حين يغادر الجميع المنزل، يغلق آخر الخارجين الباب خلفهُ. باقٍ أنا إلى أن يهاجر آخر الأصدقاء، لأغلق باب المدينة خلفه، ثم أعود إلى غرفتي في القرية.
منذ سنوات، اتّخذت قراراً بعدم الهجرة، ولأسباب لا علاقة لها بعبارة "تراب الوطن أغلى من الذهب"، ولا بأي عبارة مشابهة لذلك، فكل شخص لديه أسبابه التي قد يراها الآخرون بلا معنى وغير منطقيّة.
على سبيل المثال، أنا لا أريد الهجرة بسبب علاقاتي اللطيفة مع عدد قليل من الأصدقاء الذين أتشارك معهم الفرح والتعب، ولأنّني أحببت منذ عام فتاةً أجمل وأرقّ من فجرٍ يُطلّ مشعشعاً على بساتين قريتي، وهي لا ترغب بالسفر، إضافةً إلى أنّني أخاف ركوب الطائرة، كما ترهقني وتصيبني بالكآبة فكرة أن أعيش في بيئة لا أتقن لغتها بما يسمح لي بأن أعبّر عن أفكاري وألمي وفرحي كما أفعل بلغتي، وغير ذلك الكثير من الأسباب.
الغربة هي البعد عن الوطن، وغالباً تشير إلى المشاعر السلبية المرافقة للانقطاع عن الأهل والأجواء المعتادة. هذا ما قرأته على "ويكيبيديا". ورغم أنّني لم أهاجر، ينتابني شعور بالغربة بين الحين والآخر، والسبب هو هجرة بعض أصدقائي الذين كانت عتبة منزلي تميّز بين خطاهم وخُطى الغرباء.
الأصدقاء هم جرس المدرسة حين يُقرع معلناً نهاية حصة الرياضيات المملة، باب المنزل المغلق بإحكام في وجه اللصوص، مدفأة الحطب في ليالي الشتاء، عملية التركيب الضوئيّ التي تمنح فيها الأشجار الأوكسيجين لكوكب الأرض، والفرح بهدف عبد القادر كردغلي على البحرين في تصفيات كأس العالم 1986.
الأصدقاء غرفتك المزدحمة بالذكريات والضحك. والذكريات كالمجازر لا تُنسى. في غيابهم تدرك تماماً معنى الغربة وأنت في منزلك.
صديقي الذي كان بيني وبينه آلاف الضحكات والنقاشات الحادة حول الشعر والسينما والموسيقى، حين هاجر أُصبت بعرج واضح، وندوب في ظهري. وتتالت هجرة الأصدقاء، وزاد عرجي، وكثرُت الندوب.
الأصدقاء غرفتك المزدحمة بالذكريات والضحك. والذكريات كالمجازر لا تُنسى. في غيابهم تدرك تماماً معنى الغربة وأنت في منزلك
تعالَ يا صديقي، فالعمر أسرع من أيّ أرنب كنّا نشاهده في برامج الأطفال الكرتونية. أتذكر الأولاد الذين كانوا يلعبون كرة القدم أمام المقهى الذي كنّا نجلس فيه كل يوم؟ لقد كبروا في غيابك.
يفرح قلبي حين أرى أحدهم يدخل المقهى ممسكاً بيد حبيبته، ويلقي عليّ التحية: "مرحبا عمو". لقد نفضوا الغبار عن أحذيتهم وركضوا نحو الحبّ، تاركين كرة القدم في الزقاق وحيدةً.
تعالَ يا صاحبي القديم لنلعب بلا حَكمٍ وبلا مرمى، نلعب فقط من أجل أن نستمتع، ونملأ المدينة بالغبار والضجيج.
صديقي الذي كان بيني وبينه آلاف الضحكات والنقاشات الحادة حول الشعر والسينما والموسيقى، حين هاجر أُصبت بعرج واضح، وندوب في ظهري. وتتالت هجرة الأصدقاء، وزاد عرجي، وكثرُت الندوب
هل ستعود؟ ربما لن تفعل، وسنكبر ونعاني من تضخم في غدة البروستات، والتهابات في المجاري البولية، وسيضعف نظرنا لدرجة تمنعنا من التواصل عبر العالم الافتراضي، وفي ليلة شتوية باردة، وأنا في طريقي إلى الحمام، وقبل أن أصل بخطوتين سينقطع التيار الكهربائي فأتعثر وأسقط ويرتطم رأسي على الأرض بكل ما فيه من ذكريات جميلة معك.
لحظتها ستستيقظ وتهرع نحو حمام بيتك صارخاً عبر فوهة كرسي الحمام: "هل أنت بخير يا صديقي؟ هل أنت بخير؟". "أنا بخير. لماذا تصرخ؟ كل ما في الأمر أن الكهرباء انقطعت وتعثرت"، فتضحك، وتقول: "السقوط لا يؤثر بك، فأنت لا تزال شاباً". أضحك قائلاً: "أين الشباب أيها الوغد؟ غداً سيكون عيد ميلادي السبعين". وبمنتهى الجدية تقول لي: "ألم تتعلم بعد كيف تحسب عمرك أيها الأحمق؟ غداً ستكمل 68 عاماً بحسب الطريقة التي يتم فيها حساب السنين في جمهورية بنين الإفريقية، والتي تعتمد على سرعة الريح التي تعبر حقول القطن في ظهيرة يوم الثلاثاء، أما بحسب رغبتك في الحياة فأنت ستكمل العشرين، ويمكنك الالتحاق بالمنتخب الوطني لكرة القدم، وقيادة الفريق السوريّ إلى نهائيات كأس العالم وتحقيق حلمك".
يغمرني كلامك بالفرح، فأسعل من شدة الضحك، وأخبرك أن أجمل الهدايا في عيد ميلادي هي هذه النظريات التي تخترعها كل عام لتجعلني أصغر من عمري الحقيقيّ، وأنه في غيابك زاد العرج في قدمي، وزادت الندوب على ظهري، وكل ما أتمناه من الحياة هو أن تعود من الغربة لنتبادل الكلام والضحك وجهاً لوجه.
ما رأيك أيها الوغد أن تأتي قبل عيد ميلادي؟ يسود الصمت ولا أتلقى إجابة. أكرر السؤال أكثر من مرة دون إجابة منك. أصرخ: "ألووو... ألووو...". لقد انقطع الاتصال فجأةً بسبب عطل عالمي في قنوات الصرف الصحيّ.
* هذا النص مهدى إلى صديقي بريء خليل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون