مع بداية هذا العام، أطلقت مطرانية السريان الأرثوذوكس في مدينة حلب السورية مبادرة تهدف لتشجيع شباب الكنيسة السريانية على الزواج، من خلال تقديم تسهيلات كبيرة لهم خاصة على الصعيد المادي، وهو العائق الأكبر اليوم في وجه مخططات الشباب السوري للزواج، مع تدهور الأحوال الاقتصادية في البلاد بشكل غير مسبوق.
وتتضمن المبادرة، كما نشرت صفحة المطرانية على فيسبوك، تقديم مبلغ مالي كهدية، وتغطية إيجار منزل العروسين لعام واحد لمن لا يملك منزلاً في حلب والمناطق التابعة لها إدارياً، والتكفّل بأهم مصاريف المواليد الجدد لمدة عام، إضافة لتسجيل الأولاد مجاناً في مدارس الطائفة لسنوات المرحلة الابتدائية.
ولاقت المبادرة خلال الأسابيع التالية لإعلانها استحسان كثير من شباب الكنيسة السريانية في حلب، ووصفها عدد منهم لرصيف22 بأنها "حدث شعبي كبير ومبادرة جريئة وفريدة من نوعها، وقادرة فعلاً على مساعدة الشباب للإقدام على خطوة باتت غاية في الصعوبة اليوم في سوريا، ألا وهي الزواج"، حتى أن صداها وصل لأبناء المدينة المغتربين في مختلف أنحاء العالم كما يقولون.
من هؤلاء الشباب فادي مقديس أنطون، والذي تقدم فور الإعلان عن المبادرة للاستفادة منها، وتحديد موعد للزواج في آذار/مارس المقبل، الأمر الذي كان مؤجلاً بالنسبة له، ليس فقط بسبب تكاليف الزواج بحد ذاته، وإنما نتيجة القلق من صعوبات تأسيس عائلة، في وقت يعيش فيه السوريون على امتداد البلاد ظروفاً استثنائية.
ويتحدث فادي لرصيف22 عن أوضاع الشباب في حلب، حيث يشير إلى قلة فرص العمل وانخفاض الدخل الشهري، مقارنة بالاحتياجات المتزايدة وطول أمد الحرب، الأمر الذي دفع كثيرين منهم للسفر والبحث عن بداية جديدة وحتى إتمام الزواج خارج سوريا. "وصلنا لمرحلة سُدت فيها كل الطرق بوجهنا، لكن الكنيسة اليوم وبهذه الخطوة تساعد شبابها على التمسك بوجودهم وبقائهم. أتمنى أن تحذو بقية الكنائس وفي كل المحافظات حذو مطرانيتنا، حفاظاً على شبابنا من مغادرة البلاد"، يتابع الشاب الثلاثيني.
من أقدم كنائس سوريا
تعتبر الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية من أقدم الكنائس التي يعود تاريخها لبداية المسيحية، ويقع مقرها الأساسي في كاتدرائية مارجرجس بحي باب توما في دمشق، وتستخدم اللغة السريانية كلغة رسمية وأيضاً في كتابة مخطوطاتها الدينية، ولا توجد إحصائيات دقيقة لعدد أتباع الطائفة السريانية في سوريا، ومعظمهم من الأرثوذوكس، لكنه يتراوح بين عشرة بالمئة وثلاثين بالمئة من مسيحيي البلاد -وهم عشرة بالمئة من كامل عدد السكان، وعددهم قبل الحرب حوالي 23 مليون نسمة، ويعيش السريان بشكل أساسي في منطقة الجزيرة السورية شمال شرق البلاد، وفي مدن دمشق وحلب وحمص.
ويعود تاريخ وجود المكوّن السرياني في حلب للقرون الأولى للمسيحية، ولم ينقطع منذ ذلك الحين، مع تعرضه لتغييرات عدة على مر الزمن، كما يقول المعتمد البطريركي على أبرشية حلب وتوابعها للسريان الأرثوذوكس، مار بطرس قسيس، لرصيف22.
ففي القرن السادس عشر وما بعده، ونتيجة عدة عوامل تناقص عدد السريان في حلب، ثم تجددت الحياة في أبرشية المدينة بانتقال عدد كبير من العائلات السريانية الأرثوذوكسية من جنوب شرقي تركيا، وخاصة ديار بكر وأورفا وأطرافها، ماردين وقراها ومديات وما حولها، بعد الحرب العالمية الأولى، فاهتم السريان بإعادة بناء الكنائس والمدارس والمزارات، ومنها كاتدرائية مار أفرام السرياني في حي السليمانية، والتي تتميز بلوحات جدارية تعتمد على المخطوطات السريانية، وأيضاً باحتوائها على مخطوطات سريانية قديمة للغاية، وكنيسة مار جرجس بحي السريان، الذي نشأ وتطور وسط حلب خلال الفترة ذاتها ليأخذ اسمه من هذا المكوّن بالذات.
تعتبر الكنيسة السريانية الأرثوذوكسية من أقدم الكنائس التي يعود تاريخها لبداية المسيحية، ويقع مقرها الأساسي في كاتدرائية مارجرجس بحي باب توما في دمشق، وتستخدم اللغة السريانية كلغة رسمية وأيضاً في كتابة مخطوطاتها الدينية، ولا توجد إحصائيات دقيقة لعدد أتباع الطائفة السريانية في سوريا
وتكمن خصوصية المكوّن السرياني في حلب، وفق شرح مار بطرس قسيس، في أنه يتألف من طبقة مثقفة علمياً وأخرى مثقفة مهنياً، "فجراء الهجرة المريرة والقسرية لسريان حلب الحاليين من أرض آبائهم وأجدادهم لأرض جديدة، ابتداء من القامشلي والحسكة في سوريا ومروراً بحلب وانتهاء بمصر، نتج عن ذلك حالة من الفقر الشديد والمعاناة، وهو ما دفع بأبناء طائفة السريان ليكونوا مهنيين وصناعيين محترفين ومثقفين على درجة عالية، وهذا ما أدى لاستمرار وجودهم حتى اليوم".
ويتحدث عدد من المؤرخين بالفعل عن السريان بطريقة مشابهة، فيقول الأب جان موريس فييه الدومينيكي، في كتابه "الكنيسة السريانية الشرقية"، بأن "هذه الكنيسة قاومت مختلف أنواع الاضطرابات على مر القرون، وتمكنت من البقاء بفضل الأطباء والكتّاب الذين حافظوا على جزء كبير من تاريخها"، ويقول مؤرخ آخر، وفق ما يذكره موقع الدراسات السريانية: "السريان شعب نشيط، عامل، مقتصد، لذلك قلما ترى فيه متسولاً. وبالرغم من الأزمات الشديدة التي مرّت به ما برح محافظاً على مركزه الاقتصادي لحبه الدأب في العمل".
من جانب آخر، شهد السريان في سوريا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، موجات من الهجرة خارج البلاد، مدفوعين بأسباب مختلفة على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حيث قصدوا على الأغلب بعض البلدان الأوروبية، إضافة للولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا، ولا توجد إحصائيات دقيقة عن عددهم في المهجر، لكنه يقدر بمئات الآلاف، وبات لهم حضور في الكثير من المدن الغربية التي يتواجدون فيها بجاليات كبيرة العدد.
لماذا هذه المبادرة اليوم؟
خلال سنوات الحرب التي عاشتها سوريا، ونتيجة الهجرة بشكل رئيسي إلى جانب عوامل أخرى، تناقص عدد المسيحيين في البلاد بشكل ملحوظ، ولا تتوافر إحصائية رسمية حول هذا التناقص، إلا أن وزارة الخارجية الروسية نشرت منتصف العام 2016، ما يفيد بأن عدد المسيحيين في سوريا بلغ حينها 1.2 مليون شخص، من أصل 2.2 مليون مسيحي كانوا يقطنون البلاد قبل عام 2011.
وتقدّر نسبة ما خسرته حلب من مكوّن السريان الأرثوذوكس 40 بالمئة، كما يشير مار بطرس قسيس في حديثه، ويتحدث عدد من السريان عن أن عدد العائلات السريانية الأرثوذوكسية في المدينة اليوم لا يتجاوز الألفين مع صعوبة تقديم عدد دقيق لهم.
وتقدّر نسبة ما خسرته حلب من مكوّن السريان الأرثوذوكس 40 بالمئة، كما يشير مار بطرس قسيس في حديثه لرصيف22، ويتحدث عدد من السريان عن أن عدد العائلات السريانية الأرثوذوكسية في المدينة اليوم لا يتجاوز الألفين مع صعوبة تقديم عدد دقيق لهم
"لقد عانى سريان حلب ما عاناه كل الشعب السوري أثناء الحرب، ومن أقسى الحوادث التي يمكنني ذكرها خطف المطران يوحنا إبراهيم، رئيس أبرشية حلب وتوابعها للسريان الأرثوذكس، في 22 نيسان/ أبريل 2013، دون أن نعلم عنه شيئاً حتى اليوم. إضافة لذلك، أثرت هجرة سريان حلب هرباً من الحرب وتبعاتها على الدور المجتمعي التاريخي لهم، فكان نقصانهم قاسياً جداً وتعويضه كان الأصعب، حيث أن الذين هاجروا كانوا من الطبقة المثقفة والمؤثرة"، يضيف المتحدث.
نتيجة كل ذلك، ومن خلال تواصل مار بطرس قسيس بشكل خاص مع شباب الكنيسة، وجد بأن جميع أنواع المعونات المقدّمة سابقاً من مساعدات إنسانية وإغاثية لجميع أطياف المجتمع، ومنها دعم فرص العمل وبناء القدرات، لم تساهم بتشجيع الشبان على الزواج وتأسيس عائلة، "وهو ما شعرناه أيضاً من تدني نسبة الزيجات في السنوات الأخيرة، ما شجعنا كي نخطو خطوة متقدمة للأمام، ونطرح المبادرة التي نرغب بأن تؤثر إيجاباً في نسبة الزواجات لهذه السنة والسنوات القادمة"، يقول.
ومع ردود الفعل الإيجابية من أبناء الكنيسة، وتقدم الكثير من الشبان لتسجيل أسمائهم وإتمام طقس الزواج المنتظر، يرى مار بطرس قسيس أهمية أن تتشجع الجهات الدينية الأخرى والجمعيات الخيرية على البدء بالتفكير بهذا المنحى، بغرض تخفيف أعباء الأزمة عن السوريين ومساعدتهم على التغلب على نتائجها المدمرة للإنسان والمجتمع، على حد تعبيره.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون