شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"حبيبتي تزوجت وأصحابي قُتلوا في الحرب"... مرضى نفسيون منسيون في اليمن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 29 نوفمبر 201903:54 م

تُعدّ من أكبر ضحايا الحرب في اليمن، لكنها فئة منسية من قبل السلطات المحلية والمنظمات الدولية، فخلال السنوات الأخيرة ازداد عداد المرضى النفسيين في البلاد بشكل كبير، في الوقت الذي قدرت إحصائية محلية سابقة أن عددهم تجاوز 5 مليون حالة.

الحرب،والقصف العشوائي لمقاتلات التحالف، والأزمة الاقتصادية التي أدت إلى الإفلاس، ناهيك عن النزوح المتواصل من محافظة إلى أخرى، اعتقال وسجن آلاف اليمنيين في مختلف مناطق البلاد، كلّ ذلك أدّى الى اضطرابات نفسية لدى السكان، وتدهور حالتهم الصحية.

تشهد اليمن حرباً منذ خمس سنوات، بين الحوثيين والقوات الحكومية المدعومة من قبل التحالف العربي، حرب أدّت الى وفاة ربع مليون شخص، إما بشكل مباشر بالرصاص والقصف، أو بشكل غير مباشر، بسبب تفشي الأوبئة والأمراض والمجاعة والفقر، بحسب صندوق الأمم المتحدة الإنمائي.

"زوجي ميّت وهو حيّ"

"كثير من الذين أعرفهم كانوا يصفونني بالبشوشة ذات الضحكات المتعالية، لكن من تلتقي بي بعد الزواج من الصديقات تتعجب: ماذا جرى لك؟ كأنك دُفنت ولم تتزوجي"، تقول أمل علي (28عاماً).

تظهر ملامح الحزن والقهر على وجه أمل، وهي تحكي قصّتها، فقد تحمَّلت كل ما بدر من زوجها المصاب بمرض نفسي: "بعد إشهار سبب الطلاق، علِم الجميع أنني عشت، وتحمَّلت مأساة كبيرة، فبعد سرور كبير بالزواج من شخص معروف بالمجتمع بأنه ذو أخلاق عالية ومن أسرة راقية، إلا أن حياتي انقلبت رأساً على عقب، فحالته النفسية كانت مختلفة تماماً داخل المنزل"، تقول أمل التي تسكن بالعاصمة صنعاء.

حاول أهله علاجه دون جدوى، بعد أن خسر عمله في إحدى الشركات لتوقفها عن العمل بسبب الحرب، وبقي في المنزل بلا مال أو عمل، حتى تغيرت حالته النفسية ولم ينتبه أهله لذلك
"كل هذه الحواس فقدتها الطفلة سارة بعد أن استيقظت على القصف، والدموع هي طريقة التعبير الوحيدة التي تملكها، تعيش في خيمة مهترئة، منذ مغادرتها منزلها لم تتلق أي علاج أو رعاية صحية أو نفسية"

دموع كثيرة سقطت من عينيها، وهي تتحدث لرصيف22، عن تجربتها القاسية مع من كانت تظن أنه سيكون ملاذها وحياتها التي كانت تحلم بها في طفولتها: "كان يشتمني ليلاً ونهاراً ويعتدى عليّ بالضرب، وحتى أهله لهم نصيب كبير مما يُذيقني".

حاول أهله علاجه دون جدوى، فهو خسر عمله في إحدى الشركات بعد توقفها عن العمل بسبب الحرب، وبقي في المنزل بلا مال أو عمل، حتى تغيرت حالته النفسية ولم ينتبه أهله لذلك.

ساءت حالته كثيراً فقرر أهله تزويجه، فقد اعتقدوا أنه يتعرض لاضطرابات نفسية بسبب الوحدة، لكن ذلك لم يفده في شيء.

بقيت أمل معه ثلاثة أعوام، لكن معظم حياتها الزوجية كانت تقضيها في منزل أهلها، فكلما تعرضت للضرب أو الطرد تعود إلى منزل أهلها، ثم ترجع إليه تحت إلحاح أهل زوجها.

وتعرَّضت أسماء لضغوطات نفسية وعصبية، جعلتها تعيش في رهاب دائم بسبب ما عاشته مع زوجها.

"ما أصابني بالحسرة والندم الذي سيلازمني ما حييت أنني تطلقت منه وقد أنجبت طفلتين لأب مريض نفسي، لا يُدرك معنى الأبوة وعطفها، فأنا السبب في اختيار أب لطفلتي، متوفٍ وهو ما يزال حيّاً"، تختم أمل حديثها.

فقدت النطق والسمع

في واحدة من ليالي القصف الشديدة لطيران التحالف العربي على مواقع الحوثيين، في مديرية "حرض" بمحافظة "حجة" شمال غربي اليمن، كانت الطفلة سارة حسن (12عاماً) تغطّ في نوم عميق، فقامت مفزوعة لترى النار تلتهب في أحد المباني المجاورة لمنزلها، وزجاج النوافذ بات محطماً إثر غارة جوية لمقاتلات التحالف، فقدت سارة إثرها حاستي السمع والبصر، وفقدت أيضاً القدرة على الكلام، فلم تعد اليوم تتحدث أو تسمع أو ترى شيئاً.

"كل هذه الحواس فقدتها سارة مرة واحدة قبل ثلاثة أعوام، والدموع هي طريقة التعبير الوحيدة التي تملكها سارة، وهي تعيش في خيمة مهترئة، بمخيم المقشام بمديرية أسلم. منذ مغادرتها منزلها لم تتلق أي علاج أو رعاية صحية أو نفسية"، بحسب حديث والدها حسن جابر لرصيف22.

بالكاد يحصل حسن وعائلته على طعام، ويعيشون على ما تمنحهم إياه المنظمات من مساعدات للنازحين، حيث يعاني من مرض القلب، ويحتاج إلى الرعاية الصحية، لكنه لم يعد يملك شيئاً، لا منزل ولا مال ولا عمل أيضاً.

"الآلاف من المدنيين أصيبوا بحالات نفسية واضطرابات، خلال السنوات الأخيرة بسبب إفلاس محلاتهم التجارية، أو فقدان أحد أفراد عوائلهم خلال المواجهات والقصف، وتعرضوا للخوف الشديد، بسبب القصف والنزوح من منطقة إلى أخرى"، يقول الدكتور سامي الشرعبي، مدير مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بالعاصمة صنعاء.

وبحسب حديث الشرعبي فإن الأمراض النفسية تزيد بشكل يومي في اليمن، بسبب تأثير الصراع عليهم، ولأسباب أخرى اجتماعية واقتصادية.

ويشير الشرعبي في حديث لرصيف22 إلى عدم وجود إحصاءات لأعداد المصابين في اليمن أو في المناطق المتضرِّرة، لكن هناك إقبال متزايد على المستشفى بشكل يومي، لافتاً إلى أن الكثير من الحالات يكون عندها اكتئاب أو كرب ما بعد الصدمة أو وسواس قهري، بالإضافة إلى ما تسببه الحروب من رهاب وخوف.

ويرى الشرعبي أنَّ معظم الحالات تتماثل للشفاء وتعود إلى حياتها الطبيعية، في حال إسعافها الى المشفى مبكراً.

وعن التأخر في شفاء بعض الحالات، يرى سامي أن إهمال الأسرة لحالة أبنائها النفسية، والتأخر في عرضها على الأطباء، يجعلها تتعرض لمضاعفات، وتصعّب عملية العلاج، بالإضافة إلى عدم متابعة الأسرة للمريض والعناية به.

"الحياة قاسية وأرغب في الموت"

لم تتجاوز ابتسام وليد الآن الثانية والعشرين من عمرها، أصيبت بحالة نفسية حادة. وكانت قد تزوجت بعد أن أكملت مرحلة الثانوية، بشاب من حارتها في صنعاء القديمة. 

تقول ابتسام لرصيف22: "لم أتذوق طعم السعادة منذ تزوجت سوى أول شهرين فقط، ومن ثم أصبحت أتنقل بين الأطباء النفسيين من جهة، وأيضاً المعالجة بالقرآن الكريم، والرقية الشرعية من جهة أخرى".

"اضطرابات نفسية، قلة النوم، مشاكل مع زوجي، واكتئاب حاد، الأمر الذي تسبب في طلاقي من زوجي مرتين، وقد أقدمت على محاولة الانتحار أكثر من مرة، وكان زوجي ينقذني ومن ثم قام بتطليقي".

وأضافت ابتسام: "كلما أدخل ذلك المنزل، وأنام في غرفتي، تراودني أحلام مخيفة، كعجوز بشعة وثعابين وكوابيس تجعلني أستيقظ فزعة".

"كلما دخلت ذلك المنزل، ونمت في غرفتي، تراودني أحلام مخيفة، كعجوز بشعة وثعابين".

"عندما أذهب إلى الأطباء يقولون إني مصابة باكتئاب، ويصرفون لي علاجات متنوعة لكن لا جدوى منها، سوى جعل الجسم في حالة خمول دائم، ولا أستطيع القيام عندها بأي شيء، وعندما أذهب الى المعالج بالقرآن يقول إنني مصابة بالسحر ويأمر بصرف زيوت نباتية وأدوية لكي أتعافى، لكن لا جدوى أيضاً".

تحلم ابتسام، ربة المنزل المتزوجة منذ ثلاث سنوات أن تعود إلى صحتها، وتتمكن من العيش مع زوجها بسلام، أو أن تموت، حتى لا تتعذب قية حياتها.

"لم أعد أطيق الحياة، وأرغب في الموت في ظل هذه الحياة القاسية، أشعر أنني بت عبئاً على أهلي"، تقول ابتسام وليد.

"أمضغ القات في غرفة منعزلة" 

"كل شيء هنا يؤدي إلى الاضطراب النفسي، حرب وفقر ومجاعة وظروف أمنية متدهورة، لا حدائق ولا متنزهات ولا أنشطة رياضية أو ثقافية"، يقول رياض عقيل.

رياض (24 عاماً)، الذي يعيش في مدينة تعز، يفضل الجلوس في غرفة منعزلة، ومضغ شجرة القات، فأصدقاؤه الذين كان يحبهم، قتلوا في الحرب.

حتى الفتاة التي أحبها تزوجت شخصاً آخر، لعدم قدرته على تأمين المال لخطبتها. ليس ذلك فقط، فقد كان لوفاة والده قبل خمسة أعوام، أثر كبير على حالته النفسية، فبات معقداً من الحياة، ولا يفكر بشيء إلا في كيفية الحصول على نبتة القات ومضغها.

زار الأطباء عدة مرات، وحصل على أدوية كثيرة لكنه لا ينتظم على استخدامها بسبب أعراضها المنهكة لجسمه.

يرى رياض أن الواقع سيء للغاية، كل أحلامه أحرقتها الحرب، وذهب من كان يحبهم، فباتت الدنيا موحشة، وليس هناك ما يبعث على الأمل.

يرى رياض أنّ الواقع سيء للغاية، كل أحلامه أحرقتها الحرب، وذهب من كان يحبهم.

"أدت الحرب بالدرجة الأولى لارتفاع أعداد الحالات النفسية، وتدهور الحالة العامة للصحة النفسية بين اليمنيين"، تقول ريهام محمد، وهي أخصائية اجتماعية، مشيرة إلى أن هناك أسباباً ذاتية، وأسباباً بيئية، ويبدو أن الأخيرة أكثر تأثيراً من غيرها.

واستطردت محمد في حديثها لرصيف22: "هي الحرب وكل مخلفاتها الاقتصادية، والاجتماعية والقِيَميّة، وكرب ما بعد الصدمة الذي بات يعاني منه عدد كبير من السكان".

وتفتقر اليمن إلى مستشفيات نفسية حكومية لعلاج الحالات النفسية، باستثناء مستشفى الأمل للطب النفسي في صنعاء، الذي يدار بالشراكة مع القطاع الخاص، بالإضافة إلى ثلاث مصحات نفسية في محافظات الحديدة وعدن وتعز، وبسبب الحرب لا يستطيع المرضى التنقل من محافظة إلى أخرى للعلاج، كما أن عدد الأطباء النفسيين في اليمن لا يتجاوزون 40 طبيباً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard