نحكي قصصًا عن مقاهٍ اختفت أو لا زالت موجودة، نقول أن فلانًا قد زارها، أم أن شاعرًا قد كتب فيها قصيدة مشهورة له، أن فيها قد نشأ حزب ما، أو تيار فكري ما، أن الكثير من المقابلات الصحافية مع فنانين وكتاب ومفكرين قد حصلت فيها... فتشكل هذه الحكايا ملامح المدن وأوجه ناسها في ذاكرتنا. فلا تقدم المقاهي المشروبات وحسب بل مزايا ناسها وأطباعهم وإنتاجهم الفكري والفني. من هنا جمال التنقل في محطات مختلفة من تاريخ مقاهي بلاد الشام التي قدمت القهوة وأكثر.
بيت القهوة
المقهى أو "بيت القهوة" كما هي تسميته الأولى هو المكان العام المخصص لإعداد وشرب القهوة. والقهوة هي شراب البن المغلي الذي يُعتقد أن بلاد الشام قد أخذته في القرن السادس عشر ميلادي عن اليمن، أول من قام بتحضير هذا المشروب. فمع وصول القهوة إلى دمشق وجدت المقاهي فيها وما لبثت أن أصبحت عنصرًا أساسيا في الحياة اليومية. ومن دمشق انتقلت المقاهي مع مهنة إعداد القهوة، خلال فترة الحكم العثماني، شمالًا إلى اسطنبول حيث يُعتقد بأن أول مقهى افتتح فيها كان عام 1556 على يد شخصين أحدهما حلبي والآخر دمشقي وسمي ذلك المقهى "مدرسة العلماء" لاستقطابه الأعيان والأدباء لشراب القهوة وتبادل الأحاديث فيه. وفي أواسط القرن السادس عشر أيضًا، انتقل المقهى الدمشقي جنوبًا إلى القدس من خلال العائلات الشامية التي قصدت القدس (المزدهرة عمرانيأ في بداية الحكم العثماني) للإستقرار والعمل فيها. فقد وُجد في سجلات محكمة القدس أسماء عدة لأشخاصٍ من الشام امتهنوا إعداد القهوة وكانوا يلقبون بـ"القهوجي".استقطبت المقاهي الكثير من الكتاب والمفكرين والصحافيين والرسامين والشعراء... فهل ما زالت تحافظ على دورها اليوم؟
استضافت مقاهي بيروت الأخوين الرحباني في بدايتهما، كما غنت أم كلثوم وعبد الوهاب في مقاهي نابلس واللاذقية
كركوز والحكواتي
منذ وجودها، لم يقتصر دور المقاهي على تقديم المشروبات، فدائمًا ترد أسماء مقاهٍ خلال الكلام عن الحياة السياسية والإجتماعية في البلاد حيث يقصدها الناس للتداول في الأخبار اليومية وتبادل الآراء والأفكار. كذلك استقطبت المقاهي الكثير من الكتاب والمفكرين والصحافيين والرسامين والشعراء... ولكن إلى جانب هؤلاء، استقبلت المقاهي منذ بداياتها أنشطة ترفيهية ثم أنشطة ثقافية وفنية وفنانين معروفين وصاعدين.
ففي دمشق مثلًا، ثم في مدنٍ أخرى، بدأت المقاهي منذ أوائل القرن السابع عشر بتقديم ألعاب النرد والورق والشطرنج لروادها ثم ما لبثت أن استقطبت الموسيقيين الذين اتخذوها مكانًا لتقديم وصلاتهم الموسيقية والغنائية بشكلٍ دائم. كما تميزت مقاهي دمشق، وتبعتها إلى ذلك مقاهي القدس، بتقديم القصص والسير من خلال عروض الحكواتي والكركوز. ويُقال بأن أشهر من قدم هذه العروض في القدس هو محمود الحكواتي وهو من مدينة طرابلس. فتذكر بعض المراجع أنه كان يقضي شهر رمضان في القدس حيث كان يقسم عروضه كل ليلة إلى فصول يبدأها بعد الإفطار بعرضٍ في مقهى معين، ثم يذهب إلى مقهًى ثانٍ ليستكمل عرضه ثم إلى مقهًى ثالث ورابع فيتابع وصلاته طيلة الليل حتى وقت السحور.
مغنّو الزمن الجميل
وفي مطلع القرن العشرين وبعد ظهور أجهزة الفونوغراف، أصبحت المقاهي تبيع الأسطوانات وتبث الموسيقى منها طيلة النهار. مع انتشار المقاهي بشكلٍ كبيرٍ في جميع المدن، أصبح عددٌ من الفنانين المعروفين يقيمون حفلاتهم بشكلٍ منتظمٍ فيها. ففي بيروت، اشتهرت مقاهي الزيتونة (منطقة الزيتونة باي اليوم). وقد يكون أكثرها شهرةً ببرنامجه الفني مقهى منصور الذي كان يقدم لرواده فرقًا موسيقية من الدول العربية والعالم. وفي مطلع أربعينات القرن العشرين، يقال أن عاصي الرحباني الذي كان قد أسس فرقة مع أخيه منصور سمياها "فرقة ولاد الرحباني" قد قدمت في مقهى منصور الكثير من الحفلات الموسيقية (كما قدمت الفرقة حفلاتٍ عدة في مقهى سعادة في منطقة الدورة وفي مقاهي مدينة عاليه وفي عدة قرى لبنانية أخرى). وفي الخمسينيات استقبل مقهى منصور حفلاتٍ لمحمد عبد المطلب وسعاد محمد وكارم محمود ولور دكاش وغيرهم. والغناء في المقاهي شمل أيضًا أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب! فإلى جانب حفلاتهما الكثيرة في المسارح والصالات المهمة والمشهورة، قدما حفلاتٍ عدة في مقاهٍ خلال زياراتهما المتكررة إلى الشام. فقد استقبل مقهى الهموز في نابلس (افتتح العام 1892، ولا يزال موجودًا حتى يومنا هذا حيث يديره الجيل الثالث من عائلة الهموز)،في بداية عشرينيات القرن الماضي كلا من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في حفلتين في صالة المقهى. وفي 9 و10 أيلول 1931، قدمت أم كلثوم حفلتين في مقهى شناتا في اللاذقية استمرتا من التاسعة مساءً حتى بزوغ الفجر. كذلك قدم محمد عبد الوهاب عدة حفلاتٍ في المقهى عينه بين 1930 و1933.ملتقى "السميعة"
واليوم، لا تزال المقاهي تتكاثر وتنتشر في بيروت ودمشق وفي مدن فلسطين ولا زال معظمها يقدم حفلاتٍ موسيقية لفنانين شباب بشكلٍ خاص. ولكن بعض ما كانت تقدمه المقاهي لم يعد موجودًا كعروض الحكواتي والكركوز حيث كانت آخر هذه العروض في دمشق في مقهى النوفرة الشهير الواقع خلف المسجد الأموي والذي يُعتقد أنه من أقدم مقاهي دمشق الذي بقي مفتوحًا لرواده. فمنذ عامين، توفي رشيد الحلاق الملقب بحكواتي الشام آخر حكواتيي الشام المعروفين بتلاوة السير والقصص الشعبية ولم يحل مكانه أحد. وعلى مسافةٍ قريبة من النوفرة، يقع مقهى عالبال الذي افتتح أواخر التسعينيات في الشام القديمة ولا زال صوت فيروز يصدح فيه منفردًا ليلًا ونهارًا... يُقال أن ابنتها ريما وبعض أعضاء فرقتها قد زاروه عام 2008 حين كانت لفيروز حفلة في دمشق. ترسم لنا هذه المحطات من تاريخ المقاهي في منطقتنا قصصًا مختلفة عما نعرفه ونحصره باللقاءات السياسية والأدبية، فتعطي صورًا جميلة عما حوته جدران هذه المساحات العامة من أصواتٍ وأنغامٍ و"سميعة" وليالٍ طويلة أمضاها الرواد مع مطربين وفنانين أصبحوا أم كانوا من يومها من أكثر فناني القرن العشرين شهرةً. فكم لعبت هذه الأماكن دورًا مهما في الحياة الفنية لهذه المدن وكم ساهمت في انتشار الموسيقى والفن بين الناس عبر فنجان قهوة!رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين