شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"لم نشعر يوماً أننا غرباء"... عن قوميات تعيش في دمشق منذ مئات السنين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 13 أغسطس 202110:57 ص

"شو ها الكنية غريبة؟، يا ترى ها العيلة شوام؟".

كثيراً ما يسأل السوريون هذا السؤال في حال التقوا بأشخاص من "كنيات غير مطروقة". فماذا يعرف السوريون عن القوميات الأخرى، التي تشاركهم العيش في بلدهم منذ مئات السنين؟ عن تراثهم، عاداتهم وتقاليدهم؟ هل فكّر أحد يوماً بمعرفة جاره ذي الكنية المختلفة، دون اللجوء إلى الويكيبيديا أو الإعلام؟ خصوصاً أن الأخير يبثّ ما يريد من معلومات تناسب سياساته فقط، فعندما تحضر سيرة الشيشان مثلاً، تتربع في المخيلة مباشرةً صورة مقاتلين بذقون حمراء طويلة، ويُنسى البلد العريق والحضارة القديمة.

الشيشان، الباكستان، الشركس، التركمان وغيرهم الكثير، قادتهم الحروب والهجرات إلى سوريا منذ مئات السنين، اندمجوا مع المجتمع السوري وباتوا جزءاً لا يتجزّأ منه، تحضرُ بلادهم الأصلية في الأحاديث واللغة أحياناً، وقد حافظ العديد منهم على تراثهم بمكوناته المختلفة.

ماذا يعرف السوريون عن القوميات الأخرى، التي تشاركهم العيش في بلدهم منذ مئات السنين؟ عن تراثهم، عاداتهم وتقاليدهم؟


شعب "الوينخ"

الوينخ تعني "مِلَّتُنا" أو "قومنا" باللغة الشيشانية. هاجر شعب الشيشان إلى سوريا من منطقة القوقاز على دفعات، أواسط وأواخر القرن التاسع عشر، بسبب حملات التهجير القسرية الروسية آنذاك، وكانت وجهتهم الأولى القنيطرة والجولان جنوباً والجزيرة شمالاً ومنها إلى محافظات أخرى، وبدأ المهاجرون يندمجون مع المجتمع السوري، وقدر عددهم عام 2008 بخمسة وثلاثين ألفاً.

"نحن مواطنون سوريون ومعنا الهوية السورية"، على حد تعبير هاشم خارشو (60 عاماً)، وهو سوري من أصول شيشانية، كما أنه من الجيل الثاني للشيشان الموجودين بسوريا، ويقطن اليوم في إحدى ضواحي دمشق بعد تقاعده من مهنة التدريس.

ويتحدث هاشم بفخر عن بلده الأصلي، ويشير إلى أن "الكنيات الغريبة" أو "الاسم الثاني" تعود لأسماء المناطق التي هاجر منها الشيشان، ويتكنّى بها المهاجرون كي يعرف الأولاد والأحفاد لأي منطقة تعود أصولهم، وهكذا يحاول أبناء هذه القوميات الحفاظ على جزء من إرثهم وماضيهم، والجزء الأهم منه هو اللغة.

الشيشان في الجزيرة شمال سوريا عام 1913

الشيشان في الجزيرة شمال سوريا عام 1913 - المصدر: موقع تاريخ سوريا المعاصر


نقطة تميز

يختلف التفكير بين جيل وآخر، وهو أمر منطقي بحكم تغيّر المجتمع وتطوّره، لكن هناك بعض العادات والتقاليد التي تتوارثها الأجيال، وفي طياتها ما يميّز مجتمعاً عن آخر. هند خارشو (25 عاماً)، سورية من أصول شيشانية، تفضل عندما تُسأل "من أين أنت؟" أن تجيب: "سوريّة من أصول شيشانية". تقول: "أفضّل أن أنتمي للمكانين".

تعلّمت هند من والدها اللغة الشيشانية، فهم يتكلمون ببعض مفرداتها بالمنزل، وتشير أن الكثير من العادات الشيشانية متشابهة مع عادات المجتمع السوري، لكن النقطة المنيرة جداً في العادات الشيشانية، و"المقدّسة" على حد تعبيرها، أن جميع الناس متساوون بالحقوق والواجبات، فلا يوجد عند الشيشان نظام طبقي، وتخلو الحياة عندهم من أي تبجيل أو تفخيم حتى في الكلام والخطاب للشخص مهما علا قدره، فلا يوجد مصطلحات مثل "سيد"، لذلك لا أمير ولا ملك عندهم، وإذا كان للتبجيل أن يحضر في الخطاب فالمصطلحات محددة مثل "والدي، والدتي، أستاذي"، وغالباً ما توجّه لكبار السن.

ومن بين العادات المتوارثة، والتي يُعتبر شعب "الوينخ" حازماً فيها، احترام كبار السن، والخطأ هنا ممنوع، وهو واجب مقدس على حد قول هند، لأنهم أصحاب الأمر بالزواج والميراث وحل النزاعات، ومن أوجه احترام كبار السن عند الشيشان والمستمرة حتى اللحظة، تشرح هند، وهي مدرّسة لغة إنكليزية: "عندما يدخل شخص كبير بالسن إلى مجلس يجب على الصغار أن يقفوا حتى يأذن لهم كبير السن بالجلوس، وهي عادة كانت موجودة قديماً في المجتمعات السورية وخصوصاً بالأرياف".

خلال الحرب السورية خصوصاً والحروب بالبلاد الأخرى عموماً، قدّم الإعلام صورةً ذهنية عن الباكستانيين، كمقاتلين يحملون أسلحة، يرتدون جلابيب قصيرة وبناطيل واسعة وشعرهم طويل. لكن أبو حسن، الباكستاني الستيني المقيم في دمشق منذ ثلاثين عاماً، يرفض هذه الصورة


زي ولغة وصورة نمطية "مجحفة"

قريبة جغرافياً الحدود بين الشيشان والباكستان. هذا القرب الجغرافي يجعل بعض العادات والتقاليد المتوارثة متشابهة مع بعضها، ومختلفة أحياناً.

وخلال الحرب السورية خصوصاً والحروب بالبلاد الأخرى عموماً، قدّم الإعلام صورةً ذهنية عن الباكستانيين، كمقاتلين يحملون أسلحة، يرتدون جلابيب قصيرة وبناطيل واسعة وشعرهم طويل. لكن أبو حسن، الباكستاني الستيني المقيم في دمشق منذ ثلاثين عاماً، يرفض هذه الصورة.

دخل أبو حسن لسوريا بقصد الدراسة، وبقي فيها وأسّس أسرة، وما زال يحافظ على العادات والتقاليد الباكستانية في الأفراح والأتراح، وخصوصاً عندما يجتمع بأشخاص من أهل بلده الأصلي، ويُقدّر عددهم ببضع مئات في سوريا، يتكلمون اللغة الباكستانية، يرتدون الزي الخاص بالبلاد ويتبعون العادات الباكستانية بالضيافة مثلاً، حتى أن ابنه الثلاثيني حسن، وهو مصور بإحدى القنوات التلفزيونية، يرتدي الزي الباكستاني الخاص عند قدوم الضيوف من أهل البلد الأصلي.

لكن حسن يعتبر أن والده مقصّر بتوريثه اللغة الباكستانية، فهو لا يجيدها إطلاقاً، ويتواصل مع أقربائه في قريته البعيدة بالإنجليزية، ويعتقد أن سبب تقصير والده هو اختلاط العائلة، فهو من أم لبنانية وتزوج من سوريّة، لكن حسن سيجبر والده على تعليم ابنه لغة بلده الأصلي، رغم أنه يقول: "الشام بتعنيلي أكتر من الباكستان".


الرقصة شركسية

تتمايل سارة طالبة كلية الإعلام بجامعة دمشق في بهو الكلية، وتشرح لأصدقائها: "هيك منرقص نحنا، منتدرّب ع هي الرقصة من نحنا وصغار، وبيقولوا كمان الشركسيات حلوات كتير"، وتضحك.

دخل الشركس إلى سوريا عام 1878، واستقروا في كل المحافظات السورية، والأكثرية في القنيطرة جنوب البلاد. وفي دمشق وريفها، استقروا في مناطق أهمها مرج السلطان وأحياء المهاجرين وركن الدين وقدسيا وحرستا، وهم لا يعتبرون أنفسهم إلا سوريين وجزءاً من سوريا وهويتها.

شركسي في إحدى الكتائب العسكرية بحمص عام 1940

شركسي في إحدى الكتائب العسكرية بحمص عام 1940 - المصدر: موقع التاريخ السوري المعاصر

يشير والد سارة الذي رفض ذكر اسمه، إلى أن الشركس شكلوا عام 1948 أثناء الحرب ضد الاحتلال الصهيوني نسبة 16% من الأفراد المقاتلين، ولهم عاداتهم وتقاليدهم التي يحافظون عليها وتورّث للأبناء، والهدف، حسب قوله، أن تبقى الأجيال الجديدة محافظة على عادات هذه القومية، ويقدّر عدد الشركس اليوم في سوريا بحوالي 150 ألفاً، بعد هجرة الآلاف منهم خلال سنوات الحرب.

تنتظر سارة أعراس الأقارب لتفتتح مع صديقها العرس برقصة شركسية، قوامها رؤوس الأصابع والتوازن والموسيقى الشركسية، ويوجد عدة أنواع للرقص الشركسي، وبالغالب كل يحفظ ويتعلم ما يريد منها، على حد تعبيرها.

وبما يخصّ تقاليد الأعراس يرفض الشركس زواج الأقارب، لكن يفضلون أن تكون الزوجة أو الزوج من نفس القومية، لكن لا يلتزم الجميع اليوم بهذه العادات، وهدف الزواج من نفس العرق الحفاظ على القومية وعاداتها.

بشكل مشابه تتحدث هند عن أن المجتمع الشيشاني مختلط ومنفتح، فالرجال والنساء يجلسون بنفس المجلس، ويتعاملون بأخوّة كبيرة، وهم يفضلون الزواج من نفس العرق للحفاظ على النسل، كون الشيشان أقلية في سوريا، لكن لا يوجد إكراه بالزواج. ويوافق حسن بموضوع الزواج ورغبة المجتمع بأن تكون الزوجة من نفس القومية لذات السبب، رغم أن حبه لزوجته كان أقوى من تقاليد وعادات القوميات.

طلاب شراكسة أمام باب مدرسة التجهيز الأولى بدمشق عام 1946

طلاب شراكسة أمام باب مدرسة التجهيز الأولى بدمشق عام 1946 - المصدر: موقع التاريخ السوري المعاصر


نحن ودمشق

لم يشعر كل من أبو حسن الباكستاني الأصول، وهاشم خارشو الشيشاني الأصول، وسارة الشركسية، أنهم غرباء في دمشق يوماً، ولم ينقل أحد من أجدادهم أنهم تعرضوا لصعوبات في العيش فيها، خلال كل المراحل التاريخية التي مرت على سوريا.

في الحروب كانوا جزءاً من المجتمع، حتى في المؤسسات الحكومية لهم نصيب من الوظائف، أما على صعيد التعاملات الاجتماعية، فيشير أبو حسن إلى أن جاره منذ 30 عاماً دمشقي من "جوّا السور"، ويعيشون كأنهم عائلة واحدة ويحترم كل منهم عادات وتقاليد الآخر، ويعقب: "عموماً كوننا مسلمين فتفاصيلنا الدينية مشتركة، وأنا أتقن العادات الاجتماعية الشامية كثيراً وأصبحت جزءاً من حياتي وحياة عائلتي، وفي التعاملات الاجتماعية العامة مع الجيران والمحيط الذين هم من غير قوميتنا".

لم أفكر يوماً بالعودة إلى الشيشان، فليس لي هناك إلا تاريخ أهلي. دمشق هي مدينتي، وخلال الحرب لم أشعر سوى بأنني سورية، فهذه البلد هي التي ربتني وكبرتني وعلمتني، ولم أسمع من أي أحد عبارة من قبيل: لماذا بعد أنت هنا؟ أو: ما شأنك لتعطي الرأي المعين؟

ومنذ عام 2011 كان للناس الذين يعيشون في دمشق من قوميات أخرى، رأيهم بما يحدث، كونهم جزءاً من البلد ويحملون هويته. تقول هند بأنها، رغم صعوبات الحرب، لم تفكر يوماً بالعودة إلى الشيشان، "فليس لي هناك إلا تاريخ أهلي. دمشق هي مدينتي، وخلال الحرب لم أشعر سوى بأنني سورية، فهذه البلد هي التي ربتني وكبرتني وعلمتني، ولم أسمع من أي أحد عبارة من قبيل: لماذا بعد أنت هنا؟ أو: ما شأنك لتعطي الرأي المعين، سواء سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً؟"، حالها حال سارة، فهي لم تشعر يوماً إلا أنها جزء من دمشق بكل تفاصيلها.

هذا الارتباط لم يمنع هند وحسن وبقية المتحدثين من أن يحلموا بالتعرف على البلدان التي تنتمي عائلاتهم لها. فحلم هند أن تزور الشيشان لتتعرف عن كثب على عادات أهلها، وتزور قريتها التي تتكنّى بها، لكن حسن عندما صمم على زيارة مدينته التي يتغنى بها والده، منعته كورونا.

يقول الإعلام الكثير ويروي التاريخ أكثر، وما ترويه حكايات حسن وأبيه، وهند، وهاشم، وسارة، عن آلاف المنتمين لقوميات أتت لسوريا واستقرت فيها وباتت جزءاً من مجتمعها، هو الأكثر صدقاً عندما يقولون: "نحن سوريون، سوريا بلدنا، ودمشق التي ولدنا وعشنا فيها هي مدينتنا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image