إغلاق شوارع أمام المارة والسيارات هنا، وحظر تجوال هناك، بيوت وعمارات تسقط بلا حروب أو قصف مباشر، فما الذي يحصل حالياً في غزة، التي تتغير ملامحها ومعالمها في كل ساعة؟
ما زالت تداعيات الحرب على غزة مستمرة، ومتجددة في الانهيار المتتالي للمباني والأبراج، حتى ما بعد إعلان إسرائيل وقف إطلاق النار.
"بيوت وعمارات تسقط فجأة متأثرة باهتزازها خلال الانفجارات".
بيوت وعمارات تسقط فجأة متأثرة باهتزازها خلال الانفجارات التي حدثت أثناء العدوان الاسرائيلي عليها. قرابة 15 شهيداً تم انتشالهم بعد انتهاء العدوان الأخير على غزة في آيار/ مايو عام 2021 من تحت أنقاض البيوت أو الأنفاق.
أحدثت آلة الحرب الإسرائيلية "زلزالاً اصطناعياً" بفعل أسلحة "الدمار الشامل"، بحسب وصف تغطيات محلية وعربية، شعر بها الأهالي في القطاع.
وقد أدت هذه الهزات لتساقط بنايات خلال العدوان دون قصفها بشكل مباشر، قضى على إثرها قرابة 50 مدنياً، وهنالك ما يقارب ضعفَا هذه البنايات آيلة للسقوط بأية لحظة، قد تُخلف ضعفَي ذلك العدد من الضحايا، لذا أصبح لزاماً إسقاطها فوراً بعد إخلاء مربع كامل من ساكنيه.
والجدير ذكره أن الحرب على غـزة أدت لارتقاء قرابة 240 شهيداً، وأكثر من 1200 جريحاً. ذروة عدد الشهداء خلال الحرب كان في "شارع الوحدة" وسط مدينة غزة، بعدما قصف الاحتلال شوارع الإسفلت بصواريخ ارتجاجية، صُنفت بأنها ضمن "أسلحة الدمار الشامل"، وهذا ما أحدث هزة أرضية شعر بها سكان المدينة. أدت هذه الهزة لتفتيت الأساس لعدة بنايات سقطت على ساكنيها، وخلفت 49 شهيداً في ليلة واحدة.
وبعد انتهاء الحرب، جاءت شركات دولية متخصصة في مجال البناء، وعلى رأسها "الهيئة العربية الدولية لإعمار فلسطين" لتُعاين المناطق التي تم قصفها بالصواريخ الارتجاجية، فتبين لها أن هنالك عمارات تسكنها عشرات الأسر قد تفتت قواعدها ومالت بشكل واضح، ولكنها ما زالت واقفة، وكان ذلك من حظ سكانها، بحسب مسؤول الإعلام في الهيئة العربية الدولية للإعمار بفلسطين، معتز عاشور.
شارع الثورة في محيط السفارة المصرية وسط مدينة غـزة
"كوارث لم نشهدها"
"عدد البنايات التي تم اتخاذ قرار بإزالتها حتى الآن 11، منها ست في شارع الوحدة وسط مدينة غزة، وواحدة في شارع النصر، وأخرى في حي الشيخ عجلين غرب مدينة غزة، وثلاث في مناطق شمال القطاع، والعدد مرشح للزيادة إذ يخوض الخبراء والمختصون ولجان هندسية تتبع لنقابة المهندسين الأردنيين بحثاً معمقاً في فحص الأساسات لعدد من المباني، التي تعرض محيطها للقصف بصواريخ الدمار الشامل"، يقول معتز عاشور لرصيف22.
ويُضيف: "هذه البنايات إن بقيت على ما هي عليه الآن فقد تسقط بأية لحظة، وستؤدي لكوارث لم تشهدها الأرض الفلسطينية من قبل، خاصة أن شارع الوحدة يُعتبر أهم ملتقى الطرق لكافة سكان القطاع وهو الأكثر حيوية، ويزوره يومياً الآلاف من المواطنين".
"خلال الحرب تعرضت أربع بنايات للسقوط، وخلفت 49 شهيداً عندما كانت المنطقة خالية نتيجة الخوف من القصف، فما بالك إن سقطت على رؤوس المارة في هذا الوقت والزبائن الذي يُقدر عددهم هناك يومياً بأكثر من 3000 مواطن كل 24 ساعة".
ومن المتوقع أن تؤدي إزالة هذه البنايات إلى تشريد أكثر من 75 أسرة، كما ستؤدي إلى تغير ملامح غزة بشكل كامل، وخاصة أن شارع الوحدة يُعتبر الفاصل بين أحياء القطاع وبين مستشفى غزة الرئيسي "الشفاء" من ناحية الغرب، ومن ناحية الشرق يؤدي الطريق إلى حي الشجاعية، وهو الحي الدال على هوية غزة وعاصمتها، وكذلك ملاعب غزة الوحيدة (ملعب اليرموك وفلسطين)، ومن ناحية الجنوب يؤدي لشارع عمر المختار ومنطقة الرمال، وهي تجمع الأبراج، حيث تعتبر أرقى مناطق غزة.
"هذه البنايات في شارع الوحدة إن بقيت على ما هي عليه الآن فقد تسقط بأية لحظة، وستؤدي لكوارث لم تشهدها الأرض الفلسطينية من قبل"
ستؤدي تلك التغيرات إلى فتح شوارع جديدة، وإزالة معالم أخرى لفتح طريق يؤدي للأسواق والمستشفيات وساحل بحر غزة وشارع عمر المختار، وكافة الجامعات وغيرها، بعدما كان "شارع الوحدة" هو المفترق الرئيسي لهذه الأماكن.
جرافات في شارع الثورة بمحيط السفارة المصرية وسط مدينة غـزة
وكل برج منها يتكون من 14 طابقاً، كما تم تركيب دعامات لـ10 بنايات كعمارة "الخولي" في حي الشيخ عجلين جنوب غربي غزة، ومُنع السكان من دخول هذه البنايات والأبراج حتى استقرار أعمال الدعامات فيها، فلو تم التأخر عن تركيب هذه الدعامات لأسبوع واحد فقط، لاتخذ قرار بإزالتها فوراً كما حصل لبنايات شارع الوحدة وشارع النصر.
"إزالة العمارة كلها"
في عمارة "عجور" التي يتم إزالتها حالياً بشارع الوحدة تضررت أملاك ومصالح الكثير من الأسر الفلسطينية، يقول السيد رمضان صالحة، يملك معرضاً للطباعة والألوان والأدوات المكتبية في نصف الطابق الأول من العمارة: "لقد عادت إلينا الحياة بعد خروجنا أحياء من الهجمة الصهيونية على غزة، وبعدما علمنا ببقاء مصدر رزقنا وقوت يومنا ومصالحنا التجارية، ولكن لم يدم هذا الارتياح كثيراً".
ويتابع: "بعد انتهاء الحرب بـ 72 ساعة، تم إبلاغنا بقرار إزالة العمارة بشكل كامل، فهذا المعرض كلفنا تجهيزه من ديكور وفرش وإضاءة قرابة 13 ألف دولار أمريكي، وحالياً لا توجد لدينا الإمكانيات والميزانية المتاحة لإعادة افتتاح معرض جديد بمكان آخر".
صور لجرافة تزيل المباني الآيلة للسقوط في قطاع غزة المحاصر
"الخسائر لا تقف عند أصحاب المشاريع فقط، بل عند العاملين أيضاً، فأين سيذهب 10 موظفين بعد إغلاق الشركة، وكيف سيُطعمون أسرهم وأطفالهم؟!" يتساءل عاشور.في السياق ذاته، تحدث الدكتور طارق الدواهيد عن وجهته البديلة، وهو صاحب معرض "ماستر" لاستيراد وتوريد أدوات الماكياج والتجميل وأجهزة المساج والرياضة، وهي الشركة الوحيدة المتخصصة في هذا النوع بغزة، بعد قرار إزالة عمارة "المزيني" في شارع الوحدة أيضاً، التي تقع مقر شركته بها.
""نحن لا نرى اللحمة إلا في عيد الأضحى عندما يتبرع به لنا الجيران، فكيف سأفتح محلاً جديداً يساوي ثمنه جبالاً وأطناناً من الخبز؟"
ويوضح المزيني في حديثه لرصيف22: "بعد خسارتنا 40 ألف دولار جراء تشقق الأعمدة، وسقوط بعض الحجارة والجبس على المنتجات، استكملت الخسارة المريرة بعدما علمنا أن العمارة هذه من ضمن العمارات المقررة إزالتها وليس ترميمها بسبب تفكك أساساتها".
ويضيف: "قمنا بالإعلان عن افتتاح محل آخر مجرد خبر دون فعل، حتى نحافظ على اسم الشركة الوحيدة، ولكن كيف يُمكن لنا أن نملك الجرأة بطمأنة أُسَر يعمل 19 من أبنائها عندنا، بأن الشركة لن تتخلى عنهم نتيجة الخسائر الكبيرة التي حلت بها، فإبلاغهم بهذا الخبر غير متبع أخلاقياً في المجتمع الفلسطيني، وخاصة أنهم يعيشون على أمل بافتتاح مقر جديد للشركة وعودتهم للعمل".
ويُكمل المزيني: "بل ما مصير أكثر من 50 صاحب محل يُحضرون منتجات تسويقهم من معارضنا لأنها الوحيدة التي تملك ترخيصاً بإدخال هذه البضائع للبلاد، وفي كل محل منها 10 عمال يُعيلون بمرتباتهم أسرهم".
"لا نرى اللحمة"
"نحن لا نرى اللحمة إلا في عيد الأضحى عندما يتبرع به لنا الجيران"، يقول الخياط أبو عاصم، الذي يملك محلاً صغيراً جداً في إحدى البنايات التي يتم إزالتها حالياً، موضحاً أنه يعمل قرابة 16 ساعة يومياً لتأمين ثمن ربطة الخبز.
ويتساءل: "كيف سأفتح محلاً جديداً يساوي ثمنه جبالاً وأطناناً من الخبز؟".
إزالة عمارة حديثة من "حجر قدسي" نتيجة ميلانها بفعل الصواريخ الارتجاجية، في "حي الشيخ عجلين"، غرب مدينة غـزة
بالعودة للحديث عن هذه الصواريخ، بحسب تحقيق نشرته قناة عربية، وتداولته الصحافة المحلية، فإنها صواريخ مجنحة من طراز GBU، تم استعمالها لأول مرة في الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 لضرب مواقع شديدة التحصين تحت الأرض، لأن رأسها المتفجر يزن أكثر من طنين من المتفجرات، التي أدت لإسقاط العاصمة بغداد، وكافة محافظات العراق في مدة وجيزة.
ولكن إسرائيل استعملت النسخة المطورة من هذه الصواريخ. يزن الرأس المتفجر للصاروخ الواحد منها ثلاثة أطنان، كلها استعملت في مدينة صغيرة لا تُعادل حجم شارع واحد من شوارع بغداد، حيث كان صاروخ واحد كفيل بهدم برج "الجلاء" المكون من 14 طابقاً وسط مدينة غزة، وصاروخان فقط منها دكّا برج "الشروق" الذي يقع على مقربة من برج "الجلاء"، وقد نُفذت بها مئات الغارات على شوارع الإسفلت، والأراضي الزراعية في حرب غزة الأخيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...