تستلهم المجتمعات المتدينة الضوابط التي تحكم التعاملات اليومية للأطفال من التعاليم الدينية، فتصبح هذه التعاليم المرجع التربوي، واختلاف البيئة الاجتماعية التي يعمل فيها الأهل على تربية أبنائهم دينياً تضعهم أمام عوائق لم يسبق لهم التعامل معها، خصوصاً وإن تعلق الأمر بتشكيل اعتقادات الطفل عن الإله، في بلدان هي ليست أوطانهم الأم.
سألنا بعض الأهالي العرب والمسلمين المقيمين في هولندا عن هذه العوائق، وحصلنا على إجابات مختلفة.
بالنسبة لرانيا، وهي أم مصرية عشرينية مقيمة في أمستردام، تكمن الصعوبات في شرح الاختلاف عن الآخر، وإيجاد إجابات صادقة لتساؤلات الأطفال، أما بالنسبة لإيمان، وهي أيضاً مصرية مقيمة في أمستردام، فالمشكلة هي في الصور النمطية المرتبطة بالإسلام، وتظهر جلية حينما تشارك طفلتها ذات الأعوام الخمسة مشاعرها مع الآخرين عن دينها وانطباعها عن الله، فتشعر الأم الأربعينية أن كلمات ابنتها لا تلقى دائماً رداً إيجابياً بسبب الصور النمطية للمرأة المحجبة.
اختلاف البيئة الاجتماعية تضع الأهل أمام عوائق لتربية أبنائهم دينياً بعيداً عن أوطانهم الأم.
تواجه فاطمة شرارة مشكلة أخرى تتعلق بالتمييز، فاسم ابنها الأكبر "مسلم" يعرّضه للتنميط والرفض. تقول: "شعرت بالتمييز من مدرس الفصل المسؤول عن ابني، وعرضه ذلك لأزمات نفسية وسبب له الشعور بالوحدة، فاضطررت لتغيير المدرسة". وعلى صعيد آخر تجد صعوبة في تقبل مشاركة أطفالها بأعياد القديسين الهولندية، كما أنها ترغب بمداومة الأطفال على صلاة الجمعة في المسجد، ما يتعارض مع التقويم الأسبوعي في هولندا.
وترى رحاب أمين، معلمة اللغة العربية في مؤسسة نور الهدى بمدينة آرنم، أن اللغة هي من أهم المشكلات التي تواجه القائمين على التربية من أصول مهاجرة، فأطفال الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين يجدون صعوبة في تعلم اللغة وهي بوابة إدراك الدين، لا سيما إن كان هناك قصور في مستوى معلمي العربية كلغة ثانية في مساجد هولندا، إلى جانب طغيان التبعية الثقافية على الدينية، وهو الأمر الملحوظ في انفصال الجالية التركية ونظيرتها المغربية، وهما الفئتان المسلمتان الأكبر في هولندا، ما يجعل القائمين على التربية متمسكين بالاتجاه ذاته في توارث العادات والتقاليد.
اللجوء للمؤسسات الدينية
يعتقد بعض الأهالي بأن اللجوء إلى شخص أكثر دراية بالدين سيضمن غرسة أكثر ثباتاً في أطفالهم أمام الاختلاف الفكري في المجتمع، لذا تلجأ بعض الأسر المتدينة في المجتمعات الغربية إلى المؤسسات الدينية المتخصصة، وتوكل إليها مهمة تربية الأطفال دينياً."معلمة أطفالي تعلمهم الآداب الإسلامية اليومية، والسيرة النبوية والأذكار إضافة لتحفيظ القرآن"، تقول فاطمة، وتخشى من أن تقصّر في نقل التعاليم الدينية للأطفال إذا ما تحملت هي المسؤولية كاملة، ففضلت أن تلجأ لخبيرة تربوية ومحفّظة قرآن من وطنها الأم.
هناك فئة من المنشقين عن الفكر الديني التقليدي من الجيلين الأول والثاني يصعب عليها التخلي عن التربية الدينية التقليدية، فتختار إخفاء قناعاتها الدينية المستجدة عن أطفالها، وتشترك بشكل ما في عملية التلقين الديني، ويرجع ذلك لقدسية الالتزام الديني ورسوخه في أنفسهم
وتشير رحاب، وهي باحثة في مجال اللغة العربية للناطقين بغيرها، إلى أن لجوء البعض للمؤسسات الدينية يهدف للتأكد من إتقان أطفالهم اللغة العربية، باعتبارها بوابة التواصل مع الوطن الأم والعقيدة، بينما تفضل فئة أخرى حفظ القرآن وتعلم أحكام الدين على اللغة. وترى أن هذه المؤسسات تخلق مناخاً موازياً للأطفال يوفر لهم البيئة الإسلامية دون انفصال عن المجتمع المحيط، عن طريق اتباع الأسس التربوية الحديثة كما المدارس الحكومية، بجانب إيجاد بدائل مناسبة وفقاً للمعايير الإسلامية، كالقنوات الكرتونية الإسلامية، وإنتاج الحلوى الخالية من الجيلاتين الحيواني وإصدار الكتب التعليمية باللغة العربية كلغة ثانية للأطفال.
