زوجة وولد أو ولدين، وعمل محترم، ونشاط آخر له معنى: كتابة، موسيقى، رسم.بحسب الفلسفة الرواقية، تفسيرك للموقف يجعله سعيداً أو تعيساً، إذا آمنت أن مشاهدة الكعبة أعظم تجربة في الوجود فستجعلك سعيداً، وإذا اعتقدت أن السكر في البارات وحميمية العاهرات من أبعث الأشياء على السعادة فستكون سعيداً.
"أمران متأكدٌ منهما العالم الذي نعيش فيه تحكمه عُصبة نبيلة من الأنذال التي لطّخت الأرض، الثاني لا يجب أن نأخذ الأمر على محمل الجدّ، لأنّ هذا ما يرغبون فيه".تذكرتُ شخصاً يحبّ كتابة الروايات، وقد حقّق نجاحاً في هذا المجال، ويرغب في العمل بالإذاعة، وحقّق أيضاً في عمله نجاحاً مادياً ومعنوياً، وهو متزوج وله أولاد، ولكنه يرتاد الكثير من عيادات الطب النفسي بسبب اضطرابات نفسية. حسناً، قد يكون والدي وفتحي قرويين، لم ينلا حظاً كبيراً من الانفتاح على الثقافات الأخرى، ينصحني صديق صحفي قاهري 24 عاماً بحرق كل الكتب التي أقرأها، وأن أترك الكتابة، وأجني الكثير من المال بقدر الإمكان، وممارسة الجنس مع أنواع مختلفة من الفتيات قدر الإمكان، والسفر لأماكن كثيرة قدر الإمكان. لا نذهب بعيدًا جدًا، الطباخ الشهير أنتوني بوردين، انتحر عن عمر 61 عاماً في غرفته بالعاصمة الفرنسية "باريس"، إنّه النموذج الذي يروّج له الإعلام والمثقفون، أن تعيش حياة لها معنى، لك موقف سياسي معارض، وتجني الكثير من المال، وتمارس رغبات الجسد، وتسافر في كل مكان، وتستمتع بحياتك. الانتحار ليس حدثاً يأتي بشكل مفاجئ، هو تراكم من الإحباطات الداخلية التي لا تُحتمَل، وليس انعدام الرغبة في الطعام والجنس ولكن فقدان الشهية للحياة نفسها. بحسب الفلسفة الرواقية، تفسيرك للموقف يجعله سعيداً أو تعيساً، إذا آمنت أن مشاهدة الكعبة أعظم تجربة في الوجود فستجعلك سعيداً، وإذا اعتقدت أن السكر في البارات وحميمية العاهرات من أبعث الأشياء على السعادة فستكون سعيداً. الأمر يعتمد على تفسيرك، وقد عدّل ألبرت إليس عالم النفس في العلاج السلوكي المعرفي، فلسفة الرواقيين تلك إلى أسلوب سائد للتغلب على مشاكل الاكتئاب والقلق والغضب في عيادات الطب النفسي.
تدريس الحياة وتعليمها بدون أن نعيشها جريمةالأمر يعتمد على تفسيرك للموقف إذًا، وهناك من يفسّر كل تجارب اللذة، والابتهاج بأشياء لا تتطلّب مجهودًا مثل الأكل والشرب ومشاهدة التلفزيون، بأنّها سلبية، والتعلّق بها تُغيّر فينا بطريقة مؤذية، بينما الأشياء التي تتطلب مجهودًا وتعلّمًا فهي التي تسبب اللذة الصحية أو المتعة، أو كما يسميها ميهالي سكسزينتميالي، المعروف بأعماله الرائدة في مجال "الخبرة المثالية"، "التدفق". يعرف سكسزينتميالي، مؤلف كتاب "التدفق: سيكولوجية الخبرة المثلى" تجارب اللذة بأنها حالة "استتباب ذاتي"، وتعني أنها لا تؤدي إلى النمو النفسي، بدلًا من ذلك تشبع احتياجات بيولوجية، النوم، أكل وجبة رائعة، الاستلقاء في الشمس، التدليك، كوب من النبيذ، قضاء الليل أمام التلفاز، كلّ ذلك يقع داخل هذه الفئة، المتعة هي عنصر مهم لنوعية الحياة، ولكن تجارب اللذة لا تُضفي التعقيد على الذات. أما التمتع فإنه يتميز بالحركة إلى الأمام: الشعور بالجديد، الإنجاز، ويحدث عندما نمدّ أنفسنا، ونستزيد لحدودنا وقدراتنا، أشياء مثل لعبة تنافسية، تحقيق هدف لك في مبيعاتك، تعلّم مهارة جديدة، إو إجراء محادثة، أو قراءة كتاب... إنها أمثلة على التجارب الممتعة. ولكن ماذا إذا كانت متعتك في عمل يحرمه المجتمع، شغفك قد يجلب إليك اللعنات الاجتماعية والأخلاقية.
فوبيا السعادة: ضحّوا بأرواحكم لتتعايشوا مع العالم
إنّ بحثكم عن سعادتكم الخاصة قد يصدمكم أحيانًا، إلى الدرجة التي تتمنّون فيها أن تعيشوا مزيفين لتتعايشوا مع الزيف والقبح من حولكم، تقول صديقتي 26 عامًا، تركَت دراستها، وتمرّدت على أسرتها، وعملت في مكتبة تدرس الطلبة الأدب الخفيف، بعد أن حدثتُها عن التأمل والتدفق: لا أريد أن أكون سعيدة، أريد أن أكون محبطة وبائسة بالقدر الذي يجعلني أتعايش مع العالم من حولي. ماذا لو وجدتُم سعادتكم في شيء يحرمه المجتمع، مثلما وجدت شيلا، وهي عجوز بريطانية، بعد عمر مديد قضته محافظة أخلاقياً، وجدت سعادتها في بيع الجنس، واحترفت الدعارة في الثمانينات، ووضعت أمامها تحدياً: أن يريدني الشباب أكثر من الفتيات الصغيرات، وحقّقت نجاحًا إلى الدرجة التي دفعت "بي بي سي" لتسجيل فيلم وثائقي عنها. اكتشفت شيلا أن المرأة الكبيرة السن تتفاعل مع الرجل بشكل أفضل، حيث للمشاعر قيمة وعمق، وتقول صوفي عجوز بائعة جنس: "ما أقوم به يصنفه بعض الناس بأنّه لا أخلاقي. أنا فعلًا أحبّ ذلك، فلماذا يجب أن لا أكون قادرة على فعل ما أريد القيام به". صوفي سعيدة، ولكن يرى بعض السياسيين والمثقفين أنّ السعادة حمقاء وسلبية عندما تشعر بها وسط مجتمع جاهل، ونظام سياسي فاسد، والقبح مستشرٍ حولك، وكأنّك تشمّ رائحة كريهة، وتستمتع بها فقط حتى تصبح سعيدًا. ويتساءلون: هل يمكن للسعادة التي يشعر بها أناس مُستغَلَّون، ويعيشون في أوضاع صعبة أن تُديم واقعهم بدلًا من أن يسعوا لتغييره، وقبل كلّ ذلك هل يمكن للفقراء والمتسوّلين والمسحوقين أن يضحكوا ويسعدوا. يؤمن ألبير قصيري، روائي مصري الجنسية يكتب بالفرنسية وعاش في باريس معظم حياته، أن ّالعالم قبيح وعنيف، وسيىء إلى أقصى مدى، ولكنّ أبطاله الذين يزعم أنه قابلهم فترة شبابه في أحياء القاهرة القذرة، واستلهمهم في كل أعماله، أدهشوه بحب الراحة والكسل والاستمتاع بالبطالة والتسول، يقول قصيري بعد أن تبنّى نمط الحياة لهؤلاء: "كنّا أكثر فقرًا ولكن كنّا نلهو ونعيش". يترك جوهر بطل روايته التي تحولت إلى فيلم سينمائي"شحاذون نبلاء" التدريس لأنه يرى "تدريس الحياة وتعليمها بدون أن نعيشها جريمة"، وفضّل أن يكون متسولًا يطوف شوارع القاهرة إلى أن يصبح شحاذًا. ويُعجب به الضابط إلى الدرجة التي يشعر فيها براحة بالغة وهو ينام على جرائده المبسوطة على الأرض. يعتقد أبطال ألبير قصيري، ومعظمهم متسولون ويعيشون حياة البطالة والكسل، أنّ الحياة سخرية، وأنّ أفضل الأنشطة هو التفكير في سخريتها وتناقضاتها وقت الفراغ الطويل، يتأمّلون الناس فوق السطوح مثل كريم المتسول صانع طائرات الورق في "العنف والسخرية" أو في الشوارع وحول الكورنيش كما أسامة في "ألوان العار". يقول هيكل بطل "العنف والسخرية": "أمران متأكدٌ منهما العالم الذي نعيش فيه تحكمه عُصبة نبيلة من الأنذال التي لطّخت الأرض، الثاني لا يجب أن نأخذ الأمر على محمل الجدّ، لأنّ هذا ما يرغبون فيه". لهذا فهم يسخرون ويضحكون ويتأملون ويتمتعون ببطالتهم غير ملتزمين بالقيود الاجتماعية والأخلاقية، ويعتبرون سعادتهم تلك ثورة على النظام.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون