شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
لم نمت في الحرب لكن قلوبنا لم تنجُ

لم نمت في الحرب لكن قلوبنا لم تنجُ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 31 مايو 202111:50 ص

الموت لا يفجع الموتى، بل يفجع ويوجع الأحياء. والقصف الصاروخي لا يوجع الشهداء فحسب، بل آثاره النفسية تطال الناجين وتقتلهم في اليوم ألف مرة. وهذا كان حالنا جميعاً في غزة، من دون استثناء، خلال الحرب الإسرائيلية الشرسة، إذ كانت أقصى آمال المدنيين العزّل أن يستيقظوا أحياءً، خصوصاً بعد كل ليلة دامية مرعبة بفعل مئات الغارات الصاروخية على المناطق المأهولة بالسكان. وهذا ما حدث مع عائلتي، إذ نقطن في عمارة سكنية ملاصقة لبرج الجوهرة في شارع الوحدة في حي الرمال وسط قطاع غزة.

في الليلة الأولى من الحرب، كنت في الإذاعة التي أعمل فيها، أندد على الهواء مباشرة بما يحدث في القدس، وحي الشيخ جرّاح حباً لقضيتنا الأولى والأخيرة فلسطين، وتضامناً معها. ذهبت إلى المنزل، وانتظرت موعد آذان المغرب لتناول الفطور في أواخر أيام شهر رمضان. وما هي إلا دقائق حتى فوجئنا بالأخبار المتداولة: تحذير إسرائيلي لقصف أول برج سكني في غزة؛ برج هنادي. وبعدها بدأ القصف التحذيري، وتحولت المنطقة وكأن زلزالاً ضربها. فلا شيء هنا غير الموت والدمار ورائحة البارود والنار.

سمعت أصواتاً في الحي تصرخ: "انزلوا بسرعة، انزلووووو بدهم يقصفوا برج الجوهرة"، وهو البرج الملاصق لبيتنا. بسرعة، نزلت أنا ووالدتي وليس معنا إلا أوراقنا الثبوتية والمهمة. نظرت للمرة الأخيرة إلى منزلنا، وإلى حيّنا، وتحركنا باتجاه منزل أحد أفراد عائلتي، تاركين أغراضنا وذكرياتنا وحياتنا في منزلنا. وشاهدت عبر شاشات التلفزيون قصف البرج بالفعل، بأكثر من ستة صواريخ إف16 الحربية. كدت أفقد الوعي من البكاء، وأنا أتخيل أن البرج انهار على منزلي. كانت ليلة بشعة جداً بالنسبة إلي.

نظرت للمرة الأخيرة إلى منزلنا، وإلى حيّنا، وتحركنا باتجاه منزل أحد أفراد عائلتي، تاركين أغراضنا وذكرياتنا وحياتنا في منزلنا. وشاهدت عبر شاشات التلفزيون قصف البرج بالفعل، بأكثر من ستة صواريخ إف16 الحربية

بعد يومين من قصف البرج، استطعت أن أذهب إلى بيتي حيث شاهدت الدمار بعيني؛ كل شيء في المنزل مدمّر ما عدا الجدران. صورنا وذكرياتنا والهدايا العزيزة على قلبي في غرفتي لا معالم لها. كانت الصدمة بالنسبة إلي كبيرة جداً. وحتى هذه اللحظة، بعد انتهاء الحرب بأيام، لا نستطيع العودة إلى منزلنا. فلا كهرباء فيه ولا ماء ولا إنترنت. ومشاهد الركام حولنا تقتلنا كلما اقتربنا من الحي حيث شارع الوحدة الذي كان أكثر الشوارع استهدافاً في هذه الحرب. لم تترك الصواريخ حجراً ولا شجراً إلا واستهدفته ليلاً، لنفجع نحن كمواطنين وكصحافيين نهاراً بمشهد الدمار والركام وانتشال جثت الشهداء من تحت الأنقاض، ونحاول من تحت القصف المتواصل، وعلى الرغم من أوجاع قلوبنا، أن نستمر في نقل الحقيقة للعالم، وكشف جرائم ومجازر إسرائيل وهي تدمر المباني، وتقتل أطفالاً أبرياء، وتقصف عشوائياً على المدنيين، وتهجّر المواطنين من أحيائهم، وتهدم مكاتب وأبراجاً للصحافة، وتستهدف المؤسسات المدنية.

عشنا ثلاثة حروب في غزة، لكن هذا العدوان كان الأكبر مادياً ونفسياً، إذ دُكّت مئات المنازل دكاً، وشُطبت عائلات بأكملها من السجل المدني، ومن نجا بجسده لا يزال قلبه يخفق قهراً وخوفاً وحزناً وهو يتذكر ليالي الرعب العنيفة، خصوصاً نحن سكان شارع الوحدة في حي الرمال. لا يمكن أن تمحو الأيام من ذاكرتنا ليلة نفّذت فيها المقاتلات الحربية أكثر من 40 غارة، مستهدفة بيوتاً مدنية آمنة. كان صوت القصف مرعباً، والغارات تدكّ إسفلت الشارع، وصوت صراخ النساء والأطفال يملأ الحي الذي فقد 47 شهيداً جلّهم من عائلة أبو العوف. استمر البحث عن الضحايا تحت الركام يومين، وكنّا نشاهد رجال فرق الدفاع المدني يزيلون الأنقاض، بمساعدة أهالي الحي. تارةً يسمعون صراخ طفلة ليكتشفوا أنها الناجية الوحيدة، وتارة يسمعون صوت عائلة بأكملها، والأصعب كان صوت شاب ظل لساعات يستغيث، وعندما وصلوا إليه فقد حياته.

عشنا ثلاثة حروب في غزة، لكن هذا العدوان كان الأكبر مادياً ونفسياً، إذ دُكّت مئات المنازل دكاً، وشُطبت عائلات بأكملها من السجل المدني، ومن نجا بجسده لا يزال قلبه يخفق قهراً وخوفاً

انتهت الحرب، لكن صور بشاعتها مستمرة في البيوت المهدمة، والشوارع التي تغيرت ملامحها، وعشرات المحال التجارية التي دُمّرت وتكبد أصحابها خسائر فداحة، بالإضافة إلى الوضع الإنساني الصعب لمئات العائلات التي كنا نشاهدها خلال تغطيتنا الصحفية وهي تهرب سيراً على الأقدام لتحتمي من القصف المدفعي الذي كان يدكّ شمال القطاع فوق رؤوسها، لتنزح إلى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا". ليس شرطاً في غزة أن تكون صحافياً لتنقل ما يحدث. فكل فلسطيني يصل الليل بالنهار لمراقبة الحدث، ونقل التفاصيل عبر "السوشيال ميديا".

في غزة كانت تنام العائلات بالتناوب، نصفهم ينام، ونصفهم الآخر يستيقظ خوف أن يكونوا هم أيضاً هدفاً لصاروخ جديد يغتال حياتهم وأمنهم وأمن صغارهم. من نجا في غزة من الصواريخ، لم ينجُ من الألم النفسي. لكن الفلسطيني في غزة صمد بحسده العاري، وظل صابراً في مواجهة أعتى الآليات العسكرية في الشرق الأوسط، بينما كان العالم يتابع بصمت، ويشجب بخجل.

صبر الناس في غزة، وشدّوا من أزر بعضهم البعض. وكان عزاؤهم الوحيد هو التضامن الشعبي الدولي معهم من ناحية، وعودة اللحمة إلى الجسد الفلسطيني من ناحية ثانية، والتي ظهرت جليةً في الهبّة الشعبية، والتظاهرات، والإضراب يوم الثلاثاء 18 أيار/ مايو الذي عمّ كل المدن والمخيمات وأراضي الـ48، حيث كان الاشتباك والالتحام المباشر مع الاحتلال الاسرائيلي تأكيداً على أن غزة والضفة والقدس وكل الأراضي المحتلة، سواء في الحرب على غزة، أو في الاعتداء على القدس، أو في انتهاك أي مدينة، هي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له بقية الأعضاء بالسهر والحماية.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard