كان يوم أحد عادياً في حيّ الدويلعة الدمشقي. مصلّون يجتمعون في كنيسة مار إلياس، يتلون صلواتهم، يتهامسون بخشوع، ويضيئون شموعهم على نيّة حياة أفضل، وبلد أهدأ. لم يكونوا ينتظرون معجزةً. كلّ ما أرادوه لحظة روحية في وسط بلد لم يعُد يعرف السكينة.
ثم دوّى الانفجار.
انتحاري يدخل الكنيسة، يطلق النار، يفجّر نفسه، ويترك خلفه عشرات القتلى والجرحى. لم يأتِ من "الغيب"، ولم يسقط من السماء، ولم يكن حدثاً عابراً. التفجير لم يكن لحظةً، بل حصيلة.
كالعادة، بعد كل مجزرة، يبدأ السباق نحو الإجابات السطحية: من المسؤول؟ هل هو "داعش"؟ هل الجهة الفلانية؟ كم عدد الضحايا؟ لكن أحداً لا يطرح السؤال الحقيقي: من صنع هذا القاتل؟ من جهّزه نفسياً وفكرياً وعقائدياً ليقتل مصلّين في بيت عبادة؟
لأنّ الانتحاري لا يُولَد وهو يضع الحزام الناسف في خزانته بدل الحقيبة المدرسية، ولا يولد وهو يعرف طريقه إلى الجريمة، بل يُربّى على الكراهية، على الخوف، على الشك، على تصنيف الناس، وعلى فكرة أنّ الآخر عدو بالفطرة.
لا يُولَد الانتحاري وهو يضع الحزام الناسف في خزانته بدل الحقيبة المدرسية، ولا يولد وهو يعرف طريقه إلى الجريمة، بل يُربّى على الكراهية، على الخوف، على الشك، على تصنيف الناس، وعلى فكرة أنّ الآخر عدو بالفطرة.
من يصنعه؟
وحين ينمو الحقد لا يعود القاتل استثناء، بل نتيجة متوقعة. يبدأ الأمر بطفل يسمع في المدرسة أنّ "المخالف في العقيدة كافر"، ثم يسمع في البيت أنّ "الطائفة الأخرى خانت"، ثم يسمع من رجل دين أنّ "الجهاد طريق إلى الجنّة"، ومن زعيم ميليشيا أنّ "الآخر خطر يجب إزالته"، ثم يتعرّض لإذلال ممنهج على يد جهاز أمني يمثّل طائفةً أو جهةً سياسيةً، ثم يجد في لحظة ما يداً تمتدّ له وتقول: "تعال انتقم. تعال نذهب إلى الجنّة".
هذا القاتل أيضاً قد يُنتَج في بيئة إسلامية متطرفة، أو في جهاز أمني سلطوي، أو من خطاب طائفي متشدد، سواء كان منسوباً إلى دين أو عقيدة أو أيديولوجيا سياسية. الخطر ليس حكراً على جماعة بعينها، بل على أيّ فكر يرى في الآخر تهديداً وجودياً يجب سحقه.
حينها، لا يكون الموت هو المأساة. المأساة أنّ هذه السلسلة تمرّ دون أن يتدخّل أحد.
في بلد مثل سوريا، حيث تفكك النسيج الاجتماعي تحت ضربات الحرب، وانتعش خطاب الطائفية على أيدي السلطة، والمعارضة، والميليشيات، والإعلام، لا يمكن استغراب أن يصل شخص ما إلى لحظة يفجّر فيها نفسه وسط أبرياء.
شرائح مختلفة من المجتمع ساهمت بدرجات متفاوتة في إنتاج هذا الفعل، سواء بالصمت بدافع الخوف، أو بعدم الاكتراث، أو بالتبرير، أو حتى بالتواطؤ غير المباشر، ما مهّد الطريق أمام هذا النوع من الجرائم. ولا يعني ذلك إدانةً جماعيةً لكل فرد، بل الإشارة إلى مسؤوليات موزّعة على مؤسسات وأشخاص وصيغ تفكير سادت وسُكِت عنها طويلاً.
هذا القاتل أيضاً قد يُنتَج في بيئة إسلامية متطرفة، أو في جهاز أمني سلطوي، أو من خطاب طائفي متشدد، سواء كان منسوباً إلى دين أو عقيدة أو أيديولوجيا سياسية.
التحريض حكماً
لطالما كان خطاب الكراهية في هذه المنطقة أداةً سياسيةً فعالةً؛ من زرع الخوف بين الطوائف، إلى شيطنة "الآخر"، إلى تسويق ثنائية "نحن" في مواجهة "هم". لم يكن ذلك وليد الحروب فحسب، بل جزءاً من بنية الحكم ذاتها، ومنهجاً محسوباً للسيطرة.
قبل الحرب، كان النظام يستخدم الطائفية كفزّاعة: حافظ على المظاهر، وترك الشكوك تنمو تحت الطاولة. بعد الحرب، أصبح اللعب مكشوفاً. سلّح طوائف، أطلق يد ميليشيات، سمح لمنابر دينية محددة بالتحريض، مقابل ولاء أعمى.
لكن الطائفية لا تخدم طرفاً واحداً. من استفاد منها في لحظة، قد يدفع ثمنها لاحقاً، حين تصبح ديناميكيةً مستقلةً، قادرةً على توليد القتل بلا أمر مباشر.
ومن لم يعترض على رجل دين يقول: "العلوي نجس"، أو "السنّي إرهابي بالفطرة"، أو "المسيحي كافر"، سواء بصمت أو خوف أو جهل، يجب ألا يستغرب حين يدخل أحدهم إلى كنيسة أو جامع ويحوّله إلى مقبرة.
انتحاري يدخل الكنيسة، يطلق النار، يفجّر نفسه، ويترك خلفه عشرات القتلى والجرحى. لم يأتِ من "الغيب"، ولم يسقط من السماء، ولم يكن حدثاً عابراً. التفجير لم يكن لحظةً، بل حصيلة.
الإرهاب لا يملك عنواناً واحداً
وعلى امتداد الجغرافيا السورية المنكوبة، وحتى في المرحلة التي سبقت سقوط النظام، لم تختلف نتائج التفجيرات باختلاف القوى المسيطرة على الأرض. دائماً كانت النتيجة واحدةً: الضحايا دائماً مدنيون، أطفال، نساء، أبرياء في أسواق ومدارس وأماكن عامة.
وعليه، التفجير الذي استهدف كنيسة مار الياس، لم يكن الأول من نوعه، ولن يكون الأخير ما لم نواجه الحقيقة: كل تبرير للعنف الطائفي هو تمهيد لانفجار قادم. وكل خطاب يحرّض على الآخر هو مشاركة غير مباشرة في الجريمة.
من يبرر تفجير كنيسة بحجة أنّ الطائفة الفلانية "سكتت" عن جرائم النظام، لا يختلف في منطقه عمّن يبرر قصف جامع، سواء بحجة وجود "خلايا نائمة" أو بذريعة الثأر أو الانتقام أو تحقيق الأمن. كل هذه التبريرات تصبّ في مجرى واحد: تحويل دور العبادة إلى ساحة تصفية حسابات، لا أماكن صلاة وسلام. والأهم، أن نكفّ عن رؤية "الآخر المختلف" كإنسان.
ماذا بعد؟
الجريمة الإرهابية في كنيسة مار الياس هي مؤشر خطير على أنّ الجمر ما زال تحت الرماد. وما لم نُعرِّ الأسباب البنيوية لهذا العنف من تربية، إلى إعلام، إلى سياسة، إلى دين، فسنظلّ نحصي الجثث، ونتظاهر بالدهشة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.