خلال الربع الثاني من العام الجاري، وبينما فيروس كورونا يجتاح العالم، ارتفع معدل البطالة في مصر من 7.7% إلى 9.6%، وفقاً لتقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في آب/أغسطس الماضي، بزيادة قدرها 1.9% عن الربع الأول من العام، بلغ نصيب الذكور منها 8.5% من إجمالي قوة العمل.
مع هذه الزيادة المفاجئة، لجأ أصحاب المهارات والخبرات المتراكمة في سوق العمل إلى البحث عن أي وظيفة تتماسّ مع مسيرتهم المهنية، حتى لو لم تضف إليها الكثير، لكن يبقى البحث عن "لقمة العيش" هو محركّهم الأساسي. وعلى الرغم من أنّ هذه الوظائف متاحة، فإنّها تُغلق أبوابها أمام الآف الشباب، والسبب "مهارات زائدة".
"حرام أوظفك"
سافرت داليا وصفي، (36 سنة)، من محافظة القليوبية، إلى القاهرة، بحثاً عن عمل يتماشى مع خبراتها المتراكمة منذ عمر الـ16 عاماً، تقول لرصيف22: "بدأت أعمل بدوام ثابت من عمر الثامنة عشرة، حتى بلغت السادسة والعشرين، كلما تقدمت إلى وظيفة، فإنّ أول رد يأتي من صاحب العمل: حرام عليّ تشتغلي عندي، أحتاج شخصاً عادياً، بمرتب محدود، وأنتِ تملكين خبرة أكثر مما أريد".
اضطرت داليا، خلال السنوات الثلات الماضية، إلى العمل في مدينة الإسكندرية، براتب بسيط، لا يقبله إلّا حديثو التخرج بسبب بطالتها التي استمرّت ستة أشهر، إذ تقدّمت إلى وظائف عدّة، وسمعت الردّ نفسه.
"كلما تقدمت إلى وظيفة، فإنّ أول رد يأتي من صاحب العمل، حرام عليّ أوظفك، أنا أحتاج شخصاً عادياً، بمرتب محدود، وأنتِ تملكين خبرة أكثر مما أريد"
تتابع داليا حديثها لرصيف22: "أعمل في مجال الإدارة، بدأتُ بالسكرتارية، حتى وصلت إلى سكرتيرة تنفيذية، ومديرة مكتب. حالياً أعيش في القاهرة، ولا أترك إعلاناً عن وظيفة، إلّا أتقدم لها، لكن يأتيني الرد عينه، أنني أملك مهارات زائدة، ورواتبهم لا تكفي حتى لدفع بدل إيجار غرفة".
تتنهَّد داليا مضيفةً: "لا أعرف ماذا حدث لأصحاب الأعمال؟ ففي السنوات الأربع الماضية، كنت أجد عملاً بسهولة، أمّا هذا العام تحديداً فقد تمّ رفضي من كل الوظائف التي تقدمت لطلبها، وأعتقد أنّ جزءاً من هذا هو سنّي، لأنّ الإعلانات تكون محدّدة بسن معينة، وهو إجحاف آخر نتعرّض له في سوق العمل".
"أسوأ اضطراب في السوق"
تقدّمت داليا موسى (34 عاماً)، إلى وظيفة أقل من مؤهلاتها بسبب حاجتها إلى العمل، وطال انتظارها على قائمة البطالة، خلال عام 2019. تحكي لرصيف22: "تقدمت لوظيفة منسقة ندوات وفاعليات ثقافية بمركز ثقافي في وسط القاهرة، وأنا على علم أنّها وظيفة أقل من مؤهلاتي، لكنني كنت في حاجة ماسّة إلى العمل، لكنّهم أخبروني أنّ مؤهلاتي أعلى بكثير من الراتب، وبالرغم من إبدائي القبول، وضعوني على قائمة الانتظار".
وتوضح أنّ الراتب الذي عُرض عليها أقل من ربع المبلغ الذي تستحقه، وأنّها ليست المرّة الأولى التي تتعرض فيها لهذا الموقف، كما أنّ الكثير من أصدقائها يعملون في وظائف أقل من خبراتهم، وبرواتب أقلّ من حدّ الكفاف، وهذا ما يضطرهم إلى الجمع بين وظيفتين، وأحياناً أكثر.
في سياق متصل، يرى الباحث الاقتصادي أحمد عبدالمطلّب، في حديث لرصيف22 أنّ "الاضطراب الكبير في سوق العمل مستمر منذ سنوات، بل يمر حالياً بأسوأ مراحله، منذ عصر الانفتاح، خاصة بعد ثورة 25 يناير، وما تلاها من صدمات على الصعيد الاقتصادي عمّقت الخلل الهيكلي في بنية سوق العمل، ولم تستطع الحكومات المتعاقبة حلّه، لكن أهم ملامحه هو التفاوت الكبير في بنية العرض والطلب بين المخرج التعليمي والحاجة الوظيفية، خاصة مع تغيّر متطلبات سوق العمل، التي ارتفع سقفها كثيراً بعد الانفتاح الاقتصادي، منذ سبعينيات القرن الماضي، بعدما تركت الدولة حق المواطن في التوظيف بأيدي أصحاب الأعمال".
"عشوائية سوق العمل"
يتحدث أحمد عبدالفتاح (26 عاماً)، من الإسكندرية، عن بريده الإلكتروني المكتظ برسائل أرسلها إلى مؤسسات عمل، إذ بلغت 65 وظيفة خلال عام 2020، ردّ أكثر من نصفهم بأنّ مهاراته أكبر من متطلبات الوظيفة، أمّا بقيّة المؤسسات فكان الصمت هو الجواب.
تخرّج أحمد من كلية الحقوق، قسم اللغة الفرنسية، بعد مسيرة تفوّق في مدرسة سان مارك بالإسكندرية، يقول لرصيف22: "بعد حصولي على ماجستير في القانون في سن الـ25، وإجادة الفرنسية والإنجليزية بطلاقة وإلمامي بأساسيات الإسبانية، وقت سفري للتدريب أيام الجامعة، أتلقى الرفض من الوظائف التي أتقدّم لها، بسبب امتلاكي مهارات أعلى ممّا يحتاجون، وهذا ما يعني حاجتي لراتب أكبر من ميزانيتهم المحدودة، وهكذا أتلقّى الرد كل مرة، وبالصيغة نفسها تقريباً، ولم يعد أمامي من حلول سوى السفر للخارج، وهو ما يستحيل عليّ فعله في ظل حالة الطوارئ التي تجتاح العالم".
منذ السبعينات من القرن الماضي، وخاصة بعد إعلان الرئيس السادات بيان الانفتاح، بدأت رحلة سوق العمل المصرية نحو الهشاشة، إذ تحوّلت من الاقتصاد الإنتاجي إلى الريعي والخدمي لمواكبة السوق العالمية، وتطلعات العولمة، ومع قدوم حسني مبارك الذي تبنّى برنامج الإصلاح والتكيّف الهيكلي لصندوق النقد الدولي، بدا التشوّه أكثر عنفاً في خضم عمليات الخصخصة، التي انقضّت على ما تبقّى من القطاع الخاص، بحسب عبد المطلب.
يتابع عبدالمطلب حديثه لرصيف22: "أضيف إلى عوامل الخلل الهيكلي، مصطلح "هرم البطالة المقلوب"، الذي تعانيه سوق العمل المصرية، حيث تعاني الأغلبية المتعلمة في الحضر انعكاسات البطالة، خلافاً للسواد الأعظم من أبناء الريف من غير المتعلمين، الذين ربما يجدون عملاً بسهولة".
"أتلقى الرفض في الوظائف التي أتقدّم لها، بسبب امتلاكي مهارات أعلى ممَّا يحتاجون، ما يعني احتياجي لراتب أكبر، من ميزانيتهم المحدودة"
يرجع عبد المطلب تلك التغيرات في سوق العمل إلى عاملين: "أولهما: عدم تماشي مخرجات التعليم مع سوق العمل كماً وكيفاً، بمعنى أنّ العدد الضخم الذي تقدمه المؤسسات التعليمية سنوياً أكبر من أن تستوعبه سوق العمل، وثانيهما: التغيّر الديموغرافي للسكان، إذ يرتفع أعداد الناس في سن العمل، فأكثر من نصف التركيبة السكانية لمصر، وغيرها من دول المنطقة، أقل من سن الـ60، وهذا ما يعني احتياج كل هذه الملايين إلى وظائف متنوعة، تعجز أسواق العمل المحدودة، كما في مصر وغيرها من بلدان المنطقة، عن توفيرها".
"خبرتك أكبر من المطلوب"
أمضى خالد عبد الستار، (44 عاماً)، أكثر من 20 عاماً بدولة الإمارات، يعمل كـ"محامٍ لبضع شركات"، لكن بعد الأزمة التي عصفت بكبرى اقتصاديات العالم، فقدَ عملَه، وظلّ يبحث منذ آذار/مارس الماضي عن فرصة تحتضن خبراته الطويلة، لكنه لم يجد حتى الآن.
يقول عبد الستار لرصيف22: "تمّ إبلاغي بالاستغناء عني وبدأت البحث عن عمل، راسلت كبرى شركات المحاماة في مصر والخليج، وجاءني الرد"خبرتك أكبر من المطلوب"، والمطلوب دائماً شباب حديثو التخرج، حتى تتناسب خبرتهم مع الراتب البسيط الذي تعرضه هذه الشركات".
ويشدّد عبد المطلب على أنّ سوق العمل في مصر منذ عام 2016 "تعاني تشوّهاً مضاعفاً بسبب تحول الاقتصاد إلى قطاع التشييد والبناء، مما أدّى إلى زيادة الطلب على العمال المختصّين بهذا المجال، وهذا ما يعني المزيد من التشوّه، وبقاء ملايين الشباب من المتعلمين بلا عمل مناسب، كما أنّ العمل في مجال البناء يُخصص لفئات عمرية معينة تُقصي الخبرات العالية. هذا التغير الكبير في السوق المصرية تمرّ به حالياً العديد من أسواق المنطقة، لكن بأشكال مختلفة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون