"كانت ستبدو الحياة مختلفة لو كنت أطول قامة. هل كنت سأظل الشخص نفسه؟ لا أدري. لكنني حتماً سأكون أسعد". بهذه الكلمات عبّر إدريس الريصاني عن معاناته مع قصر قامته، مؤكداً أن فرص العمل، والحب، تهرب منه لأن البعض يصفه وأمثاله بالأقزام، "ولا يؤمنون بأن هذا قدرنا، ووجب علينا التعايش معه".
لا توجد أرقام رسمية عن قصار القامة في المملكة المغربية، لكن جمعيات مغربية تؤكد أنهم بالآلاف، وبأعمار مختلفة، ويعانون بصمت في انتظار اعتراف المجتمع بهم كأشخاص "عاديين"، وبحقوقهم.
أنا رجل عادي
قضينا مع إدريس (27 سنة) ويعيش برفقة والدته بعد موت والده، أكثر من ساعتين في مقهى في مدينة الدار البيضاء. وكان كل شيء غير معدّ لاستقبال شخص في حجمه، ولا يستجيب لحاجياته، بوصفه من ذوي الاحتياجات الخاصة. كأنه "طفل" في عالم "الكبار".
تحدث بصدق عن معاناته، شرط ألا تُنشر صورته مؤكداً: "نحن لسنا مرضى، ولا معاقين، ولا عينة تخضع للتجارب والفحص والاستفسار. نحن أشخاص عاديون بمخ وقلب عاديين. لذلك وجب علينا أن نعيش حياة عادية. لكن من يفهم ويستوعب ذلك؟".
"كانت ستبدو الحياة مختلفة لو كنت أطول قامة. هل كنت سأظل الشخص نفسه؟ لا أدري. لكنني حتماً سأكون أسعد"
ويردف الشاب المغربي الذي يقضي ساعات يومه في البحث عن وظيفة بعد حصوله على إجازة في علم الاجتماع سنة 2017، من دون جدوى، لأنه ضحية للتمييز، قائلاً: "أبحث حالياً عن وظيفة مهما كانت. لكنني لم أجد بعد. ومتأكد أن السبب طول قامتي (1.25 متراً). وحتى العلاقات العاطفية، فهي شبه مستحيلة لأمثالنا، خاصةً إذا علمت أن جل الإناث ينظرن إلينا بشفقة، أو احتقار، ولا وجود لاحتمال ثالث".
ويبلغ متوسط طول القامة في المغرب، بحسب موقع averagehight.co، 1.72 متراً بالنسبة إلى الرجال، و1.58 متراً بالنسبة إلى النساء، اللواتي يُعدَدن الأقصر مغاربياً.
كفاح ضد الأفكار النمطية
عكس إدريس، تتحدث فدوى اللوزة البالغة 27 سنة، وتقطن في العاصمة العلمية المغربية فاس، بطريقة أكثر تفاؤلاً، وبأريحية عن وضعها: "أدركت أنني أعاني من قصر القامة منذ صغري (مرحلة الابتدائي). صراحةً، لم أتعرض للتنمر في مراحل دراستي جميعها. الحمد لله أني كنت محبوبة، وأحظى بالتشجيع من قِبل زملائي وأساتذتي".
"الزواج قسمة ونصيب. فقصر القامة لا يشكل أمامي عائقاً للزواج". يعاني قصار القامة من التمييز في المغرب
فدوى حاصلة على شهادة الماجستير التخصصي في مسلك الاقتصاد والمالية التشاركية والأسواق المالية، وتحضّر رسالة الدكتوراه. تؤكد لرصيف22 أنها تعيش حياتها بشكل عادي، لكنها تتذكر بعض الوقائع التي ظلت راسخة في ذاكرتها: "في السنة الأولى من سلك الماستر، قمنا، نحن الطلبة، بدعوة الأساتذة إلى الإفطار خلال شهر رمضان (إفطار جماعي في فندق)، وفي آخر اليوم أردنا التقاط صورة جماعية كذكرى. وتقدّم أستاذي أمامي، وجثا على ركبتيه لكي يأخذ الصورة إلى جانبي. أحسست بالخجل، وفي الوقت نفسه بالامتنان، ولن أنسى موقفه ما حييت".
لكن ليس جميع من يعيشون وضعية مماثلة يلتقون أشخاصاً متفهمين، بل يتعرض كثيرون منهم للتنمر. عن هذا الوضع تقول الشابة: "رسالتي للمتنمرين هي أن السخرية من السمين لن تجعلك أكثر نحافة، والاستهزاء بالقبيح لن يجعلك أكثر جمالاً، والسخرية من الأشعث لن تجعلك أكثر وسامة، والسخرية مِن الفاشل لن تجعلك بالضرورة ناجحاً، فدع الخلق للخالق، واعمل على تحسين نفسك عوض التعليق على الآخرين".
الشابة المغربية تؤكد أن تقبّل طولها وشكلها كان بفضل أسرتها الصغيرة، وخاصة والدتها التي جعلتها تؤمن أن الرضى بما قسمه الله لها سيجعلها سعيدة. "هم سندي، وقوتي، ومصدر شجاعتي وإلهامي". وعن الحب والزواج تقول فدوى: "الزواج قسمة ونصيب. فقصر القامة لا يشكل أمامي عائقاً للزواج، فقد عُرض عليّ الزواج أكتر من مرة، و لم أوافق لأنني أريد العمل، وتأمين مستقبلي أولاً".
وتنفي فدوى أن يكون طول قامتها سبباً في إقصائها عن سوق الشغل. "لست متأكدة من ذلك. فالكثير من الشباب المغاربة يعانون من البطالة، والأمر لا يقتصر على فئة معينة".
قصة حب... وكراهية
وإذا لم يفلح إدريس وفدوى في إيجاد نصفهم الثاني بعد، فعبد الرحيم نجح في ذلك قبل سنتين، ويروي قصته لرصيف22 بطريقته المرحة الخاصة: "تعرفت على زوجتي في مجموعة في فيسبوك في شهر كانون الثاني/ يناير، والتقينا في نيسان/ أبريل، وتزوجنا في أيار/ مايو. قصة تعارفنا وحبنا كانت قصيرة، ثم توّجها الزواج". وأضاف: "علمت أن بديعة هي المنشودة، حين أضحكتْها نكاتي في اللقاء الأول، على الرغم من أنني متأكد أنها سمعت بعضها من قبل، كما أنها كانت فخورة بنا معاً. لذلك كنت متأكداً من أنها من سأكمل حياتي معها على الرغم من الصعوبات، فنحن نعيش مع والدتها حالياً، ونخطط للهجرة إلى الخارج متى أتيحت لنا الفرصة. سنهاجر إلى حيث يُرى الإنسان بجوهره لا بطول قامته".
ويكمل حديثه بعد التخلي عن نبرة المرح: "نتعرض لوابل من الشتائم كل يوم، وخاصة من أطفال الحي الشعبي الذي نسكنه، لكننا تعودنا. وحين زرنا طبيبة نسائية للاستفسار عن إمكانية الحمل أجابتنا: ‘علاش بغيتو تعذبوه معكم’. كان ردها قاسياً، وخاصة على نفسية زوجتي التي يبلغ طولها 1.22 متراً، وهو طولي بالضبط، فهي نصفي حرفياً، بعيداً عن الاستعارة والرومانسية، ومعاً نبلغ مترين و44 سنتيمتراً".
أما بديعة زوجة عبد الرحيم (32 سنة) فتحكي لرصيف22 تفاصيل قصة حبها بخجل: "التقينا، ومنذ اللحظة الأولى علمت أنه "ولد الناس" (شخص محترم)، وأن غايته شريفة. معه أعيش أسعد لحظات حياتي. ودائماً أقول له: يا ليتنا كنا في جزيرة وحدنا. بعيداً عن الناس وسخريتهم".
رفضت بديعة، على الرغم من إصرار زوجها، الخوض في الحادثة التي وقعت في عيادة الطبيبة التي هددها عبد الرحيم برفع دعوى قضائية ضدها قبل أن تعتذر، وتؤكد أن ردها كان عفوياً، وأن الغاية منه لم تكن الانتقاص من قدرهما، أو السخرية من طولهما، لكنها ظلت تردد: "حسبنا الله ونعم الوكيل...الأبناء رزق من عند الله"، وكأنها إلى الآن لم تستسغ العبارة القاسية للطبيبة، التي تُظهر مدى الجهل بوضع قصار القامة في المغرب، حتى في الأوساط الطبية.
آلام نفسية وتمييز مهني
رئيسة جمعية قصار القامة للتنمية والتضامن نسمة الإدريسي، والتي تنشط في عدد من المدن المغربية، تقول إن قصار القامة في المغرب يتعرضون لظلم يومي، خاصةً من طرف المسؤولين المغاربة: "تواصلنا مع وزارات ومؤسسات حكومية، ولم نتلقَ رداً حتى الساعة. هدفنا هو النهوض بأوضاع قصار القامة، وإدماجهم في سوق العمل. ولا بد لنا كمجتمع مدني من أن نسلط الضوء على قصار القامة في المدن البعيدة عن المركز، سواء في العاصمة الإدارية الرباط، أو في العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، فوضعيتهم لا تبشر بالخير".
ويرى الأخصائي النفسي خالد العطاس، من خلال مشاركته في أنشطة جمعيات لقصار القامة في المغرب، أن ما يؤرقهم بشكل كبير في المغرب هو التمييز المهني الذي قد يعانون منه، فعلى الرغم من امتلاك بعضهم لمهارات وشهادات تعليمية عالية، إلا أنهم لا يُقبَلون في وظائف متعددة، ووسائل الإعلام والسينما والتلفزيون تساهم في ذلك. إذ نرى قصير القامة "كومبارساً"، أو يعاني من التنمر في حوارات مع مواقع إلكترونية مغربية، أو قنوات عمومية".
وبحسب العطاس، فإن غالبية قصار القامة يعملون في غالبية الأحيان في مهن نمطية ليلية مثل الغناء، أو التنشيط الفني كبهلوانات ومهرجين، وهذا يضرّ بصحتهم النفسية بشكل كبير، ويوصل بعضهم إلى مرحلة الاكتئاب، والتفكير في الأذى الجسدي".
ويختم حديثه لرصيف22: "حضرت جلسات استماع إلى بعض قصار القامة، وهم لا يستطيعون حتى التحدث عن تجاربهم، إذ ظلوا يبكون، والبعض منهم ألقى باللوم على والديه، وحملهما مسؤولية ظروفه، وتحوّل إحساسه نحوهما إلى حقد وكراهية، لذلك وجب تسليط الضوء عليهم إنسانياً وحقوقياً، بعيداً عن الصورة النمطية"، التي تؤدي بالكثيرين منهم إلى الاكتئاب، والعزلة، وما هو أسوأ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...