وصلت أم أشرف (54 عاماً) إلى سوق الخميس شرق القاهرة، قادمة من محافظة القليوبية لتتسوق وتوفر حاجة أسرتها قدر المستطاع قبل مطلع الشهر الجديد. ضيق الحال دفعها إلى "سوق الغلابة" كما يُطلق عليه، حيث البضائع بأسعار منخفضة مقارنة بالجديد.
منذ بضعة أشهر كان الوضع الاقتصادي للأسرة متوسطاً والدخل يكفي احتياجاتهم الأساسية، وأي طوارئ من المحتمل ظهورها. لكن عقب تحرير سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار تبدل كل شيء.
قبل ذلك، كان "خزين" المنزل من طعام وحبوب وخضروات متوفراً، أما الآن فزيارة واحدة للسوق لتوفير نوع واحد من الفاكهة، وصنف أو اثنين من الخضار، ودجاجة أو كيلو لحم، باتت كفيلة بضياع أكثر من ربع الميزانية الشهرية.
أسواق "المُستعمل" بديلاً
أصبح المقصد الوحيد لأم أشرف، ومئات غيرها، هي أسواق المنتجات المستعملة. أطباق وأواني الطهي، وكؤوس الشرب، وجميع المستلزمات المنزلية مستعملة، بل الطعام نفسه. فقد كانت آخر مرة تناولت فيها وأبناؤها اللحوم منذ أشهر للارتفاع الجنوني في أسعارها، فباتت هياكل الدواجن كالأجنحة والرقاب والأرجل هي البديل المتاح لتوفير وجبة مختلفة، والتي تضاعفت أسعارها من 5 إلى 15 جنيهاً.بقايا الجبن والخبز أصبحت تحظى بإقبال شديد في مصر بسبب أزمة الأسعار
أكثر من 11.8 مليون مواطن مصري أصبحوا في أدنى فئة إنفاقبقايا وفضلات المصانع من شيبسي، أو شيكولاتة، أو عصائر، هي حلوى تلك الأسواق. يأتي بها بائعوها لتُباع بكميات كبيرة وأسعار بسيطة بالمقارنة مع العبوات الأصلية، فضلاً عن بقايا الجبن والخبز التي تحظى بإقبال شديد، وأحيان كثيرة تكون تلك الأطعمة منتهية الصلوحية أو أن طرق تخزينها غير صحية، ولكن قلة الحيلة تدفع الناس لأكل أي شيء. "ابني الصغير بيطلب مني حاجات بسيطة مابقدرش أجيبهاله علشان الميزانية بتكفي لآخر الشهر بالعافية"، هكذا بدأ لطفي مصطفى (47 عاماً) حديثه عن الوضع الذي يمر به بعد غلاء الأسعار في الشهور الأخيرة. توجه إلى السوق كي يشتري له حذاء بدلاً من البالي المتهالك الذي يلبسه. سعر الحذاء المستعمل من 35 إلى 50 جنيهاً، أما الجديد في المحلات فيصل سعره إلى 200 جنيه، وهو أمر خارج استطاعته المادية. لعب الأطفال، والهواتف المحمولة، ومستحضرات التجميل، هنا مستعملة أيضاً، يتم فصلها من القمامة أو من بقايا المصانع، ويأتي لها ممن يصعب عليهم شراء لعبة جديدة لأطفالهم. وكلما ازدادت الأسعار، كلما ازداد زبائن تلك الأسواق. في منطقة أخرى غرب القاهرة كان هاني (36 عاماً) يبحث عن غسالة مستعملة في منطقة جمع الخردة، ربما تكلفه نحو 1500 جنيه، في حين أن الجديدة تبلغ نحو 10 آلاف جنيه وهي ميزانية شهور قادمة لا يستطيع توفيرها أو سد عجزها. انتشرت هذه الأسواق بكثرة، حيث تبيع الأدوات الصحية والأجهزة الكهربائية والأثاث القديم، والأثاث المنزلي، والأدوات الكهربائية والصحية المستعملة، و"كل شيء له زبونه". يقول هاني لرصيف 22 إنه يقلل من زياراته للطبيب وتناول الأدوية، ليوفر لأسرته التكلفة، كذلك توقفت النزهات لأطفاله وقلل من دروسهم الخصوصية، ووفروا في شراء الملابس حتى تكفيهم الميزانية العاجزة أمام الأسعار. أما محمد عزمي (23 عاماً) فقد نزل ورفاقه إلى وسط القاهرة حيث "الوكالة"، التي تضم المئات من محلات الملابس بجودة مقبولة وأسعار أرخص من أسعار "محلات الماركات" التي لا تناسب دخلهم. قبل الأزمة الاقتصادية كان سعر "الطقم" الكامل نحو 300 جنيه يشمل: قميصاً، وسروالاً، وحذاء، وساعة، أما الآن فكل شيء ارتفع للضعف حتى المستعمل، ويحتاج لنحو 100 جنيه لشراء كل هذا. ومعظم الملابس في تلك المنطقة تكون مستعملة، أو بقايا ملابس قادمة من دول الاتحاد الأوروبي التي ازداد سعرها نتيجة الفرق الشاسع في العملة.
الفقر باقي ويتمدد
ارتفعت نسبة الفقراء في مصر إلى 27.8% خلال عام 2015 مقابل 25.2% عام 2010، حسب ما جاء في تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بل إن أكثر من 11.8 مليون مواطن أصبحوا في أدنى فئة إنفاق، وصل لنحو 333 جنيهاً شهرياً، ذلك حينما كان سعر الدولار نحو 8.8 جنيهات. وعقب تعويم العملة المحلية، انهار الجنيه المصري مسجلاً الأداء الأسوأ في تاريخه بعد انخفاضه بنسبة 58.84% خلال 2016، فيما ظلت الأجور كما هي، الأمر الذي هبط بالقوة الشرائية للمواطنين لأكثر من النصف، ودفع بالكثير من الطبقة الوسطى إلى الفقر. اختلفت أرقام خط الفقر جذرياً بعد وصول سعر الدولار إلى 18 جنيهاً، الأمر الذي جعل الفرد يحتاج إلى 1026جنيها ليعيش خارج منطقة الفقر، ودخل نحو 30 مليون مصري تحت خط الفقر المدقع، وأصبحت الأسرة المكونة من 3 أفراد تحتاج شهرياً إلى 3 آلاف جنيه للعيش تحت خط الفقر، وفي ظل ثبات المرتبات وتحديد حد أدنى للأجور بقيمة 1200 جنيه وارتفاع الأسعار، سترتفع نسبة الفقر في مصر لأكثر من 40% العام المقبل، أي أكثر من 40 مليون مواطن. كما ارتفعت تكاليف المعيشة على الطبقة العاملة والمتوسطة بعد الإجراءات الاقتصادية الصعبة وفرض ضريبة القيمة المضافة، وزيادة الرسوم الجمركية وخفض الدعم على الوقود. وأدى ارتفاع الأسعار وثبات الأجور بالطبقة المتوسطة إلى مزيد من الفقر، وبحسب التايمز فإنها تنصهر تدريجياً في الطبقة الفقيرة، بعد انحدار نحو 10% منها حتى الآن.مستقبل غامض
محافظ البنك المركزي المصري، طارق عامر، قال إن البنك نجح في توفير 30 مليار دولار منذ تحرير سعر الصرف، وأن هناك تدفقات كبيرة دخلت للبنك في مارس الماضي، والسياسات الاقتصادية الجديدة أدت إلى تدفق أموال أكثر. فيما أكد نائبه أن التدفقات النقدية من يناير 2016 حتى أكتوبر 2016 كانت 6 مليارات دولار فقط، وبعد تحرير سعر الصرف من نوفمبر2016 حتى مارس 2017 وصلت لنحو 16.2 مليار دولار. ورغم تصريحات الحكومة بأن برنامجها الاقتصادي يستهدف إصلاح الأوضاع المتردية للمواطن، فقد قال البنك الدولي بأن ارتفاع معدل التضخم ساهم في تدهور الأحوال الاجتماعية، خاصة مع استمرار ارتفاع معدل البطالة الذي بلغ 12.6% في 2016. وأضاف في تقرير له بأن إصلاحات الحكومة أدت إلى تفاقم الضغوط الاجتماعية في الأمد القصير، وتخفيف أثر الصدمات السلبية الأخيرة يتوقف على تطبيق آلية توجيه فعالة. ورغم الآثار الاجتماعية السلبية للإصلاح الاقتصادي حتى الآن، فإن هناك اتجاهًا من وزارة المالية لإلغاء الدعم على إسكان محدود الدخل، وإلغاء دعم محصول القمح وقصب السكر، فضلاً عن رفعه تدريجياً من الكهرباء والسولار، ما يؤدي إلى زيادة الأسعار بنسب أكبر وانحدار ملايين أخرى لـ"تحت خط الفقر".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...