شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
السيارة كهوية ثقافية

السيارة كهوية ثقافية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 21 يونيو 202103:45 م

يتحدث علماء اللغة والسيميائيون عن أن كل نظام علاماتي، لغة. فعلامات المرور لغة، واللباس لغة، وتقاليد الطعام وعاداته لغة، ونمط المسكن لغة. لكن ثمة ما يندرج تحت نظام علاماتي يتجاوز حدود كونه لغة، إلى ما هو أبعد من ذلك. فالسيارة التي ارتبطت من جهة وظيفتها بالجانب العملي الحياتي للإنسان، هي لدى عدد من الشعوب ذات وظيفة مزدوجة. فهي بالإضافة إلى وظيفتها الأساسية التي وُجدت من أجلها، امتلكت وظيفة أخرى، إذ صارت حاملةً للقيم، والمعتقدات، والعادات، والموروث، لدى الأفراد والجماعات، وذلك عن طريق تحولها إلى فسحة للقول، على صورة عبارات وملصقات. تلك العبارات والملصقات هي عبارة عن خطاب ثقافي بالمعنى الواسع للثقافة. فهي تتساوى في كونها خطاباً، مع الأدب. ولذلك يمكن التعامل معها بالرؤية والأدوات ذاتها. فكما درست مدام دي دوستال الأدب كحامل للقيم والتقاليد والأخلاق، وجاراها في ذلك إسكاربيت في كتابه "سوسيولوجيا الأدب"، فإن هذه الملصقات والعبارات هي أكثر قدرة على التعبير عن الفردي والجماعي في المجتمع.

وحين نتحدث عن السيارة فإننا لا نريد من ذلك أن نحصر الأمر بالسيارة فقط، بل ننظر إليها كجزء من كل، هو منظومة النقل التي يستخدمها الإنسان في حركته، من طائرات، وقطارات، ومترو، وعربات شحن، وسيارات، بفئاتها كلها، الكبيرة والصغيرة.

معظم الذين ارتقوا على المستوى العلمي، اتخذوا من سياراتهم الخاصة وسيلة للتعريف بأنهم متميزون معرفياً عن غيرهم من أفراد المجتمع

فمثلاً، نلاحظ أن شركات الطيران الوطنية على مستوى العالم تحرص على تقديم الهوية الثقافية والاجتماعية الوطنية، من خلال زي المضيفات، وأنواع الأطعمة والمشروبات، والأفلام الوثائقية عبر الشاشات الداخلية. ولعل محطات المترو هي المكان الأرحب لهكذا أنشطة تعريفية بالهوية الثقافية الوطنية، عبر الجداريات والفسحات التي تشهد أنشطة فردية وجماعية هي جزء من تلك الهوية.

وتُعد السيارة النموذج الأنصع لحاملات الهوية الثقافية للأفراد والجماعات، وتنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة. ويُرد ذلك إلى أمرين: كمّي ونوعي. فهي أكثر وسائط النقل عدداً، وهي ملكية خاصة بالأفراد، والأخير يمنح الفرد في كلي النوعين أن يعبّر من خلالهما عن مكوناته الذاتية ثقافياً. فيعكس من خلال الملصقات، والرسوم، والأدوات، والعبارات، ذاته الفردية من جهة، والذات الجماعية للمجتمع الذي ينتمي إليه من قيم أخلاقية، ومعتقدات، وعادات، وتقاليد اجتماعية من جهة أخرى. فمن خلال السيارات، التي تصنف كوسائل نقل جماعية مملوكة في غالبيتها للقطاع العام، هناك الجانب الإعلاني المأجور. فهو يدل على المستوى الذي وصل إليه المجتمع في مجال الإعلان، وعلى توجهات المجتمع الاستهلاكية أو الإرشادية. فمن خلال التعرف على ذلك، يمكنك أن تعرف شيئاً مهمّاً عن الهوية المعرفية والحضارية لهذا المجتمع. أما في ما يخص سائقها، فهو يتعامل معها كفرد لا يختلف في نظرته إليها عمن يمتلك سيارته الخاصة إلى حد بعيد. فمثلاً، حين تركب سيارة أجرة في مجتمع شرق متوسطي، وترى سائقها، بغض النظر إن كان صاحبها أم سائقاً لها فحسب، يعلّق عليها مشغولات الخرز من سبّحات، وأطواق، وحروز، تعرف مباشرة أن هذا السائق ممن أمضوا فترة ليست قصيرة في السجن، حيث تعلم تلك الأشغال. وبالتدقيق أكثر في تلك المشغولات الخرزية، وما دُوّن عليها، عن طريق تعدد ألوان الخرز، من عبارات، يمكن أن تُحدد معتقده الديني، ومستواه الثقافي، وموقفه من الإنسان والحياة ككل. وربما تكتشف من خلال تلك العبارات تجربته الحياتية على المستوى الاجتماعي، والعاطفي، والوجداني. وما قيل في خصوص هذا النموذج الإنساني ينطبق على بقية النماذج. فالسيارة تتحول إلى مرآة لصاحبها، بما فيها تلك التي تخلو من الإشارات، والعبارات الدالة. فغياب هذه العلامات والإشارات هو أيضاً بمثابة علامة على الهوية المعرفية لصاحبها. فوفقاً لما هو متعارف عليه في مجتمعاتنا، معظم الذين ارتقوا على المستوى العلمي، اتخذوا من سياراتهم الخاصة وسيلة للتعريف بأنهم متميزون معرفياً عن غيرهم من أفراد المجتمع. ولذلك تراهم أكثر الأفراد حرصاً على إظهار الملصقات الرسمية (النقابية) على لوحات سياراتهم وزجاجها، والاكتفاء بها حتى تبقى ظاهرة ولا تضيع بين غيرها من الملصقات.

أغلب السودانيين يفضلون السيارات ذات اللون الأحمر. ويربط بعض علماء النفس والمحللين الاجتماعيين ذلك بطبيعة الإنسان السوداني الحارة، فاللون الأحمر يعكس تلك الطبيعة البيولوجية

ولا يقتصر الأمر على الملصقات فحسب، بل إن اختيار لون السيارة بحد ذاته له بعد فردي وجماعي. ففي مجتمعات أنظمة الحكم الشمولية، ولا سيما في بلدان الشرق الأوسط، كان اللون الأسود هو اللون الخاص بالسيارات الرسمية الخاصة بالشخصيات النافذة في تلك الدول، وكان يُمنع على العامة اقتناء سيارات بهذا اللون، وقد بقي هذا معمولاً به كعرف من دون أن يصدر كقانون في عدد من الدول الشرق أوسطية، كالعراق وسورية، لفترة طويلة، الأمر الذي ولّد شغفاً بهذا اللون لدى أفراد المجتمع. بعض الإحصائيات غير الرسمية تقول إن عدد السيارات السوداء في العراق أكثر من مثيلاتها في الوطن العربي كله. وكذلك الأمر في لون زجاج السيارة، فكثير من أصحاب السيارات، ولا سيما فئة الشباب، ومن هم من بيئات محسوبة على السلطة الحاكمة، أو يلوذون بها، يفضّلون الزجاج الأسود (الفيميه) على الزجاج العادي. في حين أن أغلب السودانيين يفضلون السيارات ذات اللون الأحمر. ويربط بعض علماء النفس والمحللين الاجتماعيين ذلك بطبيعة الإنسان السوداني الحارة، فاللون الأحمر يعكس تلك الطبيعة البيولوجية.

ومن الحوادث الطريفة التي تندرج في إطار ما نحن في صدده، أن أحد المواطنين السوريين المقيمين في أمريكا جاء في زيارة إلى سورية. وحين أراد العودة إلى أمريكا، مرّ على أحد محال بيع زينة السيارات، واشترى عدداً من الملصقات الدارجة في سورية، والتي عليها عبارات كـ"عين الحسود فيها عود"، و"عين الحاسد تبلى بالعمى"، و"لا تلحقني مخطوبة"، وملصقات عليها نضوة حافر حصان، أو صورة خرزة زرقاء على شكل عين يخترقها سهم، وغيرها مما يمكن رؤيته على السيارات. وما إن وصل إلى أمريكا، ذهب إلى سيارات أصدقائه السوريين من دون أن يعلمهم بعودته، وألصق على كل سيارة ملصقاً، وحين رأى أصدقاؤه تلك الملصقات، عرفوا أن صديقهم عاد من سورية.

ويُعد "التك تك" أحد أهم وسائط النقل في عدد من دول العالم الثالث، ولا سيما في البلدان ذات الكثافة السكانية العالية، والبنية التحتية المتخلفة، أو في البلدان الفقيرة، كبنغلادش، والهند، وباكستان، ومصر، والعراق. ونظراً إلى رخص ثمنها، وصغر حجمها، وسهولة تصنيعها، فقد انتشرت انتشاراً واسعاً، وهذا ما وفّر فرصة لبروز عدد من الأسماء المتخصصة في تزيينها بالرسوم، والعبارات، حتى صار يُطلق على بعضهم ألقاباً كـ"الفنان الشامل"، مثل المزينة نانسي زيدان من مصر.

إذاً، وسائط النقل عامة، والسيارات خاصة، تُعد إحدى أهم حاملات الهوية الثقافية الوطنية للشعوب، وهي جديرة بإيلائها اهتماماً من قبل الدرس اللساني، والسوسيولوجي. وأذكر أن أستاذ علم اللغة في جامعة اللاذقية السورية المرحوم سمير كجو، كلّف أحد زملائنا في ثمانينيات القرن الماضي ببحث ميداني، يقوم فيه بدراسة العبارات المدوّنة على شاحنات نقل البضائع التي كانت تؤم مرفأ اللاذقية، وشرحها، وتبيان دلالاتها الاجتماعية، وتحديد البيئة، أو الشريحة الاجتماعية لأصحابها، من خلال تلك العبارات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard