هناك قاعدة ذهبية تقول: "عاملوا الناس بالطريقة التي تحبون أن يعاملوكم بها"، وفي حين أن هذا القول المأثور نتعلمه منذ الصغر، إلا أنه اتضح أن هناك عدداً لا يحصى من الفوائد المرتبطة بالطريقة التي نتعامل بها مع الآخرين.
كبشر، نحن مهيئون بيولوجياً لنكون طيبين، ويمكننا تطوير هذه السمة بالممارسة والتكرار، ولكن في بعض الأحيان، بسبب التأثيرات الخارجية وضغوط حياتنا اليومية، يمكن أن نفقد هذه القدرة المتأصّلة بنا.
ما العلاقة بين مساعدة الآخرين والعيش لفترة أطول، وكيف ينعكس ذلك على الصحة النفسية والجسدية؟
إطالة العمر
في كتاب البلاغة، يعرّف أرسطو اللطف على أنه المساعدة التي يقدمها المرء لشخص محتاج، مشدداً على أن هذه المساعدة "لا تكون مقابل أي شيء ولا لصالح المساعد نفسه، ولكن لصالح الشخص الذي يساعده". بمعنى آخر، كان أرسطو يعتقد بأن أحد المكونات الأساسية لعيش حياة كريمة هو مساعدة الآخرين.
لا شك أن اللطف يساعدنا على التواصل مع الآخرين وبناء علاقات أكثر إيجابية مع الأصدقاء والعائلة، وحتى مع الغرباء الذين نلتقي بهم في حياتنا اليومية، ولكن المفارقة أن أعمال الخير قد تساعد على تحسين الصحة، إذ أثبتت الدراسات العلمية أن التطوع وجمع التبرعات وأعمال الخير والإحسان في الحياة اليومية، كلها أمور تعزز الرفاهية وتطيل العمر.
في هذا الصدد، كشفت إحدى الدراسات أن التطوع مرتبط بانخفاض خطر الموت المبكر بنسبة 24%، ما يعادل تقريباً تأثير تناول 6 حصص على الأقل من الفاكهة والخضار يومياً.
أثبتت الدراسات العلمية أن التطوع وجمع التبرعات وأعمال الخير والإحسان في الحياة اليومية، كلها أمور تعزز الرفاهية وتطيل العمر
وأوضحت دراسة أخرى أن المتطوعين أقل عرضة للإصابة بارتفاع نسبة الغلوكوز في الدم، وأقل عرضة لمخاطر الإصابة بالالتهابات المرتبطة بأمراض القلب، كما أنهم يقضون ليالي أقل في المستشفيات بنسبة 38% مقارنة بالأشخاص الذين يخجلون من المشاركة في الأعمال الخيرية.
واللافت أن تأثير التطوع على الصحة لا يقتصر على بلد واحد، فقد خلصت دراسة، بناء على بيانات من مؤسسة غالوب لاستطلاعات الرأي، إلى أن ممارسة الأعمال التطوعية تسهم في تحسين الحالة الصحية في جميع أنحاء العالم، بدءاً من إسبانيا ومصر وصولاً إلى أوغندا وجامايكا.
قد تعزى هذه النتائج إلى أن الأشخاص الذين يتمتعون بصحة أفضل من غيرهم هم ببساطة في وضع يسمح لهم بالتطوع.
العوامل البيولوجية
سلّطت العديد من التجارب الضوء على الآليات البيولوجية التي توضح الرابط بين مساعدة الآخرين وتحسين الحالة الصحية.
ففي إحدى التجارب، تم تكليف طلاب إحدى المدارس الثانوية في كندا، إما بتعليم طلاب المرحلة الابتدائية لمدة شهرين أو وضعهم على قائمة الانتظار.
وبعد 4 أشهر وانتهاء الدرس الخصوصي، كشفت فحوص الدم أن الطلاب الذين كانوا يقومون بتعليم الأطفال كانت مستويات الكولسترول لديهم، وكذلك مؤشرات الالتهابات في الجسم، أكثر انخفاضاً، مقارنة بأقرانهم الذين لم يساعدوا الأطفال.
والمفارقة أنه ليس فقط آثار التطوع الرسمي هي التي تظهر في الدم، بل أثر أعمال الخير والإحسان يظهر بوضوح أيضاً في نتائج فحص الدم.
ففي دراسة أجريت في كاليفورنيا، لاحظ باحثون أن المشتركين الذين تم تكليفهم بأفعال لطيفة بسيطة، مثل شراء كوب قهوة لشخص غريب، كان لديهم نشاط أقل في جينات الكريات البيضاء المرتبطة بالالتهابات، الأمر الذي يعد مؤشراً إيجابياً، لأن الالتهابات المزمنة مرتبطة بأمراض عديدة، مثل التهاب المفاصل الروماتويدي، السرطان، أمراض القلب والسكري.
وفي السياق نفسه، أجريت تجربة على بعض المشتركين الذين خضعوا لجهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وطلب منهم الباحثون اتخاذ قرارات متعددة، منها التبرع بالمال، بينما كانت أيديهم تتعرض لصدمات كهربائية خفيفة.
لاحظ الباحثون أن مناطق الألم بأدمغة المشتركين الذين يتبرعون بالمال أظهرت نشاطاً أقل استجابة للألم، وبالمثل، يبدو أن التبرع بالدم يؤلم أقل من أخذ عيّنات الدم في الفحوص الدورية، على الرغم من أن الإبرة في الحالة الأولى قد تكون ضعف سمك الإبرة في حالة أخذ عينات الدم.
ماذا يحدث في الدماغ عند تقديم المساعدة؟
إن إنفاق الأموال على الآخرين بدلاً من إنفاقه على المتعة الشخصية، يؤدي إلى تحسين السمع والنوم وخفض ضغط الدم، بالإضافة إلى تنشيط مناطق معيّنة من الدماغ.
وقد علّقت تريستين إناغاكي، عالمة الأعصاب في جامعة سان دييغو، على هذه النتائج بالقول: "البشر اجتماعيون للغاية، ولدينا صحة أفضل عندما نكون مترابطين، وجزء من الترابط هو العطاء".
انكبت إناغاكي على دراسة شبكة الدوائر العصبية المرتبطة بسلوكيات مساعدة الآخرين والحالة الصحية. وتتكون هذه الشبكة من مناطق المكافأة في الدماغ، مثل المنطقة الحاجزية والمخطط البطني، وهي المناطق التي تنشط عادة عندما نحصل على مكافآت.
من خلال ربط الأبوة والأمومة بنظام المكافآت، حاولت الطبيعة أن تضمن أننا لا نهرب من صراخ أطفالنا الذين يحتاجون إلى الرعاية، وأظهرت دراسات التصوير العصبي التي أجرتها إناغاكي وزملاؤها، أن مناطق الدماغ تنشط أيضاً عندما نقدم الدعم لأحبائنا، الأمر الذي يلعب دوراً في تحسين صحة القلب والأوعية الدموية ويساعد على العيش لفترة أطول.
في حديثها مع موقع رصيف22، أوضحت الأخصائية في علم النفس، لانا قصقص، أن العطاء هو من الحاجات البشرية التي يسعى المرء لتلبيتها، والتي لديها آثار إيجابية على صحته النفسية، شارحة ذلك بالقول: "العطاء يوفر لنا نوعاً من الاكتفاء الذاتي والامتنان، ويزيد من ثقتنا بأنفسنا ومن الرضا الشخصي والشعور بالسعادة وبالراحة النفسية".
وأشارت قصقص إلى أنه عندما "يقوم المرء بتقييم ذاتي لما فعله مع الآخرين من دون مقابل، يشعر بسعادة داخلية وبتحقيق مكاسب إيجابية".
من هنا شددت لانا على أهمية العطاء ومساعدة الآخرين: "صحيح أنه من دون مقابل، إلا أن العطاء لا يكون أبداً باتجاه واحد، إذ إنه في نهاية المطاف هناك فوائد يمكن أن يجنيها المرء، من بينها المشاعر الإيجابية والرضا والشعور بالإنسانية".
فيما يلي بعض الفوائد التي يمكن أن يجنيها المرء من اللطف ومساعدة الآخرين:
اللطف يطلق هرمونات الشعور بالسعادة: غالباً ما نلاحظ أنه عندما نفعل شيئاً لطيفاً لشخص آخر، فهذا يجعلنا نشعر بتحسن أيضاً. هذا ليس مجرد شيء يحدث بشكل عشوائي، بل يتعلق بمراكز المتعة في عقلنا.
في الواقع، إن القيام بأشياء لطيفة للآخرين يعزز السيروتونين، الناقل العصبي المسؤول عن الشعور بالرضا والرفاهية، ويطلق أيضاً الإندورفين، وهي ظاهرة تُعرف باسم "نشوة المساعدة".
اللطف يخفف القلق: سواء كان خفيفاً أو شديداً، فإن القلق هو تجربة بشرية شائعة للغاية، في حين أن هناك عدة طرق لتقليل القلق، مثل التأمل، التمارين الرياضية، بعض الأدوية الموصوفة والعلاجات الطبيعية، فقد اتضح أن التعامل بلطف مع الآخرين يمكن أن يكون أحد أسهل الطرق للتخلص من القلق.
"العطاء يوفر لنا نوعاً من الاكتفاء الذاتي والامتنان، ويزيد من ثقتنا بأنفسنا ومن الرضا الشخصي والشعور بالسعادة وبالراحة النفسية"
اللطف يحسن القلب: التعامل بلطف مع الآخرين يمكن أن يؤثر على التوازن الكيميائي الفعلي للقلب. اللطف يطلق هرمون الأوكسيتوسين الذي يؤدي إلى إطلاق مادة كيميائية تسمى أكسيد النيتريك في الأوعية الدموية، ما يؤدي إلى توسيع الأوعية الدموية وخفض ضغط الدم.
التقليل من التوتر: في حياتنا المزدحمة، نبحث باستمرار عن طرق لتقليل التوتر. وقد تسمح مساعدة الآخرين بأخذ استراحة من مسببات التوتر، ويمكن أن يجعل هذا السلوك المرء أفضل استعداداً للتعامل مع المواقف العصيبة، بحيث يشكل السلوك الانتمائي عنصراً مهماً في التعامل مع الإجهاد، ويشير إلى أن الانخراط في السلوك الاجتماعي الإيجابي قد يكون استراتيجية فعالة للحد من تأثير الإجهاد على الأداء العاطفي.
لكن ماذا لو كان المرء غير معطاء بطبعه؟
إن التعاطف، وهي الصفة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسلوكيات التطوع والعطاء، وراثية للغاية، ومع ذلك أكدت سارة كونراث أن هذا لا يعني بأن الأشخاص الذين يولدون بتعاطف منخفض، يتم الحكم عليهم بالفشل: "لقد ولدنا بإمكانيات رياضية مختلفة، ومن السهل بالنسبة للبعض منّا بناء عضلات مقارنة بالآخرين، ولكن يمكننا جميعاً أن نبني عضلات إذا مارسنا التمارين الرياضية. بغض النظر عن المكان الذي نبدأ منه، يمكننا جميعاً تحسين التعاطف".
واللافت أن هناك بعض التدريبات لتحسين القدرة على الإحساس بمشاعر الآخرين، والتي لا تستغرق سوى بضع ثوان، فبإمكان المرء، على سبيل المثال، أن يرى العالم من منظور شخص آخر، ممارسة التأمل الذهني، بالإضافة إلى الاعتناء بالحيوانات الأليفة وقراءة الكتب المفعمة بالعواطف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون