شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"بيت فاطم"... محاولات البحث عن الونس في قلب القاهرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 26 مايو 202101:56 م

قد تجبر متطلبات الحياة والانشغال الدائم معظم الأشخاص على عدم التواصل أو التواصل على فترات متباعدة، فيجد البعض نفسه وحيداً يعيش في مدينة كبيرة يسكنها ملايين البشر، ولا يجد شخصاً واحداً يتحدّث إليه أو يسأل عنه.

أسباب الوحدة كثيرة ولكن النتيجة واحدة.

"لما تلاقي نفسك وحيد، اعزم شخص ما تعرفهوش على قهوة، انزلوا اتمشوا، احضروا حفلات مسرح. اقبلوا دعوات بعض، ما تتحرجوش، خلوا الونس يسري".

هكذا بدأ الصحفي المصري محمد طاهر رحلته لمساعدة الناس على التخلّص من الوحدة، فتبنّى وأطلق العديد من المبادرات، وأنشأ مركزاً في القاهرة باسم "بيت فاطم" ليستقبل فيه الزوار، وينظم جلسات "لقاء الونس"، بهدف الحصول على صحبة آمنة وخلق مساحات للحوار.

يقول محمد (39 عاماً) في لقاء مع رصيف22: "فكرة الونس كانت دائماً هاجساً في بالي، ولكن تنفيذها على أرض الواقع كان عام 2015. كنت أختار أشخاصاً لا أعرفهم وأعرض عليهم احتساء مشروب ما أو الذهاب معاً إلى المسرح أو الحفلات". لاقت فكرة محمد حينها قبولاً كبيراً، فتشجّع على تنفيذ المزيد.

بيت فاطم هو مكان في القاهرة ينظم جلسات "لقاء الونس"، للحصول على صحبة آمنة وخلق مساحات للحوار.

"أحب الرسم على القماش، فكنت أكتب على تيشيرتات جُملاً بالخط العربي، ثم أعرضها للبيع على صفحتي الشخصية على فيسبوك، ولكن المقابل لم يكن نقوداً، إنما وروداً أو كتباً أو تذاكر للسينما أو المسرح. في نفس الوقت كنت أبحث عمّن يريد حضور حفل أو الحصول على كتاب، ونجتمع معاً، فمن له التيشيرت يتسلمه ويعطي التذاكر لمن يريدها، ويذهبون إلى الحفل معاً. كل ذلك كان يحدث دون سابق معرفة، وكنت أكرر الأمر أسبوعياً، لأنني أريد خلق ذكريات لطيفة لي وللآخرين، حتى لو لم أكن أعرفهم".

ويستطرد الشاب بالقول: "كتبت منشوراً على صفحتي الشخصية عام 2017، قلت فيه إن على من يجد نفسه وحيداً، ألا يتردد في أن يعزم شخصاً آخر لا يعرفه، لتناول مشروب أو حضور حفل ما، مع الحفاظ على مساحة الأمان بينه وبين الناس والتعامل معهم بلطف ومودة. وفي المقابل عليه ألا يشعر بالحرج من تلبية دعوة شخص آخر. علينا القيام بذلك حتى يسري الونس بيننا".

محمد طاهر مؤسس "بيت فاطم" - المصدر: فيسبوك

هنا بيت فاطم

تشجع عدد كبير من متابعي محمد طاهر على التخلّص من تخوّفاتهم من مقابلة الأغراب، ولذلك قرّر تخصيص يوم في الأسبوع للّقاء، فتارة يجتمعون في دار الأوبرا، ومرة أخرى في مقهى بوسط البلد، حتى أصبح هناك مكان مخصص أنشأه لتلك الجلسات يسمى "بيت فاطم".

بحسب المتحدث، فإن تلك اللقاءات مستمرة حتى الآن تحت عنوان "جلسات الونس" ولكن بإطار واضح تنظيمي يحدّد الفكرة، فجلسة الونس مساحة آمنة لا أحد فيها يستغلّ الآخر أو يتعرّض له بمضايقات، وعلى الحاضر أن يكون أميناً، لا يُقيّم الآخرين أو يحكم عليهم. يضيف: "نتعامل بمودة، نساعد بعضنا بنبل، ونحتوي سيئات وسلبيات بعضنا دون أذى".

يعتبر محمد تلك الجلسات بمثابة رحلة وحالة إنسانية ثرية بالقصص والحكايات والمشاعر. هم أغراب يتعاملون مع بعضهم ويتواصلون بطلاقة وثقة وأمان، مع مراعاة السلامة الشخصية والنفسية.

"تنقلنا في أماكن كثيرة حتى استقرينا في 'بيت فاطم'، الذي أعتبره مساحة التقاء كل أفكاري الإنسانية التي أحاول تنفيذها منذ سنوات. فبجانب الونس، هناك مبادرات نظمتها لنشر البهجة، إذ ننزل إلى الشوارع ونوزع على الناس بالونات ملونة وكتباً وغزل بنات". هكذا يقول محمد، ويضيف: "هناك مبادرة أخرى أتبناها بعنوان 'هل حضنت ابنتك اليوم؟'، للتوعية بأهمية التواصل بين الأب وابنته وفتح مساحة للحوار بينهما".

من مبادرة "هل حضنت ابنتك اليوم" - المصدر: فيسبوك

أخضر أحمر

تقوم فكرة "بيت فاطم" على أن الزائر لن يجلس بمفرده، فإذا جاء وحيداً سيجد من يجالسه ويتحدث إليه. وواحدة من الأفكار التي طُرحت لتنفيذ ذلك كانت بعنوان "أخضر أحمر"، وهي عبارة عن قطع خشبية ملونة توضع على الطاولات. فمن يريد التواصل مع الآخرين، وهم أغراب لا يعرفهم، يضع العلامة الخضراء، ومن يريد الجلوس بمفرده يضع العلامة الحمراء، وذلك حتى لا يشعر الزوار بالحرج أو الغرابة.

وعن هذه الفكرة يشرح طاهر في حديثه: "متوقع في مكان عام ومفتوح حضور أشخاص نواياهم سيئة، ولذلك وضعت بعض الشروط التنظيمية للفكرة ولجلسات الونس، حتى لا يتعرّض أحد لأي مضايقات وخاصة الفتيات، وأحرص على التواجد طوال الوقت حتى أستطيع التدخل في أي وقت إذا حدثت مشكلة ما، وحتى الآن لم أتعرّض أنا أو الزوار لأي موقف سلبي".

فكرة "أخضر أحمر" في "بيت فاطم" - المصدر: فيسبوك

خلوا الونس يسري

ينظم "بيت فاطم" عدداً من جلسات الونس لكل فئة على حدة، فهناك "ونس الآباء" لكبار السن الذين يعيشون وحدهم أو تقاعدوا، ويتوفر لهم متطوعون لتوصيلهم من وإلى البيت، وخلال الجلسات يحكون عن تجاربهم وقصصهم، يراجعون ذكرياتهم، يغنون معاً و"يتونّسون".

هناك أيضاً جلسات ونس للشباب ممن لم تتجاوز أعمارهم العشرين، بحضور أخصائي نفسي، يفضفضون ويعبرون عن أنفسهم، ويتعلمون تقبّل الآخر وعدم الحكم عليه مهما كانت أفعاله، لأن كل شخص جدير بالاحترام والتقدير.

جلسات أخرى تُنظم للمغتربين الموجودين بالقاهرة، خاصة الأفارقة، وللأطفال من عمر 6 إلى 10 سنوات لاكتشاف مواهبهم، ومساعدتهم على النضوج بمعرفة آمنة، بإشراف أخصائي نفسي لمعرفة سلوكياتهم وأفكارهم تجاه الآخرين وذواتهم. وفي رمضان الفائت نظم "بيت فاطم" مبادرة "ما تفطرش وحدك"، دعا فيها كل من يعيشون وحيدين في القاهرة وما حولها للقدوم وتناول الإفطار بصحبة آخرين.

على من يجد نفسه وحيداً، ألا يتردد في أن يعزم شخصاً آخر لا يعرفه، لتناول مشروب أو حضور حفل ما، مع الحفاظ على مساحة الأمان بينه وبين الناس والتعامل معهم بلطف ومودة. وفي المقابل عليه ألا يشعر بالحرج من تلبية دعوة شخص آخر. علينا القيام بذلك حتى يسري الونس بيننا

تلقى محمد الكثير من الرسائل الداعمة وآراء الزوار الذين أحبوا مبادراته وأثرت فيهم بشكل شخصي. يقول سامح (اسم مستعار) في حديث لرصيف22: "أواجه مشاكل عدة منذ فترة طويلة، ازدادت عندما استقريت في القاهرة، وبسبب جلسات الونس، لم أعد أتأثر بتلك المشكلات وأصبحت أتجاوزها بسهولة، وذلك بعدما وجدت سنداً وصحبة وأماناً، وشعرت بالمحبة في لقاءاتنا الأسبوعية والتواصل الدائم بيننا".

وتحكي شيماء لرصيف22 عن اللحظة الفارقة في حياتها عندما قررت حضور جلسات الونس: "كنت أعيش أياما صعبة وثقيلة، أؤدي أعمالي وواجباتي كأم بأقل مجهود، أشعر أنني بلا طاقة، أريد البوح إلى شخص ما علّي أرتاح وأتجاوز. كنت مترددة حتى أول لقاء للونس، حينها تعرفت على ناس جديدة، تحدثت وحكيت عما يؤلمني، عن أكثر التجارب التي مررتها وجعاً في حياتي وقد سببت لي أزمة نفسية وجسدية، والتي لم أكن أتخيل أن أبوح بها يوماً خاصة لأغراب لا أعرفهم سوى من دقائق قليلة".

تضيف شيماء، وقد فضلت استخدام اسم مستعار في حديثها، بأنها تلقت خلال جلسات الونس الكثير من كلمات الدعم التي استمعت إليها من أشخاص استطاعوا استيعاب مشاعرها جيداً، وآخرين مّروا بتجارب مشابهة واستطاعوا تخطيها أو ما زالوا يحاولون. "بدأت أنفذ النصائح التي ناقشناها، خاصة تلك المتعلقة بابنتي، بعدها قررت اصطحابها معي، حتى نستطيع تجاوز الصعب الذي عشناه معاً، ونتونس بالونس، مؤمنة بأن الوقت كفيل بمداواتنا".

من "بيت فاطم" - المصدر: فيسبوك

تبادل الحكايات ومشاركة المعارف

لم يتوقف الأمر حد التعارف وتبادل الحكايات وتقضية الوقت مع الآخرين، إنما تطور للاستفادة من ذلك الوقت في تدوير المعرفة، وبحسب محمد طاهر، طلب ممن لديه موهبة معينة أو هواية أو معرفة ما، أن يشاركها مع الآخرين إذا لم يمانع، وذلك من باب تبادل الخبرات ونشر المعارف، وعليه نُظمت حوالي 12 ورشة تعليمية حتى الآن في مجال التسويق، الطب النفسي، اليوجا، التمثيل، الإتيكيت وغيرها، على أن تستكمل في الفترة المقبلة.

كنت أعيش أياما صعبة، أؤدي أعمالي وواجباتي كأم بأقل مجهود، أشعر أنني بلا طاقة، أريد البوح إلى شخص ما. كنت مترددة حتى أول لقاء للونس، حينها تعرفت على ناس جديدة، تحدثت وحكيت عما يؤلمني، عن تجارب لم أكن أتخيل أن أبوح بها لأغراب لا أعرفهم سوى من دقائق قليلة

يضيف محمد: "أجهز لمبادرة حالياً مفادها التواصل مع الناس الذين يشعرون بالوحدة ولا يريدون الخروج من منازلهم، فمن يريد التحدث مع شخص عبر الهاتف يرسل رقم هاتفه ونوفر له من يبادله التحية والكلام. يشارك حوالي 200 متطوع في هذه المبادرة، وستكون مقننة بشكل أكبر، وستنفذ مع مؤسسة لعمل تدريبات تأهيل للمتطوعين، وتعليمهم كيفية التعامل مع الأشخاص الذين يعانون الوحدة ومع كبار السن ومن يعاني مشاكل نفسية، لأن الأمر عبر الهاتف فيه صعوبة كبرى على عكس التواصل المباشر في جلسات الونس".


الإنسانية تجعل العالم حولنا أفضل

الرسائل الإنسانية التي يرى محمد طاهر أنه قادر على نشرها ستساعد أشخاصاً كثيرين ليعيشوا حياة أفضل، ويكسروا الحواجز التي بنوها حول أنفسهم وتمنعهم من التمتع بالحياة، ويتخلصوا من أفكار سلبية قد تراودهم ويرزحون تحت وطأتها، منها على سبيل المثال فكرة أن يحتضن كل أب ابنته، وأن يستمع الآباء والأمهات لأولادهم، ويصاحبوهم ويشاركوهم حياتهم، وألا يحاولوا السيطرة عليهم أو التحكم بهم.

افتحوا الشبابيك واتقابلوا، قدموا الأمان والسلام والود والنبل والجدعنة.

يقول: "يجب أن نحافظ على إنسانية بعضنا البعض، لذلك فإن القبول غير المشروط حق مطلق للجميع. يمكننا استنكار الأفعال السيئة، ولكن مع الحفاظ على احترام الفرد وعدم إهانته حتى ولو كان مخطئاً، فكلنا نخطئ وهذا ليس معناه ألا يتم تقديرنا أو احترامنا. أيضاً، يجب أن نتقبل بعضنا في العموم، وأن نرحم ونتعامل بلطف ومعذرة غير محدودة".

ويستكمل: "أؤمن أن محاولات الفرد المتكررة ستوصله في النهاية إلى النتيجة التي يريد تحقيقها، حتى ولو واجه صعوبات وعوائق، لذلك أؤمن أن ما أتمناه سيتحقق يوماً ما، وحتى تصبح الأحلام حقيقة، افتحوا الشبابيك واتقابلوا، قدموا الأمان والسلام والود والنبل والجدعنة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image