يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر ديسمبر 2019, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "فلنتسكّع معاً في الشّوارع".
أنتم في دمشق؟ لا مهرب إذاً من زيارة شارع القيمرية والتسكّع فيه، والسير على حجارته غامقة اللون والمرصوفة إلى جانب بعضها البعض بكلّ إتقان، وإن أتيحت لكم الفرصة، لتكن زيارات متعدّدة وليس مرّة واحدة فقط.
المشي في الشارع صباحاً بكلّ هدوء، والتقاط روائح القهوة والخبز الطازج والمأكولات الشعبية الصادرة عن المحالّ والمطاعم المنتشرة على جانبيه تجربة لا تفوت، ولا يضاهيها متعة سوى النزول مساءً، والسير بين المطاعم والمقاهي والمحالّ المضاءة، مع ازدحام يكثر أيام العطل والأعياد، معطياً الشارع طابعاً مميزاً لا يشبه أيّ مكان آخر في المدينة.
يغلب على العديد من مناطق العاصمة السورية دمشق، كما بات كثرٌ من سكانها يقولون، اللون الرمادي. ازدحام بالسكان ووسائل المواصلات، تلوّث وسواد يطغيان على واجهات الأبنية، وشوارع تبدو وكأنها خارجة للتوّ من معركة طويلة الأمد مع الألوان الداكنة التي تظهر وكأنها راغبة بصبغ كلّ المدينة.
وسط كلّ ذلك، يندر أن نجد مكاناً في دمشق تتشابك فيه الألوان، أحياناً باتّساق، ومرّات أخرى بضجيجٍ بصريّ قد يبدو مزعجاً، كما هو الحال في شارع "القيمرية"؛ واحد من أحياء المدينة القديمة، والذي يرتبط اسمه بكونه مَعلماً سياحياً، وتقع العديد من نقاط العلام الدمشقية وسطه أو على أطرافه، مثل مقهى "النوفرة" وهو أحد أقدم وأشهر مقاهي المدينة، ومحلّ "كرواسان القيمرية"، قِبلة كثير من سكان المدينة، ومحالّ بيع أشرطة الموسيقى والهدايا والتذكارات التقليدية والشرقية.
في حضن المدينة القديمة
حيّ القيمرية هو من أكبر أحياء دمشق القديمة التي تقع داخل سور المدينة لكن دون أن تكون له أيّ إطلالة على هذا السور. وبين "باب توما" و"الشارع المستقيم" و"الجامع الأمويّ" و"قصر العظم"، وهي من أكثر المواقع الأثرية في دمشق شهرة، يقع الحيُّ ضامّاً بين شوارعه وحاراته وأزقّته مئات المنازل –وعددها وفق المكتب المركزي السوري للإحصاء أكثر من ثمانمئة-، وعشرات المعالم الأثرية والسياحية.
ولاسم "القيمرية" عدة روايات تاريخية تعزو كلّ منها التسمية لسبب معين، كوجود شيخ شهير فيه أيام الفتوحات الإسلامية وكان اسمه "قيمر"، فسُمّي الحي تيمناً به، أو تشييد المدرسة القيمرية في الحيّ خلال القرن السابع على يد ناصر الدين الحسين بن عبد العزيز القيمري الكردي وهو أمير أيوبي وصف في كتاب "الدارس في تاريخ المدارس" للمؤرخ عبد القادر بن محمد النعيمي الدمشقي بأنه "بطل شجاع يضاهي الملوك في مركبه وتجمله وغلمانه وحاشيته".
وللباحث والمؤرخ السوري جوزيف زيتون رأيه باسم الحيّ حيث يرجعه إلى تسمية شاملة لكلّ المنطقة هي "آيا ماريا"، نسبة للكاتدرائية المريمية الموجودة فيها والتي يعود تاريخها للقرون الأولى من المسيحية، ومع مرور الوقت طرأت تغيرات على اللفظ ليتحوّل من "آيا ماريا" إلى "القيمرية".
ومنذ بداية تأسيسه وظهوره كحيّ مستقل منتصف القرن الحادي عشر تقريباً، اشتهر حيُّ القيمرية بعدّة أسماء تدلّ على طبيعة المهن والصناعات التي كانت تمارَس فيه، ومنها "سوق المطرّزين" نسبة إلى مهنة التطريز، و"سوق الحريميين" في إشارة لكونه مقصداً بشكل خاص للنساء بهدف التسوق، وأكثر تلك الأسماء شهرة هو "الهند الصغرى"، ويرتبط بانتشار الكثير من ورشات صناعة الأقمشة في الحيّ، خاصة الحريرية، مما جعله مركزاً صناعياً هامّاً في دمشق لعقود طويلة.
رحلة فريدة بين الأزمنة
قد يكون حيّ القيمرية كبيراً، لكن الشارع الأكثر شهرة فيه هو شارع له نفس الاسم، ويمتدّ من زقاق "حمام البكري" الذي يصله بساحة باب توما، وصولاً إلى مقهى النوفرة الذي يقع بمحاذاة الجامع الأموي، وله مكانة خاصة لدى سكان المدينة وزوارها، على اعتباره من أقدم المقاهي، ومن الأماكن النادرة التي لا زالت تستضيف طقسَ الحَكواتي بشكل دوريّ، وهو ذلك الشخص الذي يحكي قصصاً قديمة على مسامع روّاد المقهى بشكل يحمل العِبرةَ والفكاهة في آنٍ معاً.
وتتفرع عن شارع القيمرية الكثيرُ من الأزقّة الجانبية ومنها زقاق "الشَهبَندر" وزقاق المتولي والزقاق المفضي إلى ساحة الدوامنة، وجميعها تمتاز بكونها ضيقة للغاية، ولا تتّسع سوى للسير أو مرور الدرّاجات الهوائية، وبمحافظة معظم منازلها على الطابع الدمشقي القديم مع وجود طابقين وباحة داخلية واسعة تتوسّطها بحرةٌ وتنتشر على أطرافها الشجيرات، وبتقارب شرفات البيوت المتقابلة حتى تبدو وكأنها تتبادل التحية والسّلام.
تبدأ رحلة السير في شارع القيمرية عادة انطلاقاً من باب توما، وانعطافاً نحو اليمين للدخول في زقاق صغير يقع في نهايته حمام شعبيّ قديم هو "حمّام البكري"، ومن ثم السير في التفافات عديدة وصولاً إلى طريق مستقيم يمتدّ لمسافة تقارب النصف كيلومتر، ويزخر بمئات التفاصيل التي يصعب التقاطها جميعاً على الفور.
عند بداية هذا الطريق وعلى يمينه لا يمكن للعين أن تخطئ منزلاً دمشقياً كبيراً كتب عليه من الخارج "فندق قصر الشهبندر"، ولا مانع من إلقاء نظرة من الداخل على منزل دمشقيّ جميل للغاية، كان يوماً قصر أحد الشخصيات السورية الرائدة مطلع القرن الفائت، وهو عبد الرحمن الشَّهبندر.
بعد هذا الفندق، وعلى يمين ويسار الطريق، تنتشر عشرات المحال المتنوعة والتي تعطي الشارع طابعه وتجعله مقصداً لكثير من أهالي المدينة وزوّارها أيضاً. محالّ لبيع الهدايا والأكسسوارات، وأخرى تبيع لوحات ورسومات أغلبها يظهر مشاهد من المدينة القديمة، وثالثة تتفنن بعرضِ تحفٍ شرقية أو سورية قد تلفت نظر الغرباء في المدينة على وجه الخصوص، ورابعة يبرع أصحابها برسم الصّور الشخصية ورسومات الكاريكاتير.
المشي في الشارع صباحاً بكلّ هدوء، والتقاط روائح القهوة والخبز الطازج والمأكولات الشعبية الصادرة عن المحالّ والمطاعم المنتشرة على جانبيْه تجربة لا تفوت
بين تلك المحالّ يمكن بسهولة العثور على دكاكين صغيرة تبيع مختلف أنواع الأطعمة والمشروبات، أكثرها شهرة على الإطلاق "كرواسان القيمرية"، والذي يبيع معجنات الكرواسان المحشوّة بالجبن أو الشوكولا، وتلاقي بضاعته إقبالاً لا نظير له في محالّ أخرى، وقد يضطرّ الزبائنُ للانتظار قليلاً ريثما يحين دورهم.
وبشهرة مماثلة يقع على بعد أمتار قليلة محل بيع الفطائر المصنوعة على الصاج –وهي قطعة معدنية محدبة يُشوى عليها الخبز- والمحشوة بالجبن أو الزعتر، ومحل الليمون الجامد، أي عصير الليمون البارد وسميك القوام والذي تشتهر دمشق بصناعته.
أما نهاية الطريق وقبل الانعطاف للوصول نحو مقهى النوفرة، فهي تحمل طابعاً مختلفاً قليلاً، مع وجود مطاعم يمكن تناول المأكولات التقليدية السورية فيها وعلى رأسها الفول والحمص والفتّة، ومحالّ بيع السجاد اليدوي المحليّ والمستورد والتي تتفنن بعرض بضائعها الملوّنة على الجدران.
يتزين الشارع في كلّ المناسبات الدينية، المسلمة منها والمسيحية. في عيد المولد النبويّ تنتشر أعلام ولافتات ترحّب بقدوم هذا اليوم، وفي عيد الميلاد ورأس السنة يمتلئ الشارع بزينة الميلاد وأنوارها، ويزدحم بآلاف الزوار كلّ يوم
وفي الأزقة الجانبية لشارع القيمرية يمكن للراغبين بالاستراحة أن يتوقفوا ويجلسوا لتناول كأس من الشاي أو كوب من القهوة في واحدة من المقاهي الكثيرة التي تملأ تلك الأزقة، ومن أقدمها مقهى "عالْبال" والذي لا يمكن لزائريه سوى الاستماع لأغنيات فيروز التي يصدح صوتها في أرجائه بشكل يوميّ منذ أكثر من عشرين عاماً.
يتزين الشارع في كلّ المناسبات الدينية، المسلمة منها والمسيحية. في عيد المولد النبويّ تنتشر أعلام ولافتات ترحّب بقدوم هذا اليوم، وفي عيد الميلاد ورأس السنة يمتلئ الشارع بزينة الميلاد وأنوارها، ويزدحم بآلاف الزوار كلّ يوم. لا يختلف ذلك في عيد الحب "الفالنتاين" حيث يتحول الشارع إلى مهرجان من البضائع والزينة حمراء اللون.
وكي يبقى الشارع قريباً من السوريين بكلّ أطيافهم، يجهد أصحاب المحالّ فيه على تنوّعها لمواكبة التحوّلات الاقتصادية التي عاشتها سوريا على مدار سنوات الحرب الفائتة. يرفض البعض رفع أسعار بضائعه بشكل مبالغ فيه، ويتّجه آخرون لابتكار حلول جديدة لم تكن مألوفة من قبل على نطاق واسع في سوريا، كتلك المحالّ التي تبيع البيتزا أو معجنّات المعكرونة في صحون صغيرة يمكن تحمّل تكلفتها.
يندر أن تمرّ مناسبة أو عطلة دون أن يكون شارع القيمرية محطّ اهتمام سكّان دمشق. إنهم لا يملّون المشي في هذا الشارع والتقاط الصور التذكارية وهم مدركون تماماً لجمال تفاصيله وغناها وفرادتها، ولا يجدون بدّاً من دعوة أصدقائهم القادمين من خارج المدينة لزيارة الشارع واكتشافه، الأمر الذي يعتبرونه مهمّة سياحية لا بدّ منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع