بين وجوه المشاة في ميدان Mosplein، تستطيع أن تميّز بوضوح ملامح المصريين من ملامح غيرهم من أبناء جنسيات أخرى. لا تُخطئهن العين. سيّدات من مختلف الأعمار يجئن ويذهبن، أمّ تجرّ عربة طفلها، وأخرى تضع على رأسها "شاشاً مصرياً" وتمشي بصحبة حفيدتها، وفي خلفيتهن لوحة تظهر فيها العذراء مع المسيح الطفل ويوسف النجار وهم يبحرون في مركب يشق طريقه في نهر النيل.
عين حورس ترشد قاربهم، وامرأة فرعونية ترعى المركب المبحر بمفتاح الحياة، بينما الملائكة ترسل مباركاتها على رحلة العائلة المقدسة. لوحة من الموزايك من تنفيذ الفنان المهندس عادل نصيف.
موضع اللوحة، وهو واجهة كنيسة قائمة هناك، يشير إلى انتماء هذه الكنيسة الأول. الدين لا ينفصل عن الوطن. ومهمة الكنيسة في الخارج أكبر لأنها تشكّل وطناً بديلاً لرعاياها.
نقلوا وطنهم معهم
منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي، تتوافد جموع من المصريين على هولندا، بحثاً عن فرص أفضل للمعيشة والعمل. اختار البعض منهم الاستقرار وتأسيس حياة على أرض هذه المملكة الأوروبية التي تبعد آلاف الكيلومترات عن الوطن.
ولكنهم لم يتركوا وطنهم تماماً بل نقلوه معهم. احتاج الأقباط المصريون إلى كنيسة قبطية ترعى شؤونهم وشؤون أطفالهم الدينية، فتم استقدام الأب أرسانيوس باراموسي لتولي الأمور الكنسية في هولندا بموافقة البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وقتها، فكان تأسيس الكنيسة القبطية المصرية في أمستردام، في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1985.
على الطراز القبطي، أنشئت هذه الكنيسة. حرص العاملون عليها على إعطائها طابعاً معمارياً مصرياً، وظهر ذلك في معلقاتها وزخارفها ووحدات الإضاءة فيها.
ومنذ ذلك التاريخ، تعاقبت أجيال من المصريين على الكنيسة المصرية للعبادة والتواصل والاطلاع، فشكلت وعيهم الثقافي والمعرفي بوطنهم، وأصبحت الرابط والوسيط بين أجيال جديدة وبين هوية الآباء الدينية والثقافية.
ليست مجرد دار عبادة
وجود الكنيسة خارج مصر وضع على عاتقها مهامَّ أكبر من كونها داراً للعبادة. تصفها السيدة نرمين بأنها الهواء والماء اللازمين للحياة في الغربة. تقول لرصيف22: "أتينا إلى هولندا بطرق شتى، ولكننا لم نشعر أننا تركنا كنيستنا في مصر، لقد جلبناها معنا إلى هنا".
نرمين هي واحدة من مصريات يحرصن على تربية أبنائهن في كنف الكنيسة. تَعلّم أولادها الثلاثة اللغة العربية والترانيم باللغة العربية والصلوات على الطريقة الأرثوذوكسية المصرية، كما وفّرت لهم الكنيسة الكتب الدراسية والاختبارات لإتقان اللغة العربية، ما جعلهم يشعرون بأنها بيتهم الثاني من حيث الاهتمام والتربية والطقوس الدينية.
بين وجوه المشاة في ميدان Mosplein في أمستردام، تستطيع أن تميّز بوضوح ملامح المصريين من ملامح غيرهم من أبناء جنسيات أخرى. لا تُخطئهن العين، وفي خلفيتهم لوحة تظهر فيها العذراء مع المسيح ويوسف النجار وهم يبحرون في مركب يشق طريقه في نهر النيل، وترشده عين حورس
يخرج الأطفال من دروس اللغة ملمّين بقواعد القراءة والكتابة باللغة العربية بالإضافة إلى الخط العربي، كما تحرص الكنيسة على استخدام اللغة العربية في القداديس باعتباره اللغة الأولى للمصلين فيها، وتقدّم دروساً في اللغة الهولندية للوافدين الجدد إلى هولندا.
وتنظّم الكنيسة اجتماعات لأولياء الأمور لمناقشة الأمور التي يصعب على العائلات التعامل معها في التربية، فتشترك مع الأهل في تربية أبنائهم.
في ما يخص الحياة الاجتماعية للمصريين، تعمل الكنيسة على تقديم الثقافة الهولندية للوافدين لمساعدتهم في الاندماج وإيجاد فرص عمل مناسبة وفقاً لما صرح به نيافة الأنبا أرساني، أسقف الكنيسة، لرصيف22.
تذكر إحدى رعايا الكنيسة لرصيف22 أن القائمين على الصلاة يحرصون أيضاً على التحدث بالهولندية مع صغار السن الذين لم يتسنَّ لهم تعلم العربية، فالمهم في المقام الأول هو التقارب الديني والتواصل والحرص على الصلاة أياً كانت اللغة.
وتعمل إدارة الكنيسة أيضاً على توفير فرص العمل لمَن يحتاجها وتقدّم التأمين الصحي لمَن لا يتحصل عليه، بالإضافة إلى خدمات الترجمة والاستشارات القانونية.
دار لكل المصريين
في الكنيسة محل تجاري يقدّم المنتجات المصرية التي يتعذر على المصريين إيجادها في هولندا في المواسم والأعياد مثل الكحك والبسكويت، وأسماك الرنجة المدخنة في عيد الفطر، ومنتجات رمضان، بالإضافة إلى عسل قصب السكر والخبز والأرزّ المصري والشاي المصري.
هذا المحل يشكل قيمة بحد ذاتها بالنسبة إلى آية علي، المصرية المقيمة في هولندا. كما الكنيسة نفسها، يشعرها بأنها لم تبتعد عن الوطن. "أطمئن لرؤيتها"، تقول لرصيف22.
"أتينا إلى هولندا بطرق شتى، ولكننا لم نشعر أننا تركنا كنيستنا في مصر، لقد جلبناها معنا إلى هنا"... عن الكنيسة المصرية القبطية في أمستردام والحياة الاجتماعية التي تدور حولها
وفقاً لأحد زوار هولندا من المصريين، تفتح الكنيسة أبوابها للزوار من المصريين وتقدم لهم الاستضافة، لأغراض الصلاة وأداء العبادات، كما تستقبل الرعايا من طوائف الأرثوذوكس الشرقيين كالسريان الأورثوذكس والأرمن الأرثوذوكس من بلاد الشام وكذلك الإثيوبيين والإريتريين الأرثوذوكس أيضاً، وفقاً لتصريحات نيافة الأسقف لرصيف22.
ويزور الكنيسة كثيرون من الهولنديين والبريطانيين نتيجة للزيجات المختلطة، كما يزورها مهتمون بالتعرّق على المعتقدات الأخرى وتاريخها.
الأعياد المصرية
بسبب الفروق بين الطقوس الدينية الأرثوذوكسية والكاثوليكية، لا سيما في الاحتفالات الدينية، بالإضافة إلى خصوصية الأعياد الدينية في مصر وتميّزها بطابع خاص، تحيي الكنيسة المصرية تراث الأرض الأم في هولندا.
تروي إحدى رعايا الكنيسة ذكريات احتفالها بـ"حدّ الزعف" (أحد السعف أو أحد الشعانين) في الكنيسة المصرية في أمستردام، وتقول لرصيف22: "يمتلئ المكان بالسعف ويتبادلها الجميع كما يتبادلون التهاني والمباركات بالعيد، بالإضافة إلى تقديم وجبات الطعام المصرية يوم العيد واستقبال المهنئين".
وتذكر السيدة نرمين أن أولادها الذين ولدوا في هولندا تعلموا فن تشكيل السعف في كنف الكنسية. لا تنسى السيدة الثلاثينية ألحان ترانيم السيدة العذراء التي اعتادت سماعها وغنائها في مصر. تحرص على حضورها في أمستردام فتذكرها بمصر وتبعث في نفسها الحنين.
لا تخلو الأعياد في الكنيسة أيضاً من الصفة الرسمية. لا غنى عن مشاركة السفير المصري في الاحتفالات الدينية فيها، كل عام، بالإضافة إلى وفود السفارة المصرية من مدينة لاهاي ونشطاء الجالية المصرية الحريصون على المشاركة في الاحتفالات والمعايدات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...