يعاني المغترب اليمني في السعودية من صعوبات شتَّى، ففي "بلاد الغربة" ينظر إلى وطنه الممزَّق الذي أصبحت العودة إليه أشبه بالانتحار، وينظر إلى مستقبله المجهول في عمل لم يعد يكفي مردوده المالي لتوفير الحد الأدنى من المصروفات الشخصية والأسرية، في ظل سَعْوَدة الأعمال، وإجبار المغترب على دفع جلّ ماله للكفيل ولمكتب العمل، وبدائل الصحة والترفيه.
"أعيش متخفياً"
بعد أن تخرج وسيم من الثانوية العامة، قرَّر عمّه أن يُدخله المملكة، حتى يتمكن من إعالة إخوانه وأمه، فرح بذلك الشاب العشريني، وباع دراجته النارية التي كان يمتلكها لدفع قيمة "الفيزا"، لعله يتمكن من تغيير حياة أسرته إلى الرخاء بعد فقر مدقع، ويحقق حلمه بالزواج، وبناء منزل على الطراز الحديث في مدينة إب وسط اليمن.
تمكن وسيم قاسم (22 عاماً) من الوصول إلى السعودية، بعد مشقة وعناء في الحصول على جواز سفر وتأشيرة دخول إلى المملكة، ناهيك عن تعلم قيادة السيارة، فمهنته المحددة على الفيزا هي سائق، لكنه الآن يجلس في مسكنه عاطل عن العمل، حال المئات من أقرانه الذين دفعهم الفقر إلى الغربة، في بلد له يد طولى فيما يعيشه اليمن، لكنه لا يمنح اليمنيين المقيمين والعاملين على ترابه أية امتيازات أو تقدير.
"أشتاق لأسرتي وأصدقائي والقات والأغاني الشعبية".
يشعر وسيم أحيانا بالندم على قراره بترك قريته وأسرته، فلو بحث عن عمل في اليمن كان أفضل بالنسبة له، وبات يفتقد لأصدقائه وأسرته، ويتذكر الجلسات الصاخبة بالأغاني الشعبية، والتي لا تخلو من تناول القات.
يحكي وسيم عن أوضاعه المعيشية في السعودية: "لم أجد عملاً كسائق مع الكفيل، وكلما وجدت عملاً، تبدأ الشرطة السعودية بشن حملة لضبط من لم يعمل عند كفيله، وفي المهنة المحددة حسب تأشيرة الدخول، فأجلس دائماً متخفياً، وإذا ما شعرت أنهم سيقبضون عليَّ، أغادر المكان وأعمل في محل آخر".
يطلق وسيم تنهيدة طويلة، ويضيف لرصيف22: "أصبحت أشعر كأنني مطارد في أي عمل أعمل به أو أي مكان أجلس فيه. ينتابني القلق في كل لحظة. حتى أحلام النوم الجميلة تحولت الى كوابيس بأنهم يقبضون علي ويرمون بي في السجن".
"أصبحت أشعر أنني مطارد في أي عمل أعمل به أو أي مكان أجلس فيه. ينتابني القلق في كل لحظة. حتى أحلام النوم الجميلة تحولت الى كوابيس بأنهم يقبضون علي ويرمون بي في السجن"
لم يعد يأمل وسيم في أن تحقق له الغربة آماله وأحلامه، فمنذ أن وصل إلى مدينة تبوك السعودية قبل نحو عامين لم يستطع سداد ما عليه من ديون.
ومنذ نحو شهرين ووسيم محتجز في منزل عمه بسبب فيروس كورونا، ضاق به العيش وطول الانتظار.
يختم وسيم حديثه، مختصراً كل أحزانه وآلامه بجملة واحد، يرددها كل من فارق وطنه: "الغربة كربة".
حال وسيم قد يكون أفضل من غيره من المغتربين؛ فجلوسه في المملكة لنحو عشرين شهراً، وعمله خارج المهنة المحددة يعتبر تحدياً بحد ذاته، في الوقت الذي رحّلت المملكة الآلاف من المغتربين اليمنيين بعد احتجازهم في السجون لعدة أسابيع، بسبب مخالفتهم للوائح العمل، ناهيك عن إجبار عشرات الآلاف منهم على مغادرة المملكة بشكل قسري، بسبب قرارات توطين المهن لعمالها، وفرض زيادة في الضرائب التي يتعين على المغتربين دفعها للبقاء في مهنهم.
ورحلت السعودية عشرات الآلاف من الوافدين اليمنيين الذين فروا من جحيم الحرب في وطنهم الممزق، والذي يعيش كارثة إنسانية هي الأسوأ في العالم، بحسب الأمم المتحدة.
فكل ما يبحث عنه المغتربون اليمنيون هو مكان آمن يعملون فيه دون أن يتعرضوا لغارات طيران التحالف العربي، أو أن يلقوا حتفهم برصاصة غادرة أطلقها أحد أطراف الصراع.
"الكفيل يعاملنا كالعبيد"
"يعاني المغترب اليمني من عنصرية في السعودية، زادت حدتها خلال السنوات الأخيرة بسبب الحرب التي تشهدها البلاد، ويتلقى العامل اليمني شتى أنواع الشتائم من قبل بعض السعوديين، ناهيك أن الكفيل يعامل المغترب معاملة العبد"، يقول أدهم عبد الواحد، معبراً عن قناعة يتبناها العديد من اليمنيين المغتربين في السعودية.
