قبل سنوات، أثارت مسرحيتها "ديالي" أي ملكي، وهي اقتباس لمسرحية عن "مونولوغ المهبل"، جدلاً واسعاً في المشهد الثقافي والسياسي المغربي، بين صفّ مدافع عن الحداثة وحقوق الإنسان، وآخر محافظ يساند ما يُعرف بـ"الفن النظيف". لكنّها لم تعِر يوماً بالاً للانتقادات، وتصر على جعل المسرح في قلب إبداعها ونضالها النسوي. نعيمة زيطان من قلّة نادرة من المسرحيين المغاربة الذين يجعلون الفن يتقاطع مع الحياة الثقافية والسياسية، وفي طليعة الحياة المغربية.
مسرح الحياة
التقى رصيف22 نعيمة زيطان في حي العَكَّاري وسط العاصمة الرباط، حيث تجاوزت المرأة ذات الشعر القصير فوضى سوق المتلاشيات الكبير في الحي، وزحمته، وهي تتحدث تارةً، وتراقب بنظاراتها الطبية الحياة النشطة في الحيّ تارةً أخرى، قبل أن تصل إلى مقرّ جمعية مسرح "الأكواريوم".
بين دروب الحيّ الشعبي، تستقبلها قطة حبلى بالمواء. تفتح الباب، وندخل جميعاً. تنسحب إلى إحدى الغرف قبل أن تعود بإناء ماء، وطعام، تقدّمهما إلى القطة بالقرب من الخشبة الكبيرة التّي تتوسطّ رياضاً مغربياً قديماً تحوّل إلى ورشة مسرحية كبيرة، تصنع فيه نعيمة زيطان وفرقتها المسرحيّة السّحر والجدل منذ عقدين ونيف من الزمن.
لا تخشى الانتقادات ولا الأصوليين ولا إخراج مسرحيات عن الحياة الجنسية لنساء المغرب. نعيمة زيطان مسرحية ونسوية تناضل عبر الفن
في هذا الـ"أكواريوم"، تسبح المؤلّفة والمخرجة زيطان ضدّ التيار، وتواجه قروش الأصولية. بتطلّعاتها التقدّمية، ورؤيتها الفنّية التحرّرية. تحوّلت إلى محامية تدافع عن قضايا المرأة، والحريات، وحقوق الإنسان. وهذا ما جعل أبرز المواضيع التي تتناولها مسرحياتها توصف على صفحات الجرائد المغربية بـ"الجريئة"، و"المحرّكة للنقاش"، كأنها ريح تحرك المياه الآسنة في حوض المسرح المغربي الساكن.
انحياز زيطان إلى هذه القضايا لا يرتبط بدخولها المجال الفني فحسب، بعد دراستها في "المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي"، وهو أشهر مؤسسة لتدريب الممثلين والمسرحيين المغاربة، خلال تسعينيات القرن الماضي، والذي كان يحبل بنقاش تطغى عليه صفة اليساري المغربي. بل يعود هذا الاهتمام بالقضايا الإنسانية، وخاصة النسوية، إلى بدايات تشكّل وعيها هناك وسط جبال الريف، في مدينة شفشاون، شمال المغرب. "همّ الدفاع عن المرأة، كان عندي قبل دخولي المجال الفنّي"، تقول زيطان في حديثها لرصيف22، مضيفةً: "كنت أحمله معي منذ المراهقة، حين كنت منخرطة في العمل من خلال الجمعيات، وكنا ننظّم عروضاً وقراءات وحلقيّات، ونناقش مختلف مواضيع حقوق الإنسان، ومن بينها قضايا المرأة، قبل أن يقوى أكثر مع الحركة النسائية، في مكاتب جمعيات "اتحاد العمل النسائي"، و"الجمعية المغربية للنساء التقدّميات"، وعندما تخصّصت في المسرح، وضعت هذا الأخير رهن إشارة هذه القضايا، وفي خدمتها".
تنظّم جولات فنّية لعرض أعمالها في مختلف الفضاءات؛ في الأحياء الشعبية، والبوادي، والقرى، والمدارس، وحتى داخل السّجون
هذا الوعي الأول، أو الجانب العقلاني منه، المهتم بالانتصار لقضايا المرأة لدى الفنّانة المغربية، يرتكز على خلفية شخصية، وتجارب ذاتية عاشتها في محيطها. "كبرتُ وسط عائلة حائرة في الوسط، بين الاستكانة للتقليد والمحافظة، والانخراط في المعاصرة، ورأيت وسطها، وعبرها، في المجتمع المغربي، واقعاً شاقاً وقاسياً يطبعه الكثير من الحيف، والإقصاء للمرأة، ومن هنا تشكّلت لدي البذرة الأولى للتمرّد ضدّ هذا الواقع".
هكذا حملت "سيّدة الأكواريوم" هموم المرأة المغربية، والفئات المسحوقة الأخرى، إلى خشبة المسرح، لترافع لصالح رسالتها الكبرى في معركة "تغيير العقليات"، مسخّرةً أعمالها لتسليط الضوء حيناً، أو التنديد والانتقاد في أحايين أخرى، خاصة وأنّ في رصيدها الفنّي الممتدّ لأكثر من ربع قرن من الزمن، عشرات العروض التي اشتغلت عليها إخراجاً وتأليفاً، أبرزها "شقائق النعمان"، و"التفلة"، و"ديالي"، و"طرز الحساب"، و"أحمر + أزرق = بنفسجي".
رصاص الانتقاد لا يخيفها
تنتمي الفنّانة المغربية وهي من مواليد ستّينيات القرن الماضي، إلى جيل "سنوات الرصاص" الذي اعتُقل واختُطف المئات من أبنائه. وهي المرحلة الموسومة بالقمع والرقابة والخطوط الحمراء التي تطال مناحي الحياة كلها، غير أنّ المؤلفة المغربية، ومنذ بداية اشتغالها على الظواهر المجتمعية المختلفة، ترفع دائماً شعار حرّية التعبير، رافضةً تقييد الفن والإبداع بالوصاية، والتشريعات الماضويَّة.
هذا النقاش الذي لا تحبّذ زيطان الانخراط فيه، وجدت نفسها تخوضه "مُكرهةً" بعد الهجوم الكبير الذي تعرضت له قبل سنوات، عقب عرض مسرحية بعنوان "ديالي" (ملكي)، في إحالة إلى العضو الأنثوي. هذا العمل الذي استوحته من "مونولوج المهبل" (1996) للأميركية إيف إينسلر، وتتبعت فيه قصص نساء مغربيات، وتمثّلهن لعضوهن الجنسي، لقي انتقادات واسعة لا من فئات "حراس المعبد القديم" فحسب، بل كذلك من مهنيين في المجال الفنّي.
"لا أعتقد أن في أعمالي جرأة زائدة، أو استفزازاً. ولا أقوم بالاختلاق، بل أطرح المشاكل القائمة، وغالبية النصوص المكتوبة هي ثمرة لقاءات مع نساء". نعيمة زيطان تكشف الواقع المغربي في مسرح "الأكواريوم"
عن النقاش الواسع الذي أعقب عرض المسرحية، تقول زيطان إنها تنتصر لحرية التعبير والنقد. "إذا كنا نؤمن بالاختلاف، فينبغي تقبّل الانتقادات كلها شرط ألا تصل إلى التحريض على العنف، أو التخوين، ومس أعراض الناس، أو أن تصدر عمّن لم يشاهد، إنما سمع فحسب، وبلغه ما بلغه. غير ذلك فالنقد مرحّب به جداً، وهو حقّ مكفول للجميع، خصوصاً في المجال الفني".
وفي ردّها على الانتقادات الدائمة الموجّهة نحو اختياراتها الفنية، تقول: "لا أعتقد أن في أعمالي جرأة زائدة، أو استفزازاً. ولا أقوم بالاختلاق، بل أطرح المشاكل القائمة، وغالبية النصوص المكتوبة هي ثمرة لقاءات مع نساء، وشهادات لهن، وورشات استماع إليهن، وما قمت به هو نقل حكاياتهن إلى الخشبة". وتسترسل: "إذا لم نستطع رؤية واقعنا، أو سماع حقيقتنا، ومعرفة تناقضاتنا، ولم نعمل على علاج أمراضنا، فلست أنا من يتحمّل المسؤولية". وتضيف: "الشرّ موجود، والاغتصاب موجود، والبيدوفيليا حاضرة، والحل ليس في أن نتحدّث عنها بطريقة SOFT، أو أن نتفاداها، بل أن ننقلها كما هي".
خلال هذا "النقل"، أو حمل الرسالة التي تتبناها، تصطدم زيطان دائماً بانتقادات أخرى تتعلّق بتركيزها على القضيّة والنّص، وتهميشها الجوانب الفنّية، الأمر الذي ترفضه الفنّانة المغربية بشكل قطعي، وتستدلّ على ذلك بفوز "أكورايوم" بالعديد من الجوائز العربية والدولية عن فئات الإخراج، والتشخيص، والسينوغرافيا، قائلة إن من يقدّمها "هي لجان تحكيم لا تهتم بالقضية، أو بالرسالة، إنّما بالعمل الفني والمسرحي أساساً"، وتضيف مستدركةً: "حتى إذا كان هذا صحيحاً، فهو ليس عيباً إذ لا يجب أن ننسى أنّنا في بلد يعاني من الأمّية، وعندما تريد التوجّه نحو الرمز والإيحاء تكون مقيّداً نوعاً ما، فالجمهور المستهدف من العمل يلعب دوراً كبيراً في هذا الموضوع".
الذهاب إلى "المغرب المنسي"
جمهور "أكواريوم" لا يشملُ فقط الفئات الأكثر حظاً في محور "المغرب النافع"، بل تعملُ الجمعية على تقريب المسرح من الشرائح المجتمعية المختلفة، إذ تنظّم جولات فنّية لعرض أعمالها في مختلف الفضاءات؛ في الأحياء الشعبية، والبوادي، والقرى، والمدارس، وحتى داخل السّجون. في هذا السياق تشدّد قائدة كتيبة "الأكورايوم" على مسألة دعم القطاع الفنّي، مشيرةً إلى أنّ الاستهلاك الفني والثقافي ضعيف في ظل غياب ثقافة شراء تذاكر حضور عرض فنّي، أو تخصيص جزء من الراتب لشراء روايات، ودواوين شعرية. وأضافت: "ينبغي على الدولة دعم العاملين في المجال، وتمكين مختلف الفئات من الوصول إلى الثقافة والفنون، وترسيخ أهميتهما خصوصاً في صفوف الأطفال والشباب".
بعد هذا المسار الطويل من المواجهة مع الفئات الأكثر تطرفاً داخل المجتمع، والرهان على المسرح من أجل التغيير، تكشف زيطان عن رضاها عما قدّمته، مؤكّدة أنها لا تزال وفيّة لأفكارها، وقناعاتها، على الخطّ نفسه، كاشفةً لرصيف22 عن انفتاحها خلال الأشهر القليلة الماضية على المجال السينمائي، وعلى جمهور جديد، إذ قامت بإخراج أول فيلم سينمائي طويل لها يحمل عنوان "بالمقلوب"، وسيعرض قريباً، وعن كونها في صدد كتابة سيناريو فيلم ثانٍ، ستنتهي من العمل عليه مع نهاية السنة الجارية.
المخرجة المسرحية نعيمة زيطان
وحول ما إذا كانت ستحمل معها انشغالاتها المسرحية، وقضاياها، إلى السينما، شدّدت على أنها تحملهما معها أينما حلّت وارتحلت، إن في العمل من خلال الجمعيات الحقوقية، أو من خلال المسرح، أو السينما، مع تأكيدها على أنها لن تترك أبا الفنون، وستعمل في المجالين معاً: "سأواصل الاشتغال في المسرح بالتوازي مع السينما، لأني لا أستطيع العيش من دون التعامل مع نصوص مسرحية، ومع ممثلين على الخشبة، ومع أنفاس الجمهور، وحميمية اللقاء على الخشبة. المسرح يسكُنني". هكذا سيدخل "الأكواريوم" بحار السينما المغربية، وزيطان كلها أمل في أن تلاقي سفينتها الفنية الرياح التي تشتهيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...