ربما لا يعلم كثيرون أن انتشار المقاهي الشعبية في دمشق سبق مثيلاتها في أوروبا بأكثر من مئة عام، وهو ما يؤكده الباحث سامر عكاش في كتابه "يوميات شامية... قراءة في التاريخ الثقافي لدمشق العثمانية في القرن الثامن عشر"، إذ إن "أول ظهور لأنماط من الفعاليات الاجتماعية المرتبطة بشرب القهوة في فضاء المدينة العام يعود إلى النصف الأول من القرن السادس عشر، بينما المقهى الأول الذي شهدته أوروبا فُتِح في لندن منتصف القرن السابع عشر"، والأمر ذاته تشير إليه الباحثة السورية هلا قصقص في كتابها "المقهى الشعبي الدمشقي... فصيح العبارة في نشأة المقاهي من اجتماع وثقافة وعمارة".
هذه الأسبقية التاريخية منحت المقاهي الشعبية في دمشق الرِّيادة في تغيير وجه المدينة، بما خلقته من أنماط اجتماعية جديدة في العلاقات، وما احتوته من أسلوبية مغايرة في الحياة والتلاقي، خارج إطار المنزل والأماكن الدينية، فضلاً عما يتم ضمنها من نقاشات وسجالات فكرية جعلت من المقهى منتدى اجتماعياً وثقافياً وحتى سياسياً مُصغَّراً، كان له تأثيره الواضح على الكثير من مفاصل عيش السوريين عامة، إضافة إلى دوره في تغيير معالم المدينة الحديثة، على اعتبار أن "القهوة من أهم العناصر التي ساهمت بظهور أحوال التمدُّن الجديد" كما يوضح الباحث عكاش في تبويبة "رطلان من البن على سبيل الهدية... في الحريات العامة".
حكواتي النوفرة... حاضر من مئات السنين
مقهى النوفرة هو أقدم المقاهي الشعبية في دمشق، إذ يعود تاريخه لما يقارب المئتين وخمسين عاماً، وليس من الغريب أن يلاحظ المارة بالقرب من الجامع الأموي كيف يضجّ هذا المقهى بمرتاديه حتى ما بعد منتصف الليل، وفي أيام معينة قد يجدون "الحكواتي" جالساً في صدر المقهى، يروي حكاياته التي يقرؤها من دفتر قديم بأوراق صفراء، على الجالسين في أرجاء المكان.
سبق انتشار المقاهي الشعبية في دمشق مثيلاتها في أوروبا بأكثر من مئة عام، وذلك في النصف الأول من القرن السادس عشر.
هذه الظاهرة رافقت المقهى لمئات السنين، إذ يكتب قتيبة الشهابي في "دمشق... تاريخ وصور" أن الحكواتي في النوفرة "كان لأكثر من قرنين يروي قصة بطولاتنا الغابرة، حين يضرب عنترة بن شداد بسيفه أربعين رأساً إلى اليمين ومثلها إلى اليسار، كما كانت القيامة تقوم إذا أنهى الحكواتي كلامه وابن شداد في السجن، وكم من رجل قرع باب الحكواتي في منتصف الليل، مُطالباً إياه بتحرير البطل وفك أسره، قبل طلوع النهار وإلا، فيضطر المسكين إلى متابعة القراءة حتى يطلق سراح عنترة. وكم من مرة كانت فيها الملاسنة تحتدم بين المتحزبين للزير سالم، وآخرين لجساس، الأمر الذي ينتهي عادة ببضع صفعات ولكمات".
يعتبر مقهى النوفرة الوحيد الذي حافظ على هذا الطقس الثقافي بعدما هجرته معظم المقاهي في ستينيات القرن المنصرم، واستبدلت الحكواتي بالتلفاز حديث العهد آنذاك، ليبقى في ذاكرة الدمشقيين العديد من مشاهير الحكواتية، وعلى رأسهم، حسبما يشير الباحث مهند مبيضين في كتابه "ثقافة الترفيه والمدينة العربية في الأزمنة الحديثة"، عبد الحميد الهواري (1885-1956) الشهير بأبي "شاكر المنعش"، والذي خلفه بالحرفة أبو شاكر صنوبر ثم أبو حاتم إبراهيم، المعروفون ببراعتهم وسرعة بديهتهم وأسلوبهم في الإلقاء والتعبير، وتصعيد حبكة الأحداث وحلّها مع تطلعات السامعين ومزاجهم.
جديدُنا سحلب
وقبل الحكواتي، يخبرنا صاحب المقهى ومديره محمد ديب الرباط، بأن الناس كانوا يتوافدون لحضور عروض خيال الظل، أو بحسب التسمية الشائعة "كراكوز وعيواظ"، فضلاً عن الأغاني الطربية، التي تُعدِّل المزاج مع كأس الشاي الخمير، أو نفس العجمي "المدلَّل"، كما يصفه مدير المقهى، وعندما نسأله، ونحن نستمع إلى إحدى الأغنيات "الهابطة" بالعُرْف العام، لماذا لم يحافظوا على الروحية ذاتها للمكان، سمعياً على الأقل، يجيبنا: "زمن أوَّل تحوّل، ونرضخ الآن إلى أذواق المرتادين القلائل، فنحن نخسر من دونهم".
نبحث في أصل تسمية المقهى، فنجد ضالتنا عند الشهابي إذ يقول: "يقع المقهى عند تقاطع الباب الشرقي لجامع بني أمية وحي القيمرية، الذي عُرِف في السابق باسم 'الهند الصغيرة' لما يتمتع به من فعاليات اقتصادية واسعة. ومُقابل المقهى هناك حمّام النوفرة المعروف بحمام 'الذهبيّة'، وبينهما فسحة سماوية تتوسطها بركة ماء تُعرف بـ'الفوَّارة' لأن مياهها كانت ترتفع إلى أربعة أو خمسة أمتار، ومن نافورتها أخذ المقهى اسمه".
مقهى النوفرة من الخارج - تصوير بديع صنيج
بقي مقهى النوفرة محافظاً على طرازه المعماري بشرفاته وعتباته وصالتيه الداخلية والخارجية، وأثاثه من كراسي الخيزران والطاولات المعدنية المستديرة، إضافة إلى اللوحات التي تُزين جدرانه، ولعل أحدث ما حلَّ به تقديم "السحلب"، الذي تنوِّه إليه لافتة كئيبة على الباب المُفضي إلى صالته الداخلية مكتوب عليها "جديدنا سحلب".
مقهى "خبّيني" لا يخبِّئ أحداً
لا نبتعد كثيراً عن مقهى النوفرة، نصعد بضعة درجات، ونتجه جنوباً أمتاراً قليلة حتى نصل إلى بوابة مقهى "خبّيني" عند نهاية سوق القباقبية، وما إن نهمّ بالدخول، نشاهد عمالاً يشتغلون على صيانة المكان. يسألنا رجل خمسيني عن مُرادِنا، فنخبره أننا نُريد الاختباء، تفتر شفتاه عن ابتسامة خفيفة، ويُخبرنا أن نعود لاحقاً، إذ إن المقهى يخضع لأعمال الصيانة.
خلقت مقاهي دمشق أنماطاً اجتماعية جديدة في العلاقات، واحتوت أسلوبية مغايرة في الحياة والتلاقي، خارج إطار المنزل والأماكن الدينية، فضلاً عما يتم ضمنها من نقاشات وسجالات فكرية جعلت من المقهى منتدى اجتماعياً وثقافياً وحتى سياسياً مُصغَّراً
نعرف حينها أن ذاك الرجل هو محمد كمال وتار، صاحب المقهى الذي ورثه عن أبيه، وعلمنا منه أن هذا المقهى هو غير ذاك الذي ذكره ابن كنَّان في كتابه "يوميات شامية في تاريخ أحد عشر وألف ومية"، ويقع مكان محطة الحجاز الحالية، ليضيف بأن "الاسم ظلّ القاسم المشترك الوحيد بين المقهيين"، علماً أن تسمية المقهى الأصل تعود إلى القرن الثامن عشر، فكما يخبرنا قتيبة الشهابي في كتابه "معالم دمشق التاريخية" أنه "في زمن الاتحاديين الأتراك، عندما كانوا يبحثون عن الشبان لسوقهم إلى الخدمة العسكرية إبان الحرب العالمية الأولى المعروفة بحرب "السفر برلك"، كان ضابط مفرزة السوق "الشاويش" يعتمر قبعة طويلة من اللباد، فكان يسمى "أبو لبادة"، وكان اسمه يقترن بالخوف والهلع لدى الشبان، إذ كان الذهاب إلى معارف بعيدة يعني الموت، وشاع عن هذه القهوة بأنها سميت بذلك لأن الشبان الهاربين كانوا يلجؤون إليها طالبين الملاذ قائلين لمن بها: خبّيني".
واليوم، يبقى هذا المقهى مكاناً لاختباء العشّاق ومُحبّي الهدوء، بصالته الداخلية التي تبلغ مساحتها ثمانين متراً مربعاً، وطاولاته التي لا تتسع سوى لشخصين موزعة على حائط المقهى. ولمن لا يريد الاختباء بإمكانه الجلوس على الكراسي خارجاً، ويسعى صاحب المقهى كما أخبرنا إلى تحسين عمارته الداخلية التي شاخت مع الزمن، دون التخلي عن عبق أصالته.
مقهى خبيني وقد أغلق أبوابه بهدف الصيانة - تصوير بديع صنيج
مقهى الروضة برلمانٌ موازٍ
يكاد يكون مقهى الروضة الذي يتوسط شارع العابد، على مقربة من مبنى البرلمان، أحد آخر الأمكنة الشعبية وسط المدينة، وما زال يستقطب رواده من مختلف الشرائح منذ تأسيسه عام 1938 على أنقاض سينما صيفية، وبمساحة شاسعة تصل إلى 750 متراً مربعاً، وتضم 600 كرسي خيزران وعدداً كبيراً من الطاولات الرخامية، استطاع أن يكون برلماناً موازياً، تُناقَشُ فيه القضايا كلها، من الاحتلالات الكبرى وحتى سعر جرزة البقدونس.
وعلى تفاوت مستوى الخدمة بين الجيدة والسيئة، إلا أنه بقي محافظاً على نسبة كبيرة من رواده، ومنهم الروائي خليل صويلح صاحب "وراق الحب" و"عزلة الحلزون"، الذي يخبرنا بأن هذا المكان استقطب بين الفينة والأخرى أدونيس من أجل نفس أرجيلة، كما عبرته منذ الخمسينيات عشرات الشخصيات المشهورة، منها صدّام حسين الهارب إلى سوريا بعد محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، ومظفّر النواب الهارب من صدّام حسين، إلى سعدي يوسف، وجواد الأسدي، وجبر علوان، إلى جانب لبيد رشيد، الرجل العراقي المعروف بـ"أبي حالوب" الذي بات من العلامات المميزة لمقهى الروضة، بعد أن بقي يداوم على ارتياده أكثر من أربعين عاماً، حتى أصبح بمثابة سفارة عراقية في المنفى.
مقهى الروضة في شارع العابد وسط دمشق - تصوير بديع صنيج
عشاق الغفلة
يضيف صويلح: "شهد هذا المكان سجالات سياسية بين السوريين أنفسهم، وبين طاولاته كانت تُؤلّف وزارات وتُوقَّع بيانات، وصولاً إلى سجالات ربيع دمشق مطلع الألفية الثالثة، قبل أن تتلاشى تماماً النقاشات بشأن أهميّة المجتمع المدني وتفعيله تحت ضغط الرقابة السرّية".
وفي مقهى الروضة يجتمع أيضاً الممثلون والمخرجون السوريون حول طاولة زهر، وإلى جانبهم يتوافد الممثلون الشباب الباحثون عن فرصة ظهور تلفزيونية أو سينمائية، وهناك الصحفيون والصحفيات ومراسلو الإذاعات والفضائيات، وكتّاب السيناريو الأصلاء والطارئون، والفنانون التشكيليون، وأيضاً هناك روائيون وكتَّاب القصة القصيرة جداً إلى جانب شعراء الهايكو، ووزراء سابقون ومدراء عامّون أحيلوا على التقاعد.
استطاع مقهى الروضة أن يكون برلماناً موازياً، تُناقَشُ فيه مختلف القضايا من الاحتلالات الكبرى وحتى سعر جرزة البقدونس، وبين طاولاته كانت تُؤلّف وزارات وتُوقَّع بيانات، وصولاً إلى سجالات ربيع دمشق، قبل أن تتلاشى النقاشات تماماً تحت ضغط الرقابة السرّية
ومن الجيل الشاب تجد الكثيرين ممن يلعبون الشدّة، أو يبحلقون في شاشات البلازما لمتابعة مباريات كرة القدم وسباق السيارات، وهناك عشّاق حقيقيون، وآخرون عاطلون عن العمل وعن الحب معاً، وهناك من يبحثون فقط عن تزجية الوقت مع نفس أرجيلة يرافق كأس شاي أو فنجان قهوة أو كوب ميلو أو حتى "سلاش" بارد.
من داخل مقهى الروضة في دمشق - تصوير بديع صنيج
مقهى الهافانا وتأسيس حزب البعث
تأسس مقهى الهافانا عام 1945، ويقع على الجهة اليمنى لشارع بور سعيد الممتد بين ساحة يوسف العظمة ومحطة الحجاز، وتعود شهرته، بحسب مديره أبو الخير، لجذبه عدداً كبيراً من المثقفين على مر تاريخه، ممّا جعله مكاناً لالتقاء الأدباء والمفكرين والشعراء، ليس السوريين وحسب بل العرب أيضاً.
يقول أبو الخير لرصيف22: "كان من رواده الشاعر محمد الماغوط، ومؤسس حزب البعث زكي الأرسوزي، والأديب إسماعيل عامود والكاتب الساخر شريف الراس، وأيضاً بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وأحمد الصافي النجفي، والشاعر القروي، ومحمد مهدي الجواهري ومظفر النواب وأحمد عبد المعطي حجازي. ومن الفنانين الذين ارتادوه محمود المليجي وفريد شوقي والمطرب محمد عبد المطلب وغيرهم الكثير. كما احتضن هذا المقهى المؤتمر التأسيسي الأول لحزب البعث العربي الاشتراكي سنة 1947، وكان حينها يعتبر حزباً معارضاً لجماعة أكرم حوراني الذين يرتادون مقهى البرازيل المقابل للهافانا.
مقهى الهافانا وسط دمشق - تصوير بديع صنيج
يخبرنا أبو الخير أنه منذ أواسط الثمانينيات بدأ نجم الهافانا بالأفول، وكانت الحادثة الكبرى حينها والتي كادت تقضي عليه وتلغي وجوده من خارطة المقاهي الدمشقية، عندما اشتراه أحد تجار البناء بغية تحويله إلى محلات لبيع الألبسة والعطور. لكن أحد المثقفين كان له بالمرصاد، إذ طالب بعدم التفريط بهذا الصرح الثقافي، وبسبب من أهمية المقهى التاريخية والمعنوية والثقافية، استملكته وزارة السياحة، وتعاقدت مع شركة الشام للفنادق والسياحة، لتجديده واستثماره مع المحافظة عليه كمقهى ثقافي له تاريخه وشهرته.
الآن تشعر بأن الهافانا بواجهته الزجاجية القاتمة، واللوحة الخشبية النافرة في عمقه، ما زال نجمه آفلاً، فلا سياسيين ولا أدباء ولا شخصيات معروفة تزوره، إذا استثنينا بعض عابري السبيل الراغبين باحتساء فنجان قهوة أو كأس شاي على السريع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...