دخل أدهم السعودية في عام 2011 آملاً أن يحصل على وظيفة معلم لمادة اللغة الإنجليزية في إحدى المدارس، فهو تخرج من كلية الآداب بجامعة البيضاء وسط البلاد، لكن الحظ لم يحالفه، فعمل في العديد من المهن الشاقة، في بيع الطلاء، في البناء وفي محل لبيع الحلويات، ليستقر به المقام بعد سنوات من المعاناة، في محل لبيع الأفران والأدوات المنزلية، يمتلكهُ مغترب يمني.
كان أدهم يخطط لقضاء شهر رمضان مع أسرته وأطفاله باليمن، لكن فيروس كورونا حطم أمله بالسفر إلى موطنه، كما قال في حديثه لرصيف22.
"منذ أن دخلتُ السعودية قبل ثماني سنوات سافرت الى اليمن مرتين فقط، فمع الخوف من فقدان العمل، ناهيك عن احتياجات الأسرة، وأيضاً ما يجب دفعه للمملكة سنوياً يزيد عن عشرة آلاف ريال سعودي، ما يعيق عودتي إلى اليمن".
يشتاق أدهم لطفليه كثيراً، لكنه يحاول أن يعوض غيابه الطويل بالتواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي معهما بشكل دائم.
"واقع اليمنيين أليم وصادم"
تقول رئيسة منظمة "تحديث للتنمية"، وديعة عبد الرشيد: "يتحمّل المواطن اليمني صعوبات شتى، ويستدين المال لشراء التأشيرة حتى يغترب بالسعودية على أمل تحقيق عيش كريم له ولأسرته، ولكن بعد تحمل الصعوبات يصطدم بواقع مؤلم، أصعب من الواقع الذي يعيشه في بلده، حيث أن المال الذي يصله من عمله يذهب الجزء الأكبر منه للكفيل السعودي، والجزء الآخر لتسديد رسوم الإقامة، غير الغرامات التي تواجهه هناك في أي مخالفة وأيضاً رسوم مكتب العمل والتأمين الصحي".
وأكدت عبد الرشيد أن معاناة المغتربين اليمنيين تفاقمت بعد القرارات السعودية بسَعْوَدة أغلب الوظائف التي كان يشتغل فيها اليمنيون، والتي أدت الى حرمان اليمنيين من فرص العمل، ناهيك عن خسارة أموالهم وممتلكاتهم، ما اضطرهم للعودة إلى وطنهم الذي يعاني ويلات الحرب.
وما يزيد من معاناتهم، أن الكثير منهم باع كل ما لديه في اليمن من أجل شراء تأشيرة عمل لدخول المملكة، ولم يحققوا أي إنجازات أو أرباح بسبب سعودة الوظائف.
لذلك قام اليمنيون بتوصيل رسالتهم عن طريق وسم "آهات المغترب اليمني"، والذي قاموا عبره بنشر معاناتهم عبر جميع وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل إعفائهم من الرسوم المترتبة عليهم وتحسين وضعهم، ولكن للأسف تم تجاهل مناشداتهم من قبل السلطات السعودية والحكومة اليمنية، ما أدى إلى تدهور حالتهم النفسية والمعيشية.
"يستدين اليمني المال لشراء التأشيرة حتى يغترب في السعودية على أمل تحقيق عيش كريم، ولكنه يصطدم بواقع مؤلم، أصعب من الواقع الذي يعيشه في بلده، حيث أن مردود عمله يذهب الجزء الأكبر منه للكفيل السعودي، والجزء الآخر لتسديد رسوم الإقامة".
وترى الرياض أن قرارها بسَعْودة الأعمال يعتبر صائباً، حيث جاء نتيجة لارتفاع نسبة البطالة في المملكة، وقد اتخذت هذا القرار مع جميع العمالة الوافدة وليس مع اليمنيين فقط.
من جهة أخرى جاء فيروس كورونا كي يزيد معاناة المغتربين، حيث فُرض حظر التجوال في المملكة، والذي أدى الى توقف الأعمال، وتراجع التحويلات المالية التي كان يحولها المغتربون اليمنيون إلى أقاربهم الذين يعتمدون عليها بشكل رئيسي، بعد توقف المرتبات بسبب الحرب الدائرة في البلاد.
وعن الحلول المناسبة لمعالجة أوضاع المغتربين، تقول عبد الرشيد لرصيف22: "وقف الحرب في اليمن، وبناء الدولة المنهارة في كل الجوانب سيسهم في معالجة أوضاع المغتربين، والحدّ أيضاً من الاغتراب".
وأكدت عبد الرشيد على ضرورة تعاون المملكة في تحسين أوضاع المغتربين اليمنيين، من خلال تقديم التسهيلات لهم، واستثنائهم من دفع تكاليف الإقامة والرسوم المفروضة عليهم، ومعالجة مشاكلهم ومشاكل أولادهم، وكذلك أن تقوم الحكومة الشرعية في اليمن بواجبها نحو المغتربين، وإيجاد حلول جذرية لهم ولأسرهم المقيمة في السعودية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...