ثمة شريحة أخرى لا تحبّذ توكيل آخرين بمهمة تشكيل الوعي الديني لأطفالهم. تشير رانيا إلى عدم ثقتها بأن الأفكار المنقولة إلى طفلها عبر الوسيط ستتفق مع اعتقاداتها، وتخشى بأن يتم حشو رأس الطفل بأفكار لا تتفق مع أسلوب حياة الأسرة، خصوصاً وأن المؤسسات برأيها لا تخضع لرقابة دينية تراجع المقرر المنقول إلى الأطفال.
يحمل رأي رحاب أسباباً مشابهة، فتشير إلى أن الدور الدينية بمعظمها منغلقة على ذاتها، لا تطور طرق التعليم المستخدمة مع الأطفال، ولا توجد رقابة على المحتوى، فتكون مسؤولية الإرشاد الديني بأكملها بيد المعلم.
وإضافة لنقص الخبرة لدى المعلمين، تشير رحاب إلى مشكلة أخرى هي حصر اللغة العربية في إطار الإسلام، فيميل المعلمون في غالبية مساجد هولندا لتقديم اللغة بصفتها مفتاح معرفة الدين، ما يجعلها مرتبطة في أذهان الغرب بأنها حكر على المسلمين.
التلقين الديني واللاديني
ترى الكثير من الفئات المتدينة في هولندا بأن حفظ القرآن أو اعتياد الذهاب إلى الكنيسة أسبوعياً هو المنهج الضامن لإيمان راسخ منذ الطفولة.تشير سامية، وهي أم مصرية ثلاثينية مقيمة في مدينة أوترخت، لاهتمامها بأن يحفظ طفلها الآيات القرآنية، وهو أمر من شأنه تيسير الفهم في مرحلة لاحقة. وتفيد رحاب بأن الطريقة التلقينية أو النورانية هي منهج متبع في بعض المدارس الإسلامية كطقس أسبوعي، والغرض منها إحاطة الطفل بالمناخ الإسلامي ليحاكي الثقافة ومفرداتها، وعيب هذه الطريقة برأيها أنها تعلّم حفظ القرآن دون فهم.
المصدر: صفحة مؤسسة نور الهدى
ينتشر التلقين اللاديني بكثافة في الأسر التي تنحدر من عائلات شهدت مجازر إبادة اليهود في هولندا. يروي ديمترك، وهو شاب هولندي عشريني، أن تجربة جده لأبيه في الحرب العالمية الثانية جعلت فكرة الإله مرفوضة داخل منزلهم، فربى الجد اليهودي سابقاً أطفاله ثم أحفاده على اللادينية، وبالرغم من تلقي ديمترك تعليمه في مدرسة كاثوليكية، لم تكن فكرة الاعتقاد بالإله رائجة داخل المنزل.
حقيقة، اختلاق، اعتقاد
"كيف تتحدث مع طفلك عن الإله" هو عنوان كتاب الصحفية الأمريكية ويندي راسل، وتناقش فيه مبادئ تشكيل الوعي بالإله عند الأطفال، معتمدة على التفريق بين ثلاث مفردات أساسية "الحقيقة، الاختلاق، الاعتقاد". الحقيقة هي الأمر المثبت، والاختلاق هو الأمر المصطنع، والاعتقاد هو ما يظن البعض أنه حقيقي بينما ينكره آخرون، ويشمل الأذواق والتفضيلات والأفكار التي يتبنى الناس مواقف متباينة منها، ومن ضمنها الأديان.
ولا يستطيع القائمون على التربية، برأي راسل، تنمية وعى حقيقي بالإله والدين لدى الأطفال دون امتلاك القدرة على التفريق بين المفردات الثلاثة، وإلا تتحول عملية التوعية الدينية إلى تلقين لا دور فيه للعقل.
كلما تعرض الطفل لأفكار الآخر بالنقد والتساؤل توسعت مداركه، ولا يحبذ إدخال المعلومات العقائدية للأطفال قبل السابعة، فالطفل لا يعي الفارق بين الواقع والخيال قبل هذا السن، ولا يجوز إدخال المبادئ الغيبية قبل أن يكون مستعداً لها
تتفق الخبيرة التربوية المصرية ندى القصبي مع هذا الرأي، وتضيف أن عدم فهم الأهل للعقيدة الدينية يؤثر سلبياً على الطفل، فيتمسكون بصغائر الأمور ويجعلونها ركناً دينياً أساسياً بينما يغفلون عن جوهر الدين، إضافة للخلط بين العادات الاجتماعية والأحكام الدينية، ما يسبب هشاشة في مفهوم الدين وصورة الإله عند الطفل، لا سيما في المجتمع الغربي الذي يختبر فيه المراهق مدى ثبات قناعاته الدينية أمام الآخر، فإن لم يكن الأساس قوياً تسهل الإطاحة بالثوابت.
الوصم الاجتماعي بسبب الدين
تقف راسل على سبب قد يدفع الأهل للإخفاق أمام تساؤلات الأطفال عن الدين، وهو الخوف من الوصم الاجتماعي، كأن يتبنى القائم على التربية اعتقاداً دينياً مغايراً لعائلته الممتدة، فيكون أمام طريقين، إما التصريح بموقفه الحقيقي ومن ثم المواجهة، أو إخفاء التعارض واللجوء إلى الحجب.هذا ما عاشته جوى، فتاة سورية مقيمة في هولندا، فتربيتها المختلفة عن عموم المجتمع السوري بين أب سني وأم علوية عرضتها للكثير: "اضطررت للتعامل مع تعليقات سلبية من أقراني في الدراسة حول ديانة أمي ومصيرها في الحياة الأخرى، كما تعرضت للرفض من عائلة أبي الذي رباني بشكل فكري مختلف عن سائر العائلة"، وتضيف أن مجهودات والديها في تربية منفتحة على جميع الأفكار أتت ثمارها لاحقاً، وجعلتها قادرة على تقبل الاختلافات الفكرية في هولندا.
ترجع ندى القصبي أسباب هذا الوصم للبنية المجتمعية، فمصلحة الأسرة في المجتمعات الشرقية تأتي أولاً، بينما تقوم المجتمعات الغربية على الفرد كنواة، ويعود تذبذب مفهوم الإله عند الجيلين الثاني والثالث إلى تمزق القائمين على التربية، بين تحقيق الوصايا الإلزامية التي تتطلع إليها العائلة الممتدة وبين قناعاتهم الدينية الخاصة وكيفية تطبيقها مع أطفالهم.
المصدر: صفحة مؤسسة نور الهدى
تتفق نظرية زوكرمان مع تجربة سراج، وهو أب مصري ثلاثيني مقيم في هولندا، ويتذكر أن الرادع الإلهي كان ضميره الأول في طفولته، ويري أن حضور الله في ذهنه حينما كان طفلاً منعه من السلوك السيئ، فإن كان غير مقتنع تماماً بالتربية الدينية إلا إنه يراها ضرورية لتنمية الوازع الديني وتشكيل ضمير حي لدى طفله.
المختلف أقدر على المنح
يتفق المتحدثون على أنه كلما تعرض الطفل لأفكار الآخر بالنقد والتساؤل توسعت مداركه، ولا يحبذون إدخال المعلومات العقائدية للأطفال قبل السابعة، وتشرح ندى القصبي إلى أن الطفل لا يعي الفارق بين الواقع والخيال قبل هذا السن، فلا يجوز إدخال المبادئ الغيبية قبل أن يكون مستعداً لها، ما يتفق مع الأحاديث النبوية المتعلقة بسن إلزامية الطفل بالصلاة.
وتشير راسل إلى الرأي ذاته، فما بين سن الرابعة والسادسة يزدهر خيال الطفل، وتكون الأفكار الخارقة محط اهتمامه، وبعد العام السابع تصبح أمور العقيدة والإيمان مفتوحة للنقاش، لا سيما عن المختلف عقائدياً، ودور الأسرة في هذه المرحلة هو إبراز نقاط الاتفاق بدلاً من لفت الانتباه لنقاط الخلاف، فلكل الأديان نصوص ومناسبات مقدسة، ووجهة نظر عن الحياة بعد الموت. وبدخول الطفل في مرحلة المراهقة تنمو لديه مهارة التفكير النقدي، ما يعني الانفتاح في مناقشة الأفكار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...