تتحايل غالبية الأسر المصرية لتتمكن من عبور أزمة "آخر الشهر"، تقترض، أو تلجأ لأطباق محدودة التكلفة، أو تزور أسرة أحد الزوجين، هدفها الحقيقي دفع الأيام المتبقية للمضي حتى تتقاضى راتب الشهر الجديد.
وساهمت متغيرات كانتشار فيروس كورونا، وتحرير سعر الصرف، وعدم توفر فرص عمل في زيادة صعوبة تحدي "آخر الشهر".
أزمة عدم كفاية الدخول ليست محدودة الانتشار، إذ تبلغ نسبة الفقر في مصر، 29.7%، وفقاً لنتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك 2020-2019، والذي تصدره الهيئة العامة للتعبئة والإحصاء.
موانع الحمل والفول
قبل عام واحد من انتشار وباء كورونا، أجبرت مروة (26 عاماً) من قبل زوجها على ترك عملها في التدريس بإحدى الحضانات، بدعوى أن منزلها أولى بجهدها، خاصة أن الراتب لا يتجاوز ألف جنيه (75 سنتاً).
مع تصاعد موجات الإغلاق التي بدأت في آذار/مارس 2020، تم الاستغناء عن الزوج الذي يعمل بقطاع السياحة، ليمكث في منزله قرابة عام بلا عمل أو دخل، كما أن المدخرات القليلة التي يمتلكها نفدت بعد عدة أشهر.
فول وطعمية وكشري وعدس وهياكل فراخ، وحتى الأكلات دي بقت مكلفة، وكل حاجة بتزيد إلا المرتبات، أنا حزينة عشان بناتي معاشوش كويس، لا أكل، ولا لبس، ولا خروج، ولا تعليم
لم يكن متاحاً لمروة حينها العودة إلى العمل القديم، فالحضانات أيضاً مغلقة، ولكنها استغلت موجة الإغلاق وتخوف البعض من التسوق، لتسويق الملابس عبر الإنترنت.
حققت مروة في البداية أرباحاً معقولة مكنت أسرتها من توفير الطعام لعدة أشهر، قبل أن يبدأ الإغلاق في التلاشي، ويعود الناس للشوارع، وتقل أرباحها ومن ثم يتوقف مشروعها نهائياً.
تقول مروة لرصيف22: "بعد ما الفلوس اللي محوشينها خلصت، البيت مكانش فيه لقمة عيش، واضطرينا نستلف من أهلي وأهله، ودورنا ساعتها على بطاقة التموين، وطلعناها عشان توفر لنا أي حاجة، في الفترة دي أكلت كمية فول مكلتهاش في حياتي كلها".
وتشير مروة إلى أن زوجها لم يحصل على عمل مستقر بعد، وأنه يعمل بشكل متقطع رغم انتهاء الإغلاق، وأن راتبها من العمل بالحضانة التي عادت إليها انخفض أكثر، لضعف إقبال الأمهات على إرسال أطفالهن للحضانات خوفاً من العدوى، وهو ما يعني عبورهما منتصف الشهر بصعوبة.
كانت مروة وزوجها يخططان للحصول على طفل، ولكن مع التدهور المادي الكبير الذي لحق بهما، عادت الزوجة الشابة لتناول موانع للحمل، مضافاً إليها الكثير من الفول والحزن لحالهم.
تشير دراسة للتعبئة العامة والإحصاء، بعنوان "أثر فيروس كورونا على الأسر المصرية" صدرت حزيران/ يونيو الماضي، إلى أن 74% من الأسر انخفض مدخولها عقب ظهور الفيروس، كما فقد 26% وظائفهم، واضطر 18% للعمل بشكل متقطع.
تراجع الإنفاق على اللحوم والدواجن والأسماك والفواكه والملابس، في مقابل تصاعد الإنفاق على الأرز والزيت والبقوليات والكمامات والمطهرات، كما اضطرت نصف الأسر المتضررة للاقتراض من الآخرين لمواجهة آثار الفيروس، فيما يعتمد 17% على المساعدات الخيرية، بحسب التعبئة والإحصاء.
"بناتي لا أكل ولا لبس"
تزوجت دعاء (33 عاماً) قبل ثمانية أعوام، كانت وزوجها يعملان حينها، وتمضي أمورهما المادية بشكل معقول، ولكن في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2016، قررت الحكومة المصرية تحرير سعر الصرف، أو ما يعرف بتعويم الجنيه، وفقد الجنيه في اليوم التالي نصف قيمته، إذ بلغ سعر الدولار حينها 19 جنيهاً بدلا من 8.8 جنيهات، وهو السعر الذي حددته الحكومة قبل قرارها.
فوجئت دعاء، بتضاعف أسعار كل شيء تقريباً، فمصر تعتمد بنسبة كبيرة على الاستيراد من الخارج لتوفير احتياجات سكانها، أما قرارها اللجوء للمنتجات المحلية فصاحبه الفشل أيضاً، فتضاعفت أسعار مستلزمات الإنتاج الصناعي مما أدى لارتفاع أسعارها هي الأخرى، ولم ينعكس التحسن النسبي لسعر الجنيه أمام الدولار مسجلاً 15.7 جنيه حالياً على دعاء وأسرتها، حتى أنها لم تلحظه.
قبل عام 2016 كانت دعاء تعمل بأحد مصانع الأحذية الصغيرة، ولكنها فوجئت بعد أقل من شهرين من التعويم بقرار صاحب المصنع تسريح جميع العاملات النساء، متذرعاً بعدم قدرته على استيراد الخامات اللازمة للتصنيع بعد تحرير سعر الصرف، ولم تكن دعاء من المؤمن عليهن اجتماعياً كحال شريحة غير قليلة من العاملين بالقطاع الخاص.
"الموتى لا يذهبون للعمل".
يعمل سبعة من بين كل 10 عاملين بالقطاع الخاص دون عقد يضمن حقوقهم، ودون تأمين اجتماعي أو صحي، بحسب ورقة بحثية للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان: "الموتى لا يذهبون للعمل".
تقول دعاء لرصيف22: "الحاج صاحب المصنع قرر يخلي الرجالة بس، عشان يقلل المرتبات اللي بيدفعها، قال إنهم مسؤولين عن بيوت فهيخليهم للآخر، أما أنا وكل العاملات اللي شلنا المصنع على كتفنا من أيام ما كان في البدروم، فقال لنا مع السلامة".
كانت دعاء حاملاً بطفلتها الثانية وقت تسريحها، حاولت العثور على عمل بديل لتغطية جزء من نفقات الأسرة، والمساعدة في توفير نفقات الولادة، ولكن كما تعلم معظم المصريات، الآنسات فقط يتم قبولهن للعمل على مضض، أما المتزوجة والحامل كدعاء، ففرصها كانت منعدمة، وإن حظيت بوعود لتشغيلها بعد وضع طفلتها.
استسلمت دعاء للمكوث بالمنزل على أمل أن يكون مؤقتاً، ولكن دخل أسرتها انخفض من 3500 جنيه لألفي جنيه (200.25 دولار) هما راتب زوجها، يدفعان ربعه إيجاراً لمسكنهما الضيق بأحد أحياء الجيزة الشعبية.
قررت دعاء أن تعبر أسرتها الأزمة أو لا تغرقهم على الأقل، وبدأت بمتابعة حملها بمستشفى عام لتضع طفلتها بتكلفة أقل كثيراً من المستشفيات الخاصة، ولكن براحة وخصوصية أقل كثيراً أيضاً، وأبقت طفلتها الأولى في المنزل بدلاً من الحضانة لتوفر 300 جنيه اشتراك الحضانة الشهري.
انهمكت دعاء في إعداد ميزانيات لتسيير منزلها بالمبلغ المتاح، وأنهكها الفشل المتكرر، فمهما اجتهدت لا يمكن للشهر أن ينقضي دون أن يضطرا للاقتراض من أحد المعارف، خاصة إذا فاجأتهم حرارة إحدى الصغيرات المرتفعة، رغم حرصها ألا تمرض، فزيارة الطبيب والدواء كفيلة بالتهام سدس ميزانية الأسرة على الأقل، ولكنها تتحايل على ذلك باللجوء للعيادات الخيرية.
تضيف دعاء: "للأسف الفلوس الباقية مبتكفيش حتى الأكل، بس بنمشي الدنيا بناكل لحمة أو فراخ مرة ولا اتنين أول الشهر، وباقي الشهر فول وطعمية وكشري وعدس وهياكل فراخ، وحتى الأكلات دي بقت مكلفة، وكل حاجة بتزيد إلا المرتبات، أنا حزينة بس عشان البنات معاشوش كويس لا أكل ولا لبس ولا خروج ولا تعليم".
"نزور أهلنا وناكل عندهم"
تعمل ندى وزوجها بواحدة من شركات الدعاية والإعلان، يحصلان على 5500 جنيه، يدفعان 1500 (مائة دولار) منها قيمة إيجار شقتهما، و1500 أخرى اشتراك حضانة لطفلهما، ليكون قريباً من مقر عملهما بمنطقة الدقي، ويبقى للفواتير والمواصلات ومصاريف الطعام واحتياجات الطفل والمصاريف الشخصية 2500 جنيه (100.75 دولار).
توترت علاقة الزوجين، فكل منهما يشعر بالإحباط، والضغط، وأنه يعمل بلا جدوى، فلا يمكنهما التنزه أو السفر أو شراء ملابس جديدة، أو حتى إنهاء الشهر دون أن يضطرا للاقتراض من أسرتيهما.
بنضطر نروح أسبوع تقريباً آخر كل شهر عند مامتي أو حماتي عشان مفيش غير فلوس المواصلات للشغل، فبنروح ناكل عندهم، ونعمل إننا بنزورهم
تعاني ندى من الاكتئاب، وتتعاطى علاجاً دوائياً لمساعدتها على مواصلة مهامها، تقول لرصيف22: "ليه نشتغل عشان بس نكفي أكلنا ويا ريت بيكفي، أنا مضطرة أصحى السادسة صباحاً أجهز أنا والولد، وننزل ونرجع السادسة مساءً، أبدأ أعمل الأكل عشان الميزانية طبعاً متستحملش أكل جاهز، ورغم إننا بناكل أي حاجة، ومعظم أكلنا نشويات وبقول عشان أرخص وبرضو الفلوس بتخلص، والساعة عشرة ننام عشان ندور في نفس الساقية لما نصحى".
وعندما تنفد النقود منهما قبل نهاية الشهر، وهو ما يحدث دائماً، تضطر أن تأخذ الأسرة وتزور أهلها، أو أهل الزوج، تقول: "بنضطر نروح أسبوع تقريباً آخر كل شهر عند مامتي أو حماتي عشان مفيش غير فلوس المواصلات للشغل، فبنروح ناكل عندهم، ونعمل إننا بنزورهم، أما الحضانة فكل أسبوع أو اتنين رحلة، ولا حفلة، وعايزين لبس تنكري أو اشتراك أو أو.. باضطر ماوديش ابني اليوم ده خالص، عشان مفيش فلوس للأسف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...