شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
المقاهي التاريخية المصرية... سر الثورات وصانعة الثقافات الشعبية

المقاهي التاريخية المصرية... سر الثورات وصانعة الثقافات الشعبية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الاثنين 29 أغسطس 201604:34 م

تجاوزت المقاهي الشعبية في مصر دورها كمجرد تجمعات لقضاء أوقات الفراغ وتناول المشروبات، لتختص بنشاط سياسي وثقافي موازٍ لدورها الأساسي، وتتحول إلى رمز يفوح منه عبق التاريخ، وشعلة حراك ثوري وثقافي، ووسيلة إعلام لتوجيه العامة وتعبئة الشعور الوطني.

واستطاع المقهى، بوصفه مركزاً للتجمعات التي تعج بالاحتكاكات الناتجة من تلاقي طبقات الشعب المختلفة فكريّاً واجتماعيّاً، أن يوحّد الجهود الفردية للسياسيين والمثقفين، ويبلورها في عمل جماعي فعال يتجسّد بحراك في الشوارع.

واكتسبت بعض المقاهي قيمتها التاريخية من شهرة مرتاديها في مجالات الفن والأدب والسياسة. فقد شهد مقهى "متاتيا" الخطاب الأول للمصلح الأكبر جمال الدين الأفغاني وفيه جرى تأسيس أول حزب مصري، "الحزب الوطني الحر"، وارتاده الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وعبد الله النديم وأحمد شوقي وعباس العقاد والمازني.

"الفيشاوي"، تاريخ للتاريخ

مقاهي مصر التاريخية - مقاهي تاريخية مصرية - الفيشاوي

وكما احتضنت قهوة متاتيا رواد السياسة الذين خططوا للثورة العرابية، فقد كان مقهى "الفيشاوي" الواقع في الحسين، ملتقى رواد الفن والثقافة مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

واستعان هذا المقهى الذي يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1797، بكوكبة من العازفين على الناي والعود لإمتاع الرواد بالموسيقى العربية الأصيلة، فضلاً عن أنه كان معقل الأدباء والشعراء والفنانين والمثقفين، أمثال نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي ويوسف إدريس... والفنانين مثل كمال الشناوي وعزت العلايلي وكمال الطويل ومحمد الموجي والمطرب محمد عبد المطلب والمنشد الديني الشيخ محمد الكحلاوي. وقد زاره الرئيسان الجزائري عبد العزيز بوتفليقة واليمني علي عبد الله صالح.

وقال خالد أحمد حسين، 50 عاماً، أحد أقدم مرتادي مقهى الفيشاوي: "أتردد إلى المقهى منذ 30 سنة، منذ كان براد الشاي بثلاثة قروش". وحديثاً يتردد إليه المطرب الشعبي حكيم والفنانون أحمد عبد العزيز وصلاح السعدني ومحمد هنيدي.

وأضاف لرصيف22 أن مالك المقهى الأول فهمي الفيشاوي كانت تربطه علاقة طيبة بالملك فاروق، الذي كان يستعين به، ومعه عدة المقهى، في احتفالات القصر الملكي، وكان يغدق عليه الهدايا ومنها المرايا الموجودة في المقهى حالياً.

الزهراء، قهوة المشايخ

مقاهي مصر التاريخية - مقاهي تاريخية مصرية - الزهراء

بالقرب من مقهى الفيشاوي في الحسين، يقع مقهى "الزهراء" الذي أطلق عليه مجازاً "قهوة المشايخ" نسبة إلى مرتاديه من القراء والمنشدين المبتهلين أمثال النقشبندي ونصر الدين طوبار والشيخ محمود طنطاوي وتلميذه الشيخ المعصراوي وتوفيق عبد الحكم، حسبما قال المهندس عبد الرؤوف حسين، 53 عاماً، مدير المقهى، مضيفاً أن المقهى أنشئ في ثلاثينيات القرن الماضي.

وأضاف عبد الرؤوف أن العالم الكيميائي أحمد زويل كان يتردد إلى المقهى برفقة الإعلامي أحمد المسلماني وعلى طاولاته أعدّ أجزاء من كتاب "عصر العلم".

وتردد إلى المقهى أيضاً أحمد شفيق، رئيس وزراء مصر الأسبق والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية، فضلاً عن العديد من السياسيين والفنانين منهم علي الحجار ومحمود الليثي ومدحت صالح وحلمي بكر والراحلان خالد صالح وحسن مصطفى. وذكر حسين أن ليلى علوي كانت تتردد إلى المقهى أثناء تصوير مسلسل "ألوان السما السبعة"، وفيه جرى تصوير بضعة مشاهد من فيلم "شجيع السيما" لأحمد آدم وياسر جلال.

"الحرية"، إسم وفعل

مقاهي مصر التاريخية - مقاهي تاريخية مصرية - الحرية

ويعتبر مقهى "الحرية" الذي أنشئ عام 1936 مكان منزل الزعيم أحمد عرابي في شارع البستان في باب اللوق، أحد المقاهي التي اتخذت من أجوائها اسماً لها، إذ كان مكاناً يجمع كل أبناء الطبقات من الخاصة والمشاهير والعامة.

ويتميز المقهى بركن خاص للبيرة والمشروبات الكحولية، ويحتفظ بكثير من ملامح القاهرة الخديوية. وقد كان الضباط الإنجليز ومن ثم الضباط الأحرار من أشهر رواده، وعلى رأسهم الرئيس الراحل أنور السادات، كما ارتاده الفنانون أحمد رمزي، ورشدي أباظة، وشكري سرحان.

وعن ذكريات المقهى ورواده، قال "عمّ سعد فكري"، 65 عاماً، أقدم عمّال المقهى وهو موظف فيه منذ عام 1966: "ياااه.. قول للزمان ارجع يا زمان". تذكر أنه، في بداية عهده في المقهى، رأى السادات كثيراً، وعادل إمام وتوفيق الدقن وزينات صدقي وأحمد أباظة ومحمد الدفراوي، مضيفاً وهو يلقي على المكان نظرة فاحصة: "لكن معرفش حد من شباب اليومين دول".

وعن دور المقهى في الأحداث الثورية الأخيرة، قال عم سعد لرصيف22: "الشباب كانوا يختبئون في المقهى أثناء المطاردات الأمنية، وكان المكان يمتلئ بالغاز المسيل للدموع"، وأضاف وهو يشير إلى آثار طلقات نارية اخترقت الواجهات العليا الزجاجية للمقهى: "فضلنا لاحقاً إغلاق المقهى في حالات الانفلات الأمني وأحداث الشغب والفوضى".

"ريش"، ذاكرة أمة

مقاهي مصر التاريخية - مقاهي تاريخية مصرية - ريش

كان مقهى ريش الواقع في شارع طلعت حرب في وسط البلد، ويعود تاريخ إنشائه إلى عام 1908، شاهداً على أن دور المقاهي لم يقتصر على التوجيه والتنظير فقط، بل تعداهما إلى تفجير ثورة 1919 حين كان ملتقى زعمائها، كما تؤكد الوثائق التاريخية التي عثر عليها الورثة أثناء ترميم المقهى من آثار زلزال 1992.

وأكد مدير المقهى المهندس عباس محمود عباس، 70 عاماً، أنه "أثناء عملية الترميم، اكتشفنا بالمصادفة دهليزاً صغيراً يؤدي إلى مخزن قديم حيث كانت تتم اللقاءات، فضلاً عن ماكينة طباعة يدوية كانت تصك عليها المنشورات التي استخدمها الثوار وسيلةً للحشد وإذكاء الروح الوطنية"، وأضاف أن هذا المخزن تحول الآن تحفة على يد صاحب المقهى الذي حوله إلى "جلسة عربي".

وأظهرت الوثاق أيضاً مراسلات استمرت ثلاث سنوات من 29 يونيو 1916 حتى 30 يوليو 1919 بين المالك الثالث للمقهى، ميشيل نقولا بولتيس، والسلطات المحلية المصرية للحصول على إذن بإضافة أوركسترا موسيقية إلى المقهى.

وذكر المؤرخ عبد الرحمن الشافعي في كتابه "تاريخ مصر القومي" أن المنشورات المطالبة بالاستقلال خرجت من مقهى ريش، وانطلقت منه أيضاً منظمة "اليد السوداء" بهدف التخلص من أشد أعداء الثورة وعميل الإنجليز، صاحب الدولة يوسف وهبة باشا. وأيضاً كان المقهى مقر الاجتماعات التمهيدية لجمال عبد الناصر ورفاقه للتخطيط لثورة 1952.

وأضاف الشافعي أنه في ستينيات القرن الماضي كان العراقي صدام حسين يرتاد المقهى ومعه بعض اللاجئين العراقيين، حين كان يدرس في مصر، وقبلهم كان قحطان الشعبي، أول رئيس للجمهورية اليمنية (عام 1967) يرتاد المقهى وكذلك رابع رئيس لها عبد الفتاح إسماعيل. كذلك كان الروسي يفغيني بريماكوف من رواد المقهى ويلتقي فيه المثقفين والسياسيين المصريين والروس، ليصبح بعدها وزيراً للخارجية ثم رئيساً للوزراء.

وذكر عباس أن المقهى كان نقطة انطلاق تظاهرة 1972 التي قادها الأديب يوسف إدريس وعبد الوهاب البياتي وسليمان فياض، احتجاجاً على اغتيال الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، على يد جهاز الموساد الإسرائيلي. وأوضح أنه صدر من المقهى أيضاً بيان سياسي، عام 1971، سمّي ببيان توفيق الحكيم وحمل توقيع العديد من الأدباء.

وعن دور المقهى في ثورتي 25 يناير و30 يونيو قال عباس: "نظم المقهى وقفة احتجاجية على دستور 2012"، مضيفاً أن المثقفين عقدوا أكثر من خمسة اجتماعات اعتراضاً على حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، وأصدروا من المقهى ثلاثة بيانات.

وفي 24 أغسطس 2012، أكمل عباس، اجتمع في المقهى أكثر من 100 مثقف وناشط حقوقي، منهم الكاتب سعد الدين هجرس والروائي إبراهيم عبد المجيد والباحث السياسي نبيل عبد الفتاح والشعراء محمود قرني وأحمد الشهاوي وإبراهيم عبد الفتاح وجرجس شكري وفاطمة قنديل والناشط الحقوقي أمير سالم والناقدة عبلة الرويني وأستاذ التاريخ الحديث محمد عفيفي، وأصدروا بياناً بعنوان "حفاظاً على العقل المصري" كتب مسودته سعد الدين هجرس وإبراهيم عبد المجيد.

"زهرة البستان"، قبلة الأدباء

"ملتقى الأدباء والفنانين" عبارة كُتبت على اللافتة التي تحمل إسم مقهى "زهرة البستان" الذي ظل مفتوحاً على مدى 80 عاماً على مصراعيه أمام الشعر والأدب والقصة وغيرها من دروب الفن والثقافة والسياسة. وفيه كان يعقد نجيب محفوظ ندوته كل ثلاثاء. وعلى طاولاته كتب علاء الأسواني روايتي "عمارة يعقوبيان" و"شيكاجو". هذا فضلاً عن جلسات الشاعرين أمل دنقل وأحمد عبد المعطي حجازي فيه.

"الحرافيش"، الراحلون إذ يحضرون

على واجهته الخارجية المحاطة بسور من الأشجار وتمثال للأديب نجيب محفوظ، يطالعك المقهى الذي اتخذ من أشهر روايات نجيب محفوظ اسماً له. وما زال يحتفظ بمظهره القديم بداية من العاملين فيه إلى البرنامج الثقافي المتنوع الذي يجمع العزف والغناء التراثيين.

ويتكون المقهى الواقع في بداية شارع الملك فيصل في الجيزة، من ستة أركان تتخذ أسماء رموز ثقافية مصرية فضلاً عن مكتبتين إحداهما للكتب وأخرى للصحف اليومية.

"أم كلثوم"، ذكريات لا تغيب

وفي شارع متفرع من رمسيس تشدو "الست" في مقهى "أم كلثوم" صباحاً ومساءً بروائعها الجميلة. وفيه ستجد لوحة سجل عليها تاريخ أم كلثوم وأشهر أغانيها والمحطات المهمة في حياتها، ولوحة جدارية لها وهي تمسك بمنديلها الوردي. وهناك أيضاً ركن لصورها النادرة مع أقطاب الفن أمثال فريد الأطرش وصباح وفيروز وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب.

مقاهٍ حديثة تتسلم الراية

ومن المقاهي الحديثة التي لعبت دوراً بارزاً في ثورة 25 يناير، "مقهى البورصة" الذي تم إغلاقه لأسباب لم يعلن عنها، وكان معقلاً للشباب والمثقفين والحركات الثورية والاشتراكية، وكان عبارة عن مجموعة من المقاهي المجاورة لمبنى البورصة المصرية في وسط البلد، وتمتد حتى ميدان التحرير.

ومن المقاهي الجديدة في وسط البلد مقهى "التكعيبة" الذي استطاع جذب فئة معينة من الرواد مثل المخرجين والفنانين التشكيليين الذين يرتادونه بسبب موقعه القريب من قاعات الفن التشكيلي مثل: المشربية، وكريم فرنسيس، وتاون هاوس.

"ليالي زمان"... الآن

وفي السيدة زينب يقع مقهى "ليالي زمان" وهو يحاكي الزمن الجميل من خلال صور الفنانين القدامى بالأبيض والأسود المرصوفة على حافة مدخله. وعلى أحد جوانبه ترتفع صورة كبيرة لمحمد علي باشا، ومن الأعلى تطوقه الأشجار وكأنها تحتضن زواره. ومنه تصدح نغمات أصيلة بصوت أم كلثوم.

يقول وليد عماد، مدير المقهى، لرصيف22: "المقهى يحاول استعادة أجواء الزمن القديم والدور الأصيل الذي يعزز هويتنا، وهو كان مركزاً للجان الشعبية في السيدة زينب خلال الثورة".

